الجهاد والنصر ينبثقان من رحم الأسرة المؤمنة

Cover Image for الجهاد والنصر ينبثقان من رحم الأسرة المؤمنة
نشر بتاريخ

رمضان شهر الخير والبركة حل بأنواره وبركاته، أيام عظيمه اصطفاها الله للمؤمنين وجعل أجرها خاصا به. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه” [رواه البخاري ومسلم].

ولأن طوفان الأقصى أعاد حساباتنا وعمق فينا الأسئلة حول من نحن؟ وماذا نريد؟ فقد وجدنا أنفسنا أمام نماذج فريدة، طفرة نوعية في الإنسانية، تُعرض قصصها أمامنا من الأسر الفلسطينية، التي تجدها مرابطة لعشرين أو ثلاثين بل وأربعين سنة. أسرٌ الزوج فيها معتقل، أسير بعيد عن الأهل، الأولاد والزوجة، أو زوجة لأسير لم يكن حاضرا حين عُقد القران، نساء اخترن طواعية أن يرابطن بأرواحهن لسنين طوال مواساة واقتحاما لعقبات الجهاد ضد الظالمين.

نستحضر هذه الأسر والنماذج في هذه الأيام المباركة لنعيد السؤال: عن أي أسرة نبحث؟ أي علاقة يجب أن تجمع أفرادها؟ أفقط الوجبات وما لذ وطاب من الأطباق على مائدة الإفطار؟ أم لابد هناك بعد آخر؟

عن ذلكم البعد الجهادي الأخروي نبحث! بعدٌ نواته الأسرة؛ متمثلا أولا في الزوج “الرجل” الذي يستنبط دوره من قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6]، ليكون همه وشغله الشاغل كيف يسمو بأسرته إلى رضى الرحمن في كل حال وحين؛ يٌذكِّر بالله، ويقوم بدوره التربوي الدعوي داخل أسرته، يَأُمُّ الصلاة ويدعو إلى الصلاة في المسجد، ليكون النموذج الحي في السلوك داخل بيته، كما هم إخوتنا هناك، اللذين باعوا الدنيا وجادوا بأنفسهم وحريتهم وبأرواحهم، نعم هم دروس حيّة على الأرض في صدق الطلب.

ولتصير الزوج “المرأة” الحاضنة، المخلصة، الوفية، التي تستنبط دورها من قوله صلى الله عليه وسلم: “كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه، والأمير راعٍ، والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولدِه، فكلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤول عن رعيَّتِه” [متفق عليه]. فتؤدي أمانه حفظ أنفس الأبناء والأسرة؛ بدءا من فتن برامج الإعلام المسارعة، خاصة في هذا الشهر الفضيل، لإنتاج مواد التفسخ الأخلاقي، التي تريد لهذه الأجيال ولأبناء المسلمين الذلة والتفاهة وموت الهمة. هي أم وزوج صائمة قائمة ناصحة، مقتصدة، متصدقة… هي نموذج لبناتها وأبنائها في حب الدين والأوطان والخـَلق أجميعن، تمشي بموازاة على خطى أختها المجاهدة، زوجة الأسير والشهيد، والأرملة، والأم الصابرة في الخيمة الغزيّة تحت صقيع البرد؛ متحملة الشدة والشدائد نصرة لدينها ورفع لرايته، وقد فازت في الدنيا والآخرة إن شاء الله تعالى.

في هذا الشهر الفضيل يتيسر الاجتماع بشكل دائم لأفراد الأسرة المسلمة في الفطور والأسحار؛ أوقات مباركة، لتتمثل الغاية السامية، التي هي الانجماع على الله، مكونين ثلة مؤمنة، أو لنقل جماعة وأمة مصغرة، لعبادته، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون [الذاريات: 56]، هو ذاك الهدف الأسمى للأسرة المؤمنة؛ “الانجماع على الله”؛ يتعاون أفرادها في محبة بينهم وحبا في المولى عز وجل ونبيه صلى الله عليه وسلم، ليسموا بشكل جماعي إلى مراتب الإحسان، فيصبح هذا الشهر الفضيل رباطا أسريا بامتياز، نصوم يومه ونفطر جماعة بعد مغربه، ونستكمل التبتل والعبادة مجتمعين ليلا.

ولأننا أمة واحدة، ونحن نعيش هاته الفترة التاريخية المفصلية مستبشرين بالفتح المبين، لا يسعنا إلا أن نربط حالنا ومقالنا في كل وقت وحين ومناسبة بطوفان الأقصى أو طوفان النصر القادم بإذن الله، لنجدد في أنفسنا الهمة واليقين. نصر وجهاد ينبثقان أولا ولابد من نواة ورحم “الأسرة المؤمنة”.

هذه الأسرة المسلمة التي جعل الله أصلها ومادتها، محبةٌ ورحمةٌ بين زوجين مؤمنين، كما قال عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21]. هي -سبحان الله- آية من آياته؛ في تعاضد أفرادها وإيمانهم وصدقهم، قوة عجيبة قادرة على التغيير إن نحن فهمنا دورها وأعدنا لها البوصلة، وجعلناها المدرسة المحمدية الأولى، أولا في تثبيت الفطرة السليمة والعقيدة، ثم في زرع الأخلاق، فتصبح لبنةً جهادية للتغيير، فلا جهاد بلا أفراد وجماعات، ولا أفراد بلا أسر قوية مُعَدة أحسن الإعداد.

إن الأسرة بأفرادها هي جوهر ومنطلق وسلاح التغيير، لذا لا ننسى في هذا الشهر العظيم وأرواحنا تستمطر الرحمات وتستشعر النفحات وتعيش سكينة الصوم والصيام والطاعات، أن نفهم ونعمل أيضا على تغيير العادات وندحض الملذات، لنطوي تاريخ التقاعس وضياع الأوقات، قال عز وجل: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11]. هذا التغيير الإنساني يبدأ من نظام البيت وبرنامجه وخطته وأهدافه، آباء وأبناء، فيتغير المجتمع وتسمو الغاية والطلب وتُفتح بقاع الله ليُستخلف المؤمنون.