كان الشيخ الإمام من هذا الطراز العالي ..
وقبل وفاته بعام تقريبا بدأ يفسّر في درس الجمعة سورة “المزمِّل” .. أما في مساء يومها وبعد صلاة العشاء، فكان يشرح أحاديث سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم، مقدِّما “سنن الإمام أبي داود” .. وفي مساء السبت ليلة الأحد كان موعده مع درس الفقه.
ظل – رضي الله عنه – يفسر سورة المزمل عاما إلا قليلا .. ولعله لقي ربه وهو يتابع آياتها شرحا وتفسيرا ..
ولا تعجبوا متسائلين: وهل تحتاج سورة “المزمل” لأكثر من درسين أو خمسة على الأكثر ليبلغ تفسيرها نهايته ومداه.
وأجيبكم: لا يحتاج تفسيرها لأكثر من ذلك، لو أن فضيلة الإمام كان يفسرها تفسيرا لغويا، أو بلاغيا، أو غير ذلك من أنوع التفسير..
لكن الشيخ كان يستنطق أسرارها الكامنة في الأعماق، ويتتبع أنوارها السارية في الآفاق.. ويرى فيها قلبها لا حروفها.. وكنوزها المخبوءة.. وعطاياها المعطاءة.. فكان ربما يمكث في الآية الواحدة شهرا يفسرها ناثرا لآلئها.. باثا حكمتها.. وهو مثلا حين يتحدث عن الجزء من الآية: ورتل القرآن ترتيلا يقضي معها وحدها خمسة دروس أو أكثر، لأن جمال القرآن وجلاله وطريقة تلاوته، وثواب قراءته.. كل هذا يجذبه جذبا لا يستطيع عنه حِولا..
ولن أنسى ذلك الدرس الذي كان يفسر فيه الآية الكريمة.. فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا.. وفجأة يتهاوى فضيلته تحت وقع شعور ضاغط يهز جسمه كله هزا عنيفا، ويميل رأسه على صدره ثم يستسلم لسكون رهيب، لبث دقيقتين أو ثلاثا دون أدنى استجابة لحركة أو اختلاجة. مما فتك بهدوء الحضور وصبرهم، إذ ظنوا أن شيخهم قد قبض وغادرت روحه الجسد، فراحوا يبكون وينشجون، ويصيحون مكبرين الله وسائلين لطفه ورحمته ومرددين إنا لله وإنا إليه راجعون.
وإنهم لكذلك إذ رفع الشيخ الإمام رأسه رويدا رويدا.. كمن ينتزعه من تحت ثقل ضاغط. وإذا وجهه تكسوه صفرة جليلة وديعة حُلوة.. هو الذي كان يتمتع بوجه أمغر، شديد البياض مشرب بالحُمرة..
كنت ساعتئذ أجلس مع أخي وبقية المصلين في “المبلغة” حيث رأيت المشهد كله.. فبصرت بحجر الإمام، وقد ملأته الدموع التي انهمرت من مآقيه وهو في رحلته العلوية الخاطفة.. ورأيت جسمه المنهك وكأنه يحاول أن يعيد ترتيب نفسه بحيث يستقر كل ضلع وكل عضو في مكانه.. ومرت دقيقتان والشيخ في صمت مهيب قبلما يستأنف حديثه بصوت مُرهق، وكلمات تُعاني..
ولم يُطل الحديث، بل جمعه واختصره واستدنى نهايته وختامه..
يا الله..
شيخ في هذه المنزلة العالية من التقوى.. والولاية، والقُبول ثم تصنع به أية واحدة مُنذرة كل هذا الذي صنعته؟؟
حقا: إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ.
وذات ليلة، وكان يلقي بعد صلاة العشاء درس الفقه..
كان يجلس ثانيا إحدى ساقيه، رافعا الأخرى في وضع رأسي لأنها كان بها ألم لا يمكنه من ثنيها..
وأنه لماض في درسه على هذه الجلسة. وإذا به يثب من مقعده ويضم كلتا الساقين إلى بعضهما ثانيا إياهما صائحا: النبي حضر يا ولد)..
ووليت وجهي شطر أبواب المسجد لأرى من أيِّها الرسول (صلى الله عليه وسلم) قادم..
والآن، وقد قرأت للمؤمنين وللملحدين.. للشرقيين والأوربيين.. ومرت بي فترات شك وشوامخ إيمان.. لو سئلت: ماذا تظن أن الشيخ في ذلك المشهد قد رأى.. أو تصور، أو تخيل..؟؟
أجيب بملء وعيي ويقيني: ساعتئذ رأى الرسول صلى الله عليه وسلم رؤية بصر وبصيرة.. رآه كما كان أصحابه يرونه يغدو بينهم، ويروح..
أما كيف يحدث هذا فأدنى الأمثلة دلالة صورة التلفزيون.
فهناك غرفة واحدة “استديو” يجلس فيها المتحدث بشحمه ولحمه وحيدا فريدا.. والاستوديو مغلق النوافذ والأبواب.. يفصله عن المشاهدين في منازلهم عشرات الألوف من الأميال.. وكلهم يرونه ويسمعونه وكأنه يتحدث إلى كل واحد منهم..
ولو أن جهاز “التلفاز” في بيتك عطِّل ما رأيت شيئا.. ولو أن بمحطة الإرسال خللا معوقا، ما رأى الناس شيئا..
أما محطة الإرسال الإلهية، فإنها لا تتعطل أبدا ولا تختل، لأنها تعمل بقدرة من لا يعجزه شيء ولا يؤوده شيء جل جلاله..
وأما أجهزة الاستقبال التي زود بها الفتاح العليم رسله وأنبياءه وأولياءه، فهي وحدها تستقبل وتتلقى، وتسمع، وترى..
هذا مثل هامشي لتوضيح الفكرة وتفسير المشهد.. وهو يضرب للذين لا يؤمنون بالغيب.. ولا يرون إلا تحت أقدامهم.. أما الذين رزقهم الله “فقه العقيدة” وبصيرة الإيمان، فإنهم يرون في هذا الذي تلألأ به موقف الإمام أقل العطايا والهدايا والنفحات..
ومن حسن الحظ أن معي تجربة شخصية صادفتني في سنوات تصوفي العميق والصدوق وقبل أن أخرج - واحسرتاه – من الجنة..
وإليكم النبأ كأنكم تبصرونه، بل كأنكم أصحابه وذووه..
ذات يوم، ذهبت لزيارة سيدي: أبي عبد الله الحسين عليه السلام.. وأعجبني أمر ما عند الدخول إلى المسجد والضَّريح، فوقفت أمام أبواب المسجد، وأنا في طريقي إلى بيت القاضي.. حيث يقع على اليسار” خان الخليلي”..
وأردت إرسال التحية والسلام إلى بطل “كربلاء” العظيم، وشهيدها الممَجَّد وفجأة لم أر أمامي مسجد الإمام “الحسين”.. وإنما وجدت مكانه مسجدا أقل حجما وأصغر مساحة مبنيا بالطوب، مسقوفا بجدوع النخيل وسيقانه. وألقي في روعي لحظتئِذ أن هذا الذي أراه مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم.
كان المسجد خاليا تماما إلا من واحد يلبس عمامة وقد أرخى ذؤابَتِها وتسمى “العَذَبة” وكان مُتَّجِهًا نحو القبلة.. وألقى في روعي أنه سيدنا “أبو هريرة” رضي الله تعالى عنه..
لم أستطع مع المشهد صبرا، فقد خشيت أن أكون قد أصابني شيء.. فاخترقت صفوف المارة أحَمْلِق في وجوههم.. وأسأل بعضهم عن التوقيت.. وبلغت إلى مضايق خان الخليلي أتأمل التحف المعروضة وأسأل أصحابها عن أثمانها كل ذلك لأتأكد أنني بخير، سليم العقل، يقظ الوجدان..!!
والآن، وقبل الآن، كلما تذكرت الواقعة العظيمة ينتابني ندم، لأنني لم أستغرق في المشهد، ولم أتركه يبلغ فيَّ أمره.. فلعله كان - بل لا أحسب إلا أنه كان – بداية حياة حافلة واصلة تنقلني إلى أفق جديد من آفاق التصوف والمشاهدة والمعرفة والوصول.. ولكن لله حكمته.. ولله مشيئته..!!!
ماذا أريد أن أقول..
وما علاقة هذا الذي صادفني، ورؤية شيخنا الإمام لرسول صلى الله عليه وسلم على النحو الذي قصصته عليكم من قبل؟؟
أريد أن أقول:
إني – وأنا يومئذ – تلميذ مبتدئ أحبو على طريق التصوف، وأتاني من شفافة الروح وفتوح الله، ما جعلني أرى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم الأول والذي زال من الوجود منذ أربعة عشر قرنا وحل مكانه بناء متجج في فخامته ورونقه.. أقول: إذا فزت بهذه النعمة، وأنا كما ذكرت، فماذا ما عساه ينال من عطاء ربنا وفتوحه رجل من المقربين الكبار كشيخنا الإمام..؟ أكثير عليه وعلى نظرائه من العارفين أن يروا سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم في يقظة لا سِنَة فيها ولا وهم ولا نوم..؟؟
هذا المشهد الذي أراني مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من المشاهد والتجارب الآتية.. لم تحدث في سِنِّي الباكرة الحادية عشر إلى منتصف الثالثة عشرة والتي قضيتها بين يدي شيخنا المبارك العظيم..
إنما حدثت فيما بعد، وأنا أعايش خليفته فضيلة الإمام الشيخ “أمين محمود خطاب السبكي” الذي خلف أباه الإمام في رئاسة الجمعية ورعاية أبنائها عام 1933 ولبث في مكانه حتى عام وفاته – 1968.