التربية على الرفق وأهميتها في التغيير

Cover Image for التربية على الرفق وأهميتها في التغيير
نشر بتاريخ

كثيرة هي الثورات التي نجحت في وصول أصحابها إلى السلطة وكان القاسم المشترك بينها هو العنف، وتصفية الحسابات، وإراقة الدماء. فهل يكون التغيير الإسلامي نسخة مشوهة عن مثل هذه الثورات؛ فيهدر دماء من كانوا في السلطة اليوم ومن تسببوا في قتل الأبرياء وسلب أموالهم؟ وكيف سيتعامل جند الله غدا بعد وصولهم إلى الحكم وهم يحملون مشروع تطبيق الشريعة الإسلامية؟ وإذا كان حقن دماء المسلمين سنة نبوية، ألا يمكن اعتبار التؤدة والرفق بالخصوم والأعداء والمنافقين اليوم وغدا ضعف للحركة الإسلامية؟

أسئلة كثيرة بسطها الإمام عبد السلام ياسين في مؤلفاته، وركز على التؤدة، وهي التريث وعدم العجلة، وتقليب الأمر على جميع نواحيه، واختيار الحل الأفضل. ولبيان أهمية رفق الإنسان بأخيه الإنسان في العملية التغييرية فإني أبسط هذا الأمر من خلال ثلاث نقط:

1- أهمية الرفق والتؤدة إبان تطبيق الشريعة الإسلامية في المرحلة الانتقالية

سؤال يطرح على الحركة الإسلامية غدا حول تطبيق الحدود. فالجواب أن الحدود تطبق على المجتمع المؤمن التائب المنيب لربه تعالى، ولنا في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسوة الحسنة، فتطبيق الحدود لم تُطبق في المجتمع المكي، وطُبقت بعد تأسيس دولة الإسلام وتهيئة المجتمع المؤمن ليتقبل حدود الله وليقف عندها رغبة دون رهبة. يقول الإمام: ”فهل نبدأ تطبيق الشريعة بإقامة الحد على الشبهة والانتقام، أم نبدأ بفتح أبواب التوبة، لا تُقْصِي التوبة إلا رؤوس الفتنة ومُسَعِّريها؟” [1]. يخطئ من يظن أن تطبيق الشريعة هي تطبيق الحدود، وما آيات الحدود والعقوبة إلا ثلاثون آية من جملة 6236 آية، وهي آيات يسيرة مقارنة مع كل الشريعة، وإن أول عمل قام به الرسول الكريم بعد الهجرة هو بناء مسجد، ولم يبني محاكم، ولم يصدر قانونا للعقوبات، بل ربى وعلّم، وغير النفوس بتوفيق الله تعالى: قال تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم [2].

يتحدث الإمام عبد السلام ياسين عن تطبيق الشريعة قبل تطبيق الحدود، ويقصد بذلك أن على جند الله أن يتوبوا إلى الله هم ومعهم الشعب المسلم، ويقصد الإمام بالتوبة التوبة على منهاج النبوة: ”لا أقصد بالتوبة مجرد الندم على ذنب، والكف عن معصية. لكن التوبة العميقة التي تقلب كل الموازين: العقلية القلبية الأخلاقية السلوكية، وتوجه التائب وِجهةَ الآخرة، وتستنقذه من عبوديته لهواه وأهواء الناس، وتُخْلصهُ لله عز وجل خالقِه ورازقِه. التوبةُ بهذا المعنى قلب دولة كما يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمهُ الله. قلبُ دولة النفوس، لا مَسْعَى من دونها لقلب دولة الباطل في العالم” [3]. ويقصد الإمام بقلب دولة هي نظم الدنيا في سلك الاخرة كما سبق بيانه [4].

2- أهمية الرفق في عملية التغيير

في المجتمع المسلم أصناف من الناس تحكمهم المصلحة والعنف والحيلة، فنحتاج إلى الرفق بهم، والتؤدة والأناة غدا ونحن نروم إبطال الباطل وإحقاق الحق، ونتواصى بصحبة الشعب ومخالطته، وقد قال الرسول الكريم: “المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم” [5]. والرفق سنة نبوية سلكها الإمام عبد السلام ياسين وجعله سبيلا لإحقاق الحق وإزهاق الباطل سواء قبل التمكين للإسلاميين في الأرض أو بعد التمكين [6]. وغدا بعد وصول الحركة الإسلامية إلى الحكم لن نعدم عوامل التخويف الجاهلي الداخلي والخارجي، ولن نعدم عوامل التجويع بسبب تخلفنا الزراعي، وتبعيتنا الاقتصادية، واحتياجنا لقمح أمريكا فنحتاج إلى صبر، ونحتاج ليصبر الشعب معنا ولا يحملنا المسؤولية، مسؤولية فساد قرون. قال الإمام عبد السلام ياسين: ”والتربية الإحسانية على الصبر لها رجالها، نستفيد من فقههم الدقيق الرقيق ليكون كل قائم بالقسط من المجاهدين صابرا في موقعه مع عامة الناس، مثبِّتا لهم،راجعين إليه هم، كما هو راجع معتمد على من يقبل شكواهم وشكواه، وينصر بلواهم وبلواه، ويسمع نجواهم ونجواه. هو الله، لا إله إلا هو الوكيل الجليل” [7].

يتحدث الإمام عن نجاح الحركة الإسلامية ووصولها إلى الحكم، فيؤكد على أن حاجة المؤمنين إلى الرفق والتؤدة ستزداد إلحاحا؛ ذلك أن ماضي الفتنة قد خلف فسادا على جميع المستويات، وخلف أقواما فسدت عقيدتهم، وسلوكهم، وخلف عصبيات وتضامنات، ومصالح مشتركة، وحتما لن ترى في الحكم الإسلامي فائدة لها، فأمام المؤمنين حلين ساعتها: إما السكوت عن الماضي جملة، وإما اعتماد القتل والسفك خصوصا فيمن ثبت تواطؤه مع النظام الظالم الذي استحل دماء الناس وأموالهم. فالحل هو حقن الدماء إلا من ثبت تورطه في دماء المسلمين، ونحتاج إلى التؤدة والرفق في جميع مراحل العملية الانتقالية التي تلي نجاح الحركة الإسلامية. قال رحمه الله: ”وليس الرفق هو السكوت عن الماضي جملةً. فلا بد من رد المظالم، ولا بد من كنس القُمامة، ولا بد من التغيير الجذريِّ. والرفق في هذه العمليات، والأناة فيها، وحقن الدماء هي الحكمة المطلوبة” [8].  فهذا موقف يستدعي الغلظة على المنافقين والمفسدين في الأرض والإعراض عن الجاهلين، وهناك موقف الرفق والأناة التي وصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: “إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف” [9]. وقال للسائل لما سأله بماذا أرسلك الله عز وجل فقال: ”بأن توصل الأرحام وتحقن الدماء” [10]. فنحتاج إلى الحكمة للموازنة بين الغلظة والإعراض، ومحاسبة المفسدين، وبين الرفق والأناة، وعدم التسرع خاصة إذا تعلق الأمر بالدماء، فنحتاج لإقامة هذا الأمر والنجاح فيه إلى تربية جند الله على التربية النبوية التي تربى عليها الصحابة الكرام. قال عبد السلام ياسين: ”إن بناء الدولة الإسلامية الراشدية الثانية يريد رجالا من تلك الطينة الإحسانية القوية، وما عطاء الله لعباده شَحَّ لفراغ خزائِنِه وهو الغني الوهاب” [11].

3- أهمية التؤدة والصبر حتى تكوين الشخصية الإيمانية المسؤولة

نجاحنا مشروط بمشاركة الشعب كله، فكيف ندفع الشعب ونحفزه على المشاركة في التغيير، وقد ألفت الملايين من الناس الاستقالة من أمر السياسة، ووضع أمرها بين يدي الحاكم يسوقها سوق الأغنام، وتتواكل عليه، وتسكت عنه، فكيف نعيد بناء الشخصية الإسلامية التي كانت مشاركة فاعلة في المجتمع، تراقب الحاكم وتحاسبه. قال ابن عون: كان الرجل يقول لمعاوية: والله لتستقيمن بنا يا معاوية، أو لنقومنكبالخشب، فيقول: إذن نستقيم [12]. وعن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّ عُمَر قَالَ يَوْمًا، فِي مجلسٍ، وَحَوْلَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ: أرأَيتم لَوْ تَرَخَّصتُ فِي بَعْضِ الأَمْرِ، مَا كُنْتُمْ فَاعِلِينَ؟ فَسَكَتُوا، فَعَادَ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاثًا، قَالَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: لَوْ فعلتَ قَوَّمْنَاكَ تَقْوِيمَ الْقَدْحِ، قَالَ عُمَرُ: أَنْتُمْ إِذًا أنتم [13].

يقول الدكتور محمد عمارة حول اكتمال بناء الشخصية الإيمانية المسؤولة الفاعلة في عمليات التغيير: ”وبعد إنجاز الصياغة الإسلامية بالتربية للإنسان جاءت كل الإنجازات والفتوحات وفي ميادين الحضارة وعلومها والثقافة وآدابها وفنونها، فكانت تجسيدا لهذا الذي سبق وتم إنجازه في نفس الإنسان جاءت جميعها مصاغة بمعايير الإسلام التي سبق وصاغت نفوس وعقول وقلوب الذين اهتدوا بهدي الإسلام” [14].

المصدر: موقع yassine.net 


[1] ياسين عبد السلام، العدل الإسلاميون والحكم، 184.
[2] الرعد: 12.
[3] ياسين عبد السلام، العدل الإسلاميون والحكم،187.
[4] ينظر ص 8-9من هذا البحث.
[5] أبو عيسى الترمذي، سنن الترمذي، أَبْوَابُ صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالرَّقَائِق ِوَالْوَرَعِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، 4/662.
[6] في كتاب حرب اللاعنف: الخيار الثالث، أحصى المؤلفون المشاركون في الكتاب الثورات التي قامت في القرن العشرين في القارات الافريقية الأسيوية الأوروبية الأمريكية فكانت النتيجة أن %71، نجحت نجاحا كليا في تحقيق أهدافها، و11 % نجحت نجاحا جزئيا، و18 % فشلت، وبذلك تكون نسبة النجاح بصفة عامة حوالي: 82%. ينظر: حرب اللاعنف الخيار الثالث، أحمد عادل عبد الحكيم، هشام مرسي، وائل عادل، أكاديمية التغيير قطر، الطبعة الثالثة، 2013 م.  ص 46.
[7] ياسين عبد السلام، الإحسان، 2/292-293. ينظر أيضا:عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، 90-91.
[8] ياسين عبد السلام، الإحسان، 2/ 315. ينظر أيضا: عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، 81-82.
[9] مسلم، المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بَابُ فَضْلِ الرِّفْقِ، 4/ 2003.
[10] أحمد بن حنبل، المسند، أحاديث عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ السُّلَمِيِّ، 28/ 232.
[11] ياسين عبد السلام، الإحسان، 2/ 317.
[12] شمس الدين الذهبي، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، المكتبة التوفيقية، 4/164.
[13] البخاري، التاريخ الكبير، طبع تحت مراقبة: محمد عبد المعيد خان، حيدر آباد، دائرة المعارف العثمانية، 2/98. ويقصد عمر بقوله: إذا أنتم: أنتم الرعية التي أريد.
[14] عمارة محمد، فقه الحضارة الإسلامية، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، الطبعة الثانية، 2007م، 107.