البردة ومديح سيد الأنام

Cover Image for البردة ومديح سيد الأنام
نشر بتاريخ

التعريف بالإمام البوصيري رحمه الله ينبغي أن يبدأ أولا بذكر الروحانية العالية التي يتسم بها نظمه الفريد، البعيد الغور، السامي المقاصد. يقرأ الإنسان البردة مثلا، فيتنشق من خلال باقات أبياتها رَوح المحبة ونسيم التعلق الصادق بالجناب النبوي الشريف.

الإمام البوصيري رحمه الله هو أولا تلك الروح الطاهرة التي يسري عبير زكائها من خلال إنشاد مديحه النبوي، لاسيما إن صحبته نغمات تكسب الشعر بعدا من الرقة والأناقة والجمال. ثم إن هذا الروح السامي سكن في رحلته الأرضية الدنيوية شخصا كريما يسمى محمد بن سعيد بن حماد بن محسن بن عبد الله الصنهاجي الدلالي البوصيري، شرف الدين أبو عبد الله، توفي سنة 694هـ.

وكان سبب نظم بردته، وهي أشهر مدائحه، ما قاله رحمه الله: “كان سبب نظمي هذه القصيدة أني أصابني فالج (وهو ريح يصيب الإنسان فيفسد به نصف جسده)، عجز عن معاناته كل معالج، أبطل نصفي، وأعيى وصفي، ففكرت أن أعمل قصيدة، أمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم، وأتوسل بها في برئي إلى ربي، فنظمتها. ولما فرغت من نظمها نمت ليلة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فانكببت على الطاهرتين قدميه، وتصاغرت بين يديه، وتشكيت بما بي من الألم، فدنا إلي النبي صلى الله عليه وسلم، ومسح بيديه المباركتين على جسدي، فاستيقظت وقد عوفيت، والحمد لله. فخرجت في أول النهار، فلقيني أحد الفقراء، فسلم علي، وطلب مني القصيدة، وما كنت أخبرت بها أحدا، فقلت له: أي قصيدة؟ فقد مدحته عليه الصلاة والسلام بقصائد شتى. فقال: التي أولها: أمن تذكر جيران بذي سلم، والله لقد ذكرت بين يديه عليه الصلاة والسلام البارحة فكان يتمايل كما يتمايل القضيب.

فقال: فناولته القصيدة، فذكر ما جرى له من شأنها، حتى بلغ خبرها الصاحب وزير الملك الظاهر (وهو بهاء الدين بن حنا، وزير الملك ببريس) فاستنسخها في ديوانه، واعتنى بها، ونذر أن لا يسمعها إلا مكشوف الرأس واقفا، حافي القدمين. ثم إن ولده كان به رمد، ولم يجد لعينيه منه شفاء، فلما كانت ليلة، قيل له: تداو بالقصيدة المسماة بالبردة، فإنها عند أبيك. فلما أصبح سألها من أبيه، قال أبوه: ما أعلم عندي بردة، وإنما عندي القصيدة المباركة التي نظم الشيخ البوصيري، فناوله إياها، فكان يمر بها على عينيه، فكشف الله ما بهما من الألم” [1].

نقف عند مقاطع من البردة نستقرئ فيها معالم الإبداع، وجمال الأسلوب، ورقة العبارة، وحسن التخلص من غرض إلى غرض في مثل قوله رحمه الله:

يــا لائِمي في الهوى العُذْرِيِّ مَعـذرَةً ** مِنِّي اليـك ولَو أنْصَفْـتَ لَم تَلُـمِ

يخاطب هنا لائما مفترضا ينصحه بأن لا يظهر مكامن محبته البليغة لجناب الرسول صلى الله عليه وسلم، ويطلب إليه أن يعذره؛ فما يستوي من يكابد حرارة المحبة ومن هو سال، بارد، راقد، غافل عن معاني المحبة لجناب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

ثم يشفق على لائمه في الهوى النبوي فيتمنى له أن يصيبه من لوعة تلك المحبة مثلما أصابه فيقول:

عَدَتْـــكَ حالي لا سِـرِّي بمُسْـتَتِرٍ ** عن الوُشــاةِ ولا دائي بمُنحَسِــمِ
 
مَحَّضْتَنِي النُّصْحَ لكِنْ لَســتُ أسمَعُهُ ** إنَّ المُحِبَّ عَنِ العُــذَّالِ في صَمَـمِ

هذا عذول يلوم وذاك محب يبوح بما في صدره من لوعة الولاء والوفاء والشوق والمحبة لمحبوبه، فأنى يجتمعان ليبث هذا صادق عواطفه وليسمع ذاك بأذن حانية ويعذر ويقدر عواطف صاحبه.

ثم يتخلص رحمه الله من لوم عاذله إلى توجيه أصبع الاتهام إلى نفسه متوجها إليها لترعوي عن غفلتها بينما طلائع الشيب في رأسه تنذر بقرب الرحيل من هذه الدار، دار يعذل الناس فيها ولا يعذرون فيقول:

اِنِّي اتَّهَمْتُ نصيحَ الشَّـيْبِ فِي عَذَلِي ** والشَّـيْبُ أبعَـدُ في نُصْحٍ عَنِ التُّهَمِ

شخص رحمه الله الشيب ناصحا ينصحه بالاستعداد للرحيل، لكنه لم يصدقه واتهمه، رغم أن الشيب نذير صادق لما بعده، من هرم وموت محققين إن قدر للمرء طول حياة.

ويضع أصبعه بعد أن أشار بها إلى الشيب متهما إياه، مكذبا نذارته ليتخلص إلى نفسه باللوم المباشر والاتهام اللاذع فيقول رحمه الله:

فـإنَّ أمَّارَتِي بالسـوءِ مــا اتَّعَظَت ** مِن جهلِـهَا بنذير الشَّـيْبِ والهَـرَمِ

فاللوم على نفسه لا على الشيب. نعمت الخلاصة إن اتعظ المستمع للبردة وهي تنشد في أهازيج مثيرة لعواطف الخير، فيوجه إلى نفسه هذه النصيحة منه إليها مباشرة، متخذا نذير الشيب – إن كان ثم شيب – شاهدا ومذكرا وباعثا على التوبة والإنابة إلى الله تعالى. جعلني الله وإياكم من التوابين والمنيبين.


[1] من كتاب شرح البردة البوصيرية للإمام عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن مقلاش الوهراني رحمه الله.