في كل دخول مدرسي أو جامعي، أو مع صدور أي تقرير وطني أو دولي عن واقع المدرسة والجامعة العمومية، بل وبدون مناسبة في كثير من الأحيان؛ يطرح سؤال جودة التعليم والتعليم العالي وتكافؤ الفرص في المغرب، كما تطرح أسئلة عن التعليم الذي يعكس طموح الشعب المغربي بتحقيق تنافسية حقيقية مع الدول الرائدة نظرا لما يتوفر عليه البلد من إمكانات مادية وبشرية تمكنه من تبوؤ المراتب المتقدمة شكلا ومضمونا.
واقع المنظومة التعليمية: إصلاح لا ينتهي
منذ أكثر من نصف قرن، يعيش التعليم المغربي فيما يشبه «الإصلاح الدائم»، حيث تتوالى المخططات والاستراتيجيات دون أن يتحقق التحول المنشود. فمن الميثاق الوطني للتربية والتكوين (1999) إلى الرؤية الاستراتيجية 2015-2030، مرورا بالبرنامج الاستعجالي، وصولا إلى القانون الإطار رقم 51.17، ظل الخطاب الإصلاحي يسبق الممارسة، بينما النتائج على الأرض تراوح مكانها.
تشير المعطيات الرسمية الصادرة عن وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة في تقريرها عن حصيلة الموسم الدراسي 2023-2024، إلى أن عدد المتعلمين بالمغرب تجاوز 7,9 ملايين تلميذ في التعليم العمومي، ومليون ومائة ألف في التعليم الخصوصي. غير أن معدل الهدر المدرسي ما يزال مرتفعا، إذ سجلت مغادرة ما يزيد عن 300 ألف تلميذ سنويا في المستويات الإعدادية والثانوية، فيما لا تتجاوز نسبة التلاميذ الذين يستكملون تعليمهم الثانوي 45% من مجموع المسجلين في الابتدائي.
ورغم تخصيص أزيد من 97 مليار درهم لقطاع التعليم في ميزانية هذه السنة، وقرابة 86 مليار في ميزانية 2025 أي أكثر من 15% من الميزانية العامة، فإن جودة التعلمات لا تعكس هذا الاستثمار المالي الهائل، كما سبق للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، أن أكد ذلك في “التقرير الوطني حول جودة التعلمات بالمغرب”، لسنة 2023.
كما أكد المجلس ذاته في تقاريره للسنة التي تلتها أن أكثر من 70% من تلاميذ السنة الرابعة ابتدائي لا يستطيعون قراءة نص بسيط بالعربية أو الفرنسية، وأن التحصيل في الرياضيات والعلوم في تراجع مستمر مقارنة بالمعايير الدولية مثل تقرير PISA وTIMSS كما ورد في تقرير للمندوبية السامية للتخطيط لسنة 2023.
وسط هذه الأرقام الثقيلة، يظل المشهد العام متناقضًا: ملايين التلاميذ في الفصول، آلاف الأساتذة في التكوينات، مئات اللقاءات التربوية، ومليارات الدراهم المصروفة، ومع ذلك لا يزال سؤال الجدوى معلقًا في الفضاء العام: ما الذي يجعل التعليم المغربي عاجزًا عن تجاوز دائرة «إصلاح الإصلاح»؟
الإكراهات البنيوية.. أزمة إرادة وتصور
تختزل أزمة التعليم في المغرب، غالبا، في ضعف الموارد أو الاكتظاظ أو نقص التجهيزات وأيضا في غياب الجودة، كما يؤكد ذلك الواقع قبل التقارير الوطنية والدولية. غير أن جوهر الإشكال، يكمن في غياب إرادة سياسية حقيقية للإصلاح، وتبعا لذلك غياب رؤية وطنية واضحة المعالم، فتذبذبت الخيارات اللغوية والبيداغوجية، وهيمن منطق الإدارة والضبط والتحكم على منطق التربية.
تواصل فرنسة المواد العلمية تحت شعار “التناوب اللغوي” إثارة الجدل داخل المجتمع التربوي، بعدما أضحت في الواقع فرنسة إجبارية لا تراعي المستوى اللغوي للتلاميذ ولا قدرات الأطر التعليمية. أساتذة العلوم في الإعدادي والثانوي يشتكون من ازدواجية لغوية تفقد التلميذ التركيز، فلا هو تمكن من اللغة الفرنسية، ولا أتقن المفاهيم العلمية بلغته الأم.
أما في الجامعة، فالمعضلة تتجاوز اللغة إلى الهوية البيداغوجية نفسها. فنظام التعليم العالي يعيش ارتباكًا واضحا بين نظام الإجازة والماستر والدكتوراه (LMD) الذي أثبت محدوديته، وتجربة “الباشلور” التي لم تصمد سوى عام واحد قبل أن تلغى بقرار رسمي سنة 2023. وهي تجارب تترجم، في العمق، حالة من الارتجال المؤسساتي والتجريب المستمر دون تقييم علمي مسبق أو بعدي، وقد جاء ذلك في عرض حول تقييم تجربة الباشلور في مجلس النواب سنة 2023.
وتبقى نسبة %49 من الطلبة الذين يغادرون الجامعة دون الحصول على أي شهادة، نسبة مقلقة، في وقت لا يتجاوز معدل المردودية الداخلية للجامعة 20%. فضلا عن أن مساهمة البحث العلمي المغربي لا تتعدى 1.5 في الألف من الإنتاج العلمي العالمي وفق حديث وزير التعليم العالي إبان عرض مشروع الميزانية الفرعية بمجلس النواب لسنة 2024.
من جهة أخرى، ووفق المصدر ذاته ما زالت الفوارق المجالية تكرس لا مساواة صارخة في الحق في التعليم، حيث إن نسبة الولوج إلى التعليم الأولي في المدن تتجاوز 90%، بينما لا تتعدى 60% في القرى، كما أن أكثر من 30% من المؤسسات التعليمية في الوسط القروي تفتقر للماء والكهرباء والمرافق الصحية.
الآفاق الممكنة.. من الإصلاح التقني إلى الإصلاح المجتمعي
أمام هذا الواقع، يرى مهتمون بالمجال أن الاكتفاء بالمراجعات التقنية أو البرامج المستوردة لم يعد مجديا، إذ إن الأزمة في جوهرها حضارية ومجتمعية، تتعلق بتصوّرنا للإنسان، وللأدوار التي يجب أن تؤديها المدرسة في بناء الوعي، وإعادة الاعتبار للقيم والمعنى في التربية.
كما يرون أن أي إصلاح حقيقي للتعليم لا يمكن أن يبنى من فوق، بل يجب أن ينبع من حوار وطني مجتمعي شامل تشارك فيه الدولة والمجتمع المدني والفاعلون التربويون والأسر والمتعلمون أنفسهم، فالإصلاح التربوي ليس قرارا إداريا، بل تعاقد اجتماعي جديد حول الإنسان والمجتمع والمعرفة.
من هذا المنطلق، وفق هؤلاء المهتمين، فإن الحوار الوطني حول التعليم يصبح مدخلا أساسيا لتجديد الرؤية المشتركة للمغاربة حول مدرستهم، وهو حوار يتجاوز اللغة التقنية إلى سؤال القيم والهوية والمستقبل، لأن المدرسة ليست فقط مكانا لتلقين المعارف، بل هي أيضا فضاء لبناء المواطن الحر والمسؤول.
ثانيا، لا بد من إرادة سياسية للإصلاح: فكل إصلاح تربوي، مهما كانت غاياته، يظل رهينا بمدى توفر إرادة سياسية واضحة ومستمرة، قادرة على حماية الإصلاح من تقلبات الظرف السياسي، وضامنة لتعبئة الموارد البشرية والمالية الضرورية. الإرادة السياسية هنا تعني تبني التعليم كأولوية وطنية في السياسات العمومية، وكرافعة للتنمية الشاملة، لا مجرد قطاع من بين قطاعات.
المطلوب اليوم: هو إصلاح وطني بهوية واضحة ويعيد الاعتبار للمربي لا كمنفذ للتوجيهات، بل كشريك في صياغة السياسات. إصلاح يتجه إلى دمقرطة التعليم لا في الولوج فقط، بل في الحق في تكوين ذي جودة.
إن التعليم في المغرب يقف اليوم على مفترق حاسم: إما أن يستمر في إعادة إنتاج نفس الإخفاقات داخل دائرة الإصلاح الدائم، أو أن يجرؤ على التأسيس لنموذج تربوي وطني يربط بين الجودة والهوية، والمعرفة والقيمة، والإنصاف والفعالية.