الحج : رحلة الروح والجسد

Cover Image for الحج : رحلة الروح والجسد
نشر بتاريخ

لقد اختار الله عز وجل بعض الأوقات والأزمنة لتكون محطة لتلقي رحماته، وفرصة لتنزل فضله ونعمته، وأهاب بنا أن نستغلها فيما يعود علينا بالخير الكثير. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أنس رضي الله عنه:“اطلبوا الخير كله وتعرضوا لنفحات الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمن روعاتكم” 1

وقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر :“ألا إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها عسى أن تصيبكم منها نفحة فلا تشقوا بعدها أبدا”.ومن هذه الأيام الفاضلة ومواسم الخير والبركات أيام الحج التي يقول الله عزوجل عنها:وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير 2

أمر الله عز وجل نبيه إبراهيم عليه السلام بدعوة الناس للحج، وذلك على قلتهم آنذاك لكنها حكمة الله التي سبقت فكان النداء ولا يزال للناس جميعا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويكون حج المسلمين استجابة مستمرة لذلك النداء الرباني الخالد وإحياء لذكر الله سبحانه وتعالى الذي هو روح العبادات كلها.

الحج تأدب مع الله عزوجل

قال الله عزوجل لسيدنا إبراهيم عليه السلام :وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود 3 أمر الله عزوجل نبينا إبراهيم عليه السلام بتطهير البيت، فهو طاهر حسًّا ومعنى، فيجب أن يحرص الزائر، ضيف الرحمن، على الانسجام مع طهارة ذلك المكان فيكون بدنه طاهرا نظيفا وأن تكون أعماله كلها إقبال على الله عزوجل، فإذا كان الوقت في حياة المسلم نفيس، فهو في أيام الحج المعدودات أنْفس فليحرص الحاج على استغلاله مستغرقا في الذكر وقراءة القرآن والصلاة وسائر الطاعات التي يقبل بها الإنسان على ربه طالبا قربه فيجيبه الله عزوجل:“…فلا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته صرت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه”

الحج : مدرسة الصبر

قال الله عزوجل :الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب 4 إنها مدرسة لامتحان النفس على الصبر، إذ يخرج الجسم والنفس عن مألوفهما من رخاوة العيش، ويوضعان في محك التربية. كيف أصبر أنا الإنسان على اختلاف الطبائع و نقص في الأخلاق وقسوة في المعاملات؟

أول ما يشتكي منه الحاج عند رجوعه من تلك الديار المقدسة : غلظة النفس البشرية وطبعها، صخب وجدال لفظي ومعنوي، قد تحول بين الحاج وأسمى معاني تلك الزيارة ألا وهو تربية النفس وكبحها عن مألوفاتها.

فكيف أكون أنا الحاج منبعا للرحمة والرفق في تعاملي، فأخرج عن دواعي الغضب وأساهم في بث روح الإحسان في أفضل منزل وعند أكرم مضيف؟

الحج مناسبة عظيمة للتعارف والتواصل والصحبة الخيرة بين المسلمين، فكيف أسعى لتحقيق ما انتقض من عُرى المحبة ليعود الحج إلى المعنى الذي كان له في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

كيف أحرص على أفضل عبادة ألا وهي خدمة المسلمين، فأكون أول من يسعى لراحتهم مستحضرًا حرمتهم عند الله عزوجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :“حرمة المؤمن أعظم عند الله من حرمة الكعبة”. بل كيف أستحضر كرم الله معي وتغاضيه عن هفواتي، فأبدأ بالظن الحسن بالمسلمين فأسامح وأتغاضى عن إساءة الآخرين إلي، فأستحق بذلك بشارة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه ‏ ‏أبو هريرة ‏ ‏رضي الله عنه ‏ ‏قال : ‏

‏سمعت النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يقول: “‏من حج لله فلم ‏ ‏يرفث ‏ ‏ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه” 5

الحج علم وعمل

إن فقه الحج لا يقل أهمية عن الجانب القلبي من إقبال على أداء مناسكه ومراقبة الله عزوجل وإخلاص النية له ، فالعلم إمام العمل، يتعلم الحاج ما به يكون حجه صحيحًا، فيطالع ويحضر للقاءات تدريبية للحجاج على مناسك الحج ليستفيد ويتهيأ لأداء تلك الفريضة لأن الله عزوجل يحب أن يُعبد عن علم.ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.ففي حديث يقول صلى الله عليه وسلم :“خُذوا عني مناسككم” 6 يحرص الحاج على إتباع السنة الكاملة فيتحرى التيسير ورفع الحرج خاصة في الأعمال التي فيها اختيار، ونحن نرى ما يقع من أحداث مؤلمة سببها إصرار الحجاج رغم الاكتظاظ على القيام بأمر ما في وقت واحد رغم وجود سعة في الوقت. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول أحدهم:فعلت كذا قبل كذا)فيقول لهم:“لا حرج”عن ‏ ‏ابن عباس ‏ رضي الله عنهما “‏أن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏سئل في حجته فقال “ذبحت قبل أن أرمي “‏فأومأ ‏ ‏بيده قال“‏ولا حرج “ قال“حلقت قبل أن أذبح “‏فأومأ ‏ ‏بيده “ولا حرج” 7 ولا عليك أختي إن اعترضك عذر الحيض أثناء حجك فإنما هي طبيعة المرأة فلا تفعلي كما تفعل بعض النساء من أخذ حبوب منع الحمل لإيقاف دم الحيض. ‏عن ‏ ‏عائشة ‏ ‏رضي الله عنها ‏ ‏قالت:‏خرجنا مع رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏في أشهر الحج وليالي الحج وحرم الحج فنزلنا ‏ ‏بسرف)– مكان -قالتفخرج إلى أصحابه فقال:)“‏من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ومن كان معه الهدي فلا”قالتفالآخذ بها والتارك لها من أصحابه)قالتفأما رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏ورجال من أصحابه فكانوا أهل قوة وكان معهم الهدي فلم يقدروا على العمرة.)قالتفدخل علي رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏وأنا أبكي فقال:)“ما يبكيك يا ‏ ‏هنتاه”‏قلت سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة)قال:“وما شأنك؟”قلت لا أصلي )قال:“فلا ‏ ‏يضيرك ‏ ‏إنما أنت امرأة من بنات ‏ ‏آدم ‏ ‏كتب الله عليك ما كتب عليهن فكوني في حجتك فعسى الله أن ‏ ‏يرزقكيها” قالت فخرجنا في حجته حتى قدمنا ‏ ‏منى ‏ ‏فطهرت ثم خرجت من ‏ ‏منى ‏ ‏فأفضت ‏ ‏بالبيت) ‏قالتثم خرجت معه في النفر الآخر حتى نزل ‏ ‏المحصب ‏ ‏ونزلنا معه فدعا ‏ ‏عبد الرحمن بن أبي بكر)‏ ‏فقال:“اخرج بأختك من ‏ ‏الحرم ‏ ‏فلتهل بعمرة ثم افرغا ثم ائتيا هاهنا فإني أنظركما حتى تأتياني”قالتفخرجنا حتى إذا فرغت وفرغت من الطواف ثم جئته ‏ ‏بسحر،)‏فقال:“هل فرغتم؟”فقلت نعم، فآذن بالرحيل في أصحابه فارتحل الناس فمر متوجها إلى ‏ ‏المدينة.) 8

الحج عرفة

عن طلحة بن عبد الله رضي الله عنهما قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :)“ما رُؤي إبليس يومًا هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أبخس ولا أغيظ من يوم عرفة وذلك لما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب إلا ما رأى يوم بدر.”قالوايا رسول الله وما رأى يوم بدر؟ )قال:“أما إنه رأى جبريل يدعو الملائكة”يالها من رحمات تتنزل من ربٍّ كريمٍ رحيمٍ بعباده يتودد إليهم بالعفو عن الذنوب وتقبل الأعمال وقبول عودتهم إليه منكسرين نادمين على ما عملوا وعازمين كل العزم على الإقبال على ربهم سبحانه وتعالى.

عن نافع رحمه الله عن بن عمر رضي الله عنهما قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :)“إن الله تعالى ينظر إلى عباده يوم عرفة فلا يدع أحدًا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا غفر الله له.”فقلت)–أي ابن عمر-للناس جميعا أم لأهل عرفة)فقال :“للناس جميعا”فيا له من فضل يحثنا على التأدب مع أيام الله الفاضلة والتعرض لنفحاتها حتى وإن لم نكن ممن يقف على صعيد عرفات، نستشعر فضل تلك الأيام والساعات ونشارك إخواننا الحجاج ذلك الشعور بأن الله واحد لا شريك له، وأن مصيرنا إليه، ويعظم يقين الحجاج في عظم رحمة الله، فعن بن عمر رضي الله عنهما أنه قال :ألا إن أعظم الناس جُرما من انصرف من عرفات ويرى أن الله عزوجل لم يغفر له.)

فاللهم ارزقنا حج بيتك الحرام وزيارة لحبيبك ومصطفاك صلى الله عليه وسلم.


[1] أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب “الفرج بعد الشدة”.
[2] الحج الآية27.
[3] الحج الأية27.

[4] البقرة الآية197.
[5] أخرجه البخاري.

[6] رواه الإمام مسلم والنسائي
[7] أخرجه الإمام البخاري.
[8] أخرجه الإمام البخاري.