الحجاب بين العادة والعبادة

Cover Image for الحجاب بين العادة والعبادة
نشر بتاريخ

منذ عقود من الزمان بدأت أفواج من المجتمع الإسلامي تعود إلى دينها، وظهرت صحوة إسلامية كبيرة في بلاد الإسلام يجليها تعمير المساجد وانتشارها، وإقبال الناس على التفقه في دينهم والتشبث بمرجعيتهم الفكرية، وتنظيم المعارض والندوات… ولم تكن المرأة بعيدة عن هذه النهضة، بل شاركت مشاركة فعالة، وأبرزت دورها في المجتمع، إذ أقبلت على فهم دينها تستوعبه وتجليه في سلوكها اليومي. وكان الحجاب مظهرا من مظاهر هذه الإفاقة الجديدة. وبالحجاب انخرطت المرأة في تحريك دواليب المجتمع في الأسرة والمدرسة والجمعيات ومرافق اجتماعية لا حصر لها. سمتها الحسن وعفتها وحافظيتها، جلبت أنظار الكثيرات من الغافلات إلى ارتداء الحجاب. لكن الابتعاد عن حظيرة الإيمان وعن الفهم العميق “لآيات النور”، والاندماج في المجتمع بحصانة هشة وقلب فارغ وزاد معرفي قليل، والتخلي عن الجماعة المؤمنة، كلها أسباب جعلت الحجاب الذي نراه ونسمع عنه لا يعبر عن جوهره الحقيقي وماهيته الفعلية ومقصديته الشرعية، واختلط الحابل بالنابل، وأسيء إلى الحجاب، وإلى المؤمنات الحافظات، إذ لم يعد يعبر عن الحياء والعفة والطهارة، بل شابته أخلاقيات تتنافى منافاة صريحة وصارخة مع غايته.

ولتمييز الخبيث من الطيب ووضع الأمور في نصابها، كان واجبا علينا أن نجلي الحقيقة التي تغيب دائما مع الإعلام البشري الرهيب – نميمة وبهتانا وزورا – ومع الإعلام السمعي البصري الذي أبرز المرأة المتحجبة بطريقة شائهة على أنها النموذج المحتذى، والحقيقة غير ذلك.

ومن ثمة أصبحنا نرى أن الحجاب أصبح له أكثر من داع، وألف غاية وهدف. وأصبح لدينا أنواع من الحجاب، وأصناف من المحجبات، أمكنني تقسيمه إلى خمسة أنواع:

1- حجاب عادة

هذا النوع من الحجاب يفرضه الآباء على بناتهن، ويجبرهن على ارتدائه دون أن يدركن معناه وجوهره، ودون أن يقتنعن به، بل تعتبرنه قيدا لحريتهن في إظهار جمالهن، ويعزب عنهن الوصول إلى روحه، ويظل بعيدا عن أن يلامس وجدان المرأة. وكلما هبت نسائم الحرية مدوية، انتزعنه، ثائرات رافضات معبرات عن القهر والكبت.

2- حجاب مناسبات

وهو حجاب تضعه المرأة في مناسبات معينة؛ كأداء صلاة الجمعة أو العيدين أو التراويح أو الصلوات المفروضة.. وتطرحه بعد قضاء هذه المهمات الدينية جانبا وإلى حين. ولعله يُظهر تذبذب شخصية المرأة بين حالتين؛ بين أن تكون من المؤمنات الحافظات العفيفات، وبين أن تكون من المتبرجات الكاسيات العاريات.

3- حجاب زينة

وهو لباس اتخذته المرأة وسيلة للتزين به لِمَا رأته من الجمال الذي يضفيه على الفتيات المؤمنات، ظانة أن الحجاب وحده قمين بمسحة الجمال هاته.

ولعمري إنما الجمال كامن في تلك العفة، وذاك الحياء، وليس اللباس إلا ساتر للجسد، ومصدر الجمال والنور البادي على وجوه أولئك النساء هو نور الإيمان؛ حينما يزول، يزول الجمال ويندثر. ومرجع هذا القبول في الأرض يجسده قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى إذا أحب عبدا دعا جبريل، فقال إني أحب فأحببه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدا دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا، فأبغضه فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانا فابغضوه، فيبغضه أهل السماء ثم توضع له البغضاء في الأرض” (1).

وهذا الصنف من الحجاب لا يمت بصلة للحجاب الشرعي -كما سنفصل شروطه- في مقصديته أولا، وفي وضعه ثانيا؛ بحيث غالبا ما تعتمد المرأة هنا في إظهار زينتها على تنويع المساحيق والعطور، أو تلبس لباسا شفافا أو ملتصقا بجسدها يصف أعضاءها، فتسقط حينئذ مشروعية ارتدائه.

4- حجاب نفاق

وهو أشد الأنواع شرا وخطورة على المجتمع، حين تتخذه الفتاة وسيلة لإظهار الإيمان وإخفاء المرض. ووسيلة للوصول إلى غاية ما، وذلك كأن ترتديه لتجعل الشباب يطلبها للزواج، تخدع به الرجال ليثقوا في عفتها وطهارتها، فــ”قد يكون الحجاب والزي أحبولة منافقة تروج بها الفتاة البائرة الحائرة لنفسها ظاهرة بمظهر الطهر. أي خفاء وراء ذلك الظهور؟ من أية جذور باطنية يتغذى المظهر؟” (2).

ولننصت إلى الأستاذ عبد السلام ياسين وقد وضع يده على مكمن الداء وموطن هذه العلل كلها، وقد جمعها ولخصها في كلمات جامعة مانعة؛ يقول: “تعبر بحجابها وزيها عن أشواق إسلامية وروح المسجد لَمَّا تتمكنْ في طواياها. فرت من الهوس والاختلاط، لكن لم تمر بمجالس الإيمان لتروح روح الإيمان. وأخرى أعجبها زي المتحجبات ينوعنه فيكون زينة من الزينة. وأخرى وجدت راحة ضميرها، وحسبت أن صلحها مع الله يتلخص في ستر أجزاء من جسمها. فاللباس الإسلامي المحتشم رمز في نفس اللابسة لما يعتلج في ضميرها وما يختصم، وهو في عين المراقب السياسي مقياس لقوة المد الإسلامي” (3).

إن وجود صنوف من المنافقات في صفوف المومنات يرج الصف الإسلامي وينخر المجتمع من الداخل، ويُرضي خصوم وأعداء الإسلام الذين يشنون في كل وقت حملاتهم المسعورة ضد حجاب المسلمات، ويرضي بالأخص من يرمي إلى أن ينشر إسلاما ممسوخا وممسوحا لا جوهر له وإنما يعتني بالأشكال والأعراض فقط.

5- حجاب عبادة

وهو الحجاب المطلوب، وقد فصل القرآن الكريم الحديث عن الحجاب وغايته في سورة النور. فحين نستقرئ كتاب ربنا نجده قد جعل الغاية من ارتداء الحجاب هي إخفاء الزينة ومنع الإذاية عن النساء، وحفظ العرض، وتحقيق العفة والحياء.

فلما كان الإسلام حريصا على حماية المجتمعات من الفساد، وانتشار الرذيلة، واختلاط الأنساب، فقد شرع الحجاب دفعا للفتن، وحفاظا على وحدة المجتمع وتماسكه.

إن غاية الشرع من الحجاب هو إخفاء زينة المرأة عن الرجال الأجانب، وهو “إذن صريح للمرأة المسلمة بالخروج من بيتها لحوائجها وكسبها ومشاركتها العامة في الحياة؛ إذ لولا ضرورة الخروج، ومشروعية الخروج، لما كانت هناك حاجة لتوصية المرأة المسلمة بستر زينتها وصون جسدها. إنما الصون وواجب الستر اتقاء للأنظار الأجنبية خارج بيتها أساسا” (4).

لذلك أحاط الإسلام هذا اللباس بجملة شروط تجعل الزينة الفاتنة خفية، بعيدة عن الأعين المتربصة، فأمر بتغطية الصدر وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ (سورة النور. من الآية 31)، وفي لفظ الضرب مبالغة في الصيانة والستر، ونهى عن الضرب بالأرجل لما فيه تحريك لشهوة الرجال الداخلية الكامنة فقال: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ، ذلك بأن الخيال يكون “أقوى أحيانا في إثارة الشهوات من العيان، وكثيرون تثير شهواتهم رؤية حذاء المرأة، أو ثوبها، أو حليها أكثر مما تثيرها رؤية جسد المرأة ذاته” (5). ونهى أيضا عن ترخيم الكلام وترقيقه فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا (سورة الأحزاب. الآية 32).

كما لا ينبغي للمرأة أن تتجمل وتبالغ في إظهار زينتها بقصد الفتنة وتهييج شهوات الرجال: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا (سورة النور، الآية 31)، قال المفسرون: “الوجه واليدين” (6). ولا يفهم من النص أن الإسلام يقاوم رغبة المرأة الفطرية في الزينة، “ولكنه ينظمها ويضبطها، ويجعلها تتبلور في الاتجاه بها إلى رجل واحد – هو شريك الحياة – يطلع منها على ما لا يطلع أحد سواه، ويشترك معه في الاطلاع على بعضها المحارم” (7).

كما أضاف الإسلام غض البصر، باعتبار مد البصر وتركه على عواهنه أحد المنزلقات إلى الزنا: وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ (سورة النور، الآية 31). وحين يبيح الإسلام للنساء العجائز اللواتي لا يطمعن في الزواج ولا يرغبن فيه لانعدام الشهوة فيهن وضع ثيابهن، يَشترط فيه تبرجا دون إظهار زينة، فيرشدهن إلى العفة لما تحمله من خير وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (سورة النور، الآية 31). فالقضية إذاً قضية إخفاء الزينة والإبقاء على الظاهر منها.

وخلاصة القول إننا بحاجة إلى تصحيح تلك الأشكال الدخيلة، بنشر المفهوم الصحيح للحجاب وإظهار مقصدية الشرع من مشروعيته، وما يُحاك ضد الإسلام من هذه الزاوية بالذات حتى تكون المرأة على وعي بأمر دينها. وكي لا تكون مقلدة لما يُعرض ابتغاء تزييف الحقائق، وغير منجرفة وراء زينة الحياة الدنيا وشهواتها الفانية؛ فكتاب الله وسنة رسوله هما المبينان لما ينبغي أن تكون عليه المرأة المسلمة الراغبة فيما عند الله عز وجل من الجزاء والثواب.


[1] رواه البخاري ومسلم، رياض الصالحين، ص: 90.

[2] تنوير المومنات، عبد السلام ياسين، دار البشير للثقافة والعلوم -طنطا- مصر، الجزء الثاني ص: 110.

[3] المرجع نفسه، ص: 110.

[4] المرجع نفسه.

[5] في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، الطبعة الأولى 1972 ص: 2514.

[6] فأما ما ظهر من الزينة في الوجه واليدين فيجوز كشفه. لأن الوجه واليدين مباح لقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر “يا أسماء إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا -أشار إلى وجهه وكفيه-” في ظلال القرآن لسيد قطب ص: 2512 وينظر صفوة التفاسير لمحمد علي الصابوني، دار الكتب العلمية، المجلد الثاني ص: 335.

[7] في ظلال القرآن لسيد قطب ص: 2512.