الحكومة والكمامة

Cover Image for الحكومة والكمامة
نشر بتاريخ

يبدو أن حكومتنا المغربية قد استلطفت الكمامة التي فرضتها علينا – لفترة محددة – جائحة كورونا، واستحسنت الحجر الصحي الذي لازمنا بيوتنا، والذي لا شك استحسنه الكثير منا، لكن كل على طريقته وحسب أهدافه ونياته.

فإذا كان البعض قد رأى فيه استجابة لأمر الله تعالى القائل في محكم كتابه ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، واستجابة لأمر رسوله عليه الصلاة والسلام الذي قال متحدثا عن الطاعون: “إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه” متفق عليه.

وإذا كان البعض الآخر قد وجد فيه فرصة لاستعادة ذلك الدفء العائلي والتواصل والحوار الذي غيبته ظروف البحث عن لقمة العيش من قبل الوالدين؛ أحدهما أو كليهما.

ورأت فيه فئة ثالثة فرصة للوقوف مع الذات ومراجعة الحسابات، بعد أن أدركت أن المنية أصبحت قريبة الخطوات، فقررت تغيير الوجهة وتجديد النية والقصد مع الله القادر المقتدر.

إذا كان الكل قد وظف الحجر الصحي فيما يراه نفعا له ولأهله وذويه، فإن الحكومة رأت فيه مآرب أخرى.

رأت فيه فرصة للحجر على ما تبقى لهذا الشعب المكلوم المظلوم المقهور في بلده من حيز يمارس فيه أبسط حقوقه، فبعد أن غصت جنبات سجونها بمعتقلين خرجوا إلى الشارع ليطالبوا بأبسط حقوقهم في التعليم والتطبيب والعيش الكريم، ها هي ذي تقتدي بجائحة كورونا وتخرج إلى الشعب بمشروع قانون “الكمامة”، المشروع الذي يقضي بحبس وتغريم كل من دعا عمدا إلى مقاطعة بعض المنتوجات أو التحريض على ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فلا حق لأحد أن يعيب أو يحتج أو ينتقد، مشروع يجعل المواطن المغربي نسخة للوحة الصنمية القردية اليابانية التي تحمل عبارة “لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم” لكن بعد تفريغها من فحواها الذي قصد إليه اليابانيون في القرن السابع عشر وإلباسها بلبوس المسؤولين في بلدنا الحبيب، الذي يقتضي ألا تتكلم إلا مؤيدا لهم وألا تسمع إلا منهم وألا ترى إلا بعيونهم.

إن مشروع تكميم الأفواه رغم أنه جاء متزامنا مع كمامة كورونا ومستوحى منها إلا أن هناك اختلافا بين الكمامتين: فكمامة كورونا فرضت على العالم بأسره لا فرق فيها بين مواطن من الدرجة الأولى أو الثانية، لا فرق بين مستضعف من أغلبية الشعب أو مسؤول في قمة هرم الدولة، أما كمامة الحكومة فقد فرضت فقط على المستضعفين من أبناء الشعب الذين غلبهم القهر والظلم وغلاء المعيشة فراحوا يبحثون عن عالم افتراضي – بعد أن ضاق بهم العالم الواقعي – ليكون لهم متنفسا يضعون فيه إصرهم والأغلال التي فرضت عليهم، ويعبرون فيه عن آلامهم وآمالهم.

كمامة كورونا يعلم الجميع أنها فرضت لوقت محدد ثم ترفع بعد ذلك ويعود الإنسان إلى حياته الطبيعية، أما كمامة الحكومة فدائمة بدوام المتسلطين على الرقاب إلا أن يحدث الله أمرا.

كمامة كورونا لباس من ضمن ملابسنا التي نرتديها، خرقة من قماش نستطيع من تحتها أن نتكلم ونعبر ونبوح بما في خاطرنا، بل نستطيع أن نحتج وننتقد كورونا نفسها التي أجبرتنا على ارتدائها، وندعو عليها بأن يرفعها الله عنا، هذا فضلا على أن ارتداءها إنما هو من أجل الحماية والوقاية والسلامة الصحية. أما كمامة الحكومة فهي أغلال صيغت في شكل قوانين تقيد الأفواه والأقلام، وتصادر حرية الرأي والتعبير.

إن مشروع القانون 20ــ22 يعد ضربا صارخا في كل العهود والمواثيق الدولية التي تكفل للإنسان الحق في التعبير عن رأيه بكافة الوسائل بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، كما يعد تناقضا واضحا مع بنود الدستور المغربي الذي ينص الفصل الخامس والعشرون منه على أن “حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها”.

وإذا كان لهذا المشروع من قراءات فإن ما يمكن قوله بصدده أن الحكومة بتبنيها له:

– تثبت للشعب المغربي أن من يسير هذا البلد إنما هم ثلة من أصحاب المصالح والشركات الاحتكارية الذين لا يألون جهدا في سن مثل هذه القوانين لحماية مصالحهم وشركاتهم.

– تزيد من توسيع الهوة بينها وبين الشعب الذي طالما انتظر أي يجد فيها الملاذ والسند، والآذان الصاغية لمشاكله ومعاناته، والرعاية العامة لمصالحه مقابل ما منحها من ثقته وصوته.

– تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن خطاب الحقوق والحريات الذي يلوكه المسؤولون لا يعدو أن يكون طلاء يزين واجهات بيت خرب، يظهر خرابه بمجرد رأي يلوح في العالم الأزرق.

– كما تؤكد أن خطوات المغرب، بفرض مثل هذه القوانين، تعود به إلى الخلف عشرات السنين، إلى تشريعات سنوات الانتهاكات الحقوقية التي عرفت بسنوات الرصاص، وإعادة صياغتها صياغة عصرية تبدو مختلفة عنها في الشكل لكنها في العمق تحمل كل مضامينها مع بعض التزيين لهذه المضامين حتى توهم الشعب أنها أحدثت تغييرات جدرية تضمن له حقوقه وحريته.

إن الظرفية التي يعيشها المغاربة في ظل جائحة كورونا تقتضي عدم طرح أي مشروع لا يخدم المصلحة العامة، والانكباب على طرح مقترحات وحلول، والقيام بمبادرات فعلية للخروج من الأزمة.

بل إن التفكير في وضع ما بعد كورونا الذي لا شك سيعرف تداعيات خطيرة على جل المستويات الاقتصادية منها والاجتماعية والأسرية وحتى الثقافية والسياسية يقتضي تظافر كل الجهود بدل تبديدها، ويقتضي الدعوة إلى وحدة وطنية متماسكة من أجل بناء مغرب جديد، وليس الخروج بقوانين تعمق الجرح وتوسع الشرخ.

يجب على الحكومة – بوجود ظرف استثنائي أو بعدم وجوده – أن تنزل من برجها الاستراتيجي وأن تنبذ الأنانية المستعلية التي تجعلها لا ترى الحلول إلا في السلطوية والتحكمية وإملاء القوانين التي تكبل الشعب وتحد من حريته إلى أقصى الحدود.

“دعونا لا ننسى أبدا أن التهديد هو الفيروس وليس البشر”؛ كلمة وازنة للأمين العام للأمم المتحدة.

لكن دعونا لا ننسى أيضا أن التهديد الحقيقي بعد انجلاء الفيروس هو الفقر والبطالة ومعاناة فئة عريضة ممن فقدوا أعمالهم أو كسدت مشاريعهم… أو ليس الأحرى التفكير في مشاريع تنموية حقيقية بدل مشروع 22ــ20؟؟