البادية المغربية.. من خزان انتخابي إلى بركان احتجاجي

Cover Image for البادية المغربية.. من خزان انتخابي إلى بركان احتجاجي
نشر بتاريخ

على امتداد عقود، ظلت البوادي المغربية مجرد خزان انتخابي تستغله الأحزاب السياسية في كل محطة انتخابية؛ وعود بالتنمية، مشاريع وهمية، وممارسات زبونية وزوجية كانت كفيلة بتهدئة الساكنة مرحلياً، لكن دون أن تنعكس على أرض الواقع بتحسين فعلي لأوضاع الناس.

اليوم، وبعد سنوات من التهميش والإقصاء الممنهج، بدأت موجة احتجاجات تتصاعد داخل الدواوير: احتجاجات على غياب الماء الصالح للشرب، على انهيار البنيات التحتية، على ضعف الصحة والتعليم، وعلى سياسات الإقصاء من فرص التنمية. لم تعد الساكنة تقبل أن تُختزل أدوارها في يوم التصويت، ثم تُترك لمواجهة قساوة العزلة والفقر لوحدها.

منذ عقود طويلة، تعاملت الأحزاب السياسية مع البادية المغربية باعتبارها مجرد خزان انتخابي، لا أكثر ولا أقل. موسم الانتخابات يتحول إلى سوق للمزايدات: وعود كاذبة، قفف غذائية، وابتسامات مصطنعة. وبعد أن تُغلق صناديق الاقتراع، تُغلق معها أبواب التنمية، ويُترك الفلاح والقروي يواجهان وحدهما قسوة الطبيعة وعزلة التهميش.

لقد اعتاد بعض المنتخبين على أسلوب الإحسان الانتخابي؛ قفة هنا، وعود زائفة هناك، زيارات موسمية لا تتجاوز أيام الحملة.. لكن القروي اليوم لم يعد ساذجاً؛ أصبح واعياً بأن التنمية ليست هبة من سياسي، بل حق يضمنه الدستور. وأي منتخب يعتقد أن بإمكانه خداع الناس للأبد، فهو يحفر قبره السياسي بيديه.

الأحزاب التي تعودت على شراء الولاءات الانتخابية تجد نفسها الآن أمام جدار من الرفض الشعبي. لم يعد القروي البسيط ذاك الذي يُستمال بكيس دقيق أو ببضع وعود جوفاء، بل أصبح مواطناً واعياً يربط بين التهميش والفساد، وبين الفقر والنهب الممنهج لميزانيات التنمية.

اليوم، لم يعد الوضع كما كان. الدواوير انتفضت، وخرج الناس إلى الشارع يطالبون بأبسط حقوقهم: ماء صالح للشرب، طرق معبدة، مستوصف صحي، مدرسة تحفظ كرامة أبنائهم. هذه ليست مطالب ترف، بل حقوق طبيعية جرى تجاهلها بشكل ممنهج، وكأن ساكنة البوادي مواطنون من درجة ثانية.

إن ما يقع اليوم في البوادي المغربية ليس مجرد احتجاجات معزولة، بل هو بركان اجتماعي صامت بدأ ينفجر. بركان تغذيه عقود من الإقصاء، ويدفع ثمنه شباب عاطل، ونساء يعانين في صمت، وأطفال يقطعون الكيلومترات طلباً لمدرسة متهالكة أو نقطة ماء.

هذه الاحتجاجات تعكس أمرين أساسيين:

1- ارتفاع منسوب الوعي الجماعي داخل البوادي، حيث صار المواطن القروي يربط بين التهميش والسياسات العمومية، ولم يعد يخضع بسهولة لمنطق “الهبة الانتخابية”.

2- فشل النموذج التنموي المحلي في تحقيق العدالة المجالية، إذ ما تزال الهوة شاسعة بين الحواضر التي تحظى بمشاريع تنموية، وبين القرى التي تُركت على الهامش.

لكن المثير هو أن هذه الموجة الاحتجاجية ليست منعزلة، بل تأتي في سياق وطني أوسع يتسم بمطالب اجتماعية متصاعدة في المدن أيضاً، ما يكشف أن أزمة التوزيع العادل للثروة والخدمات لم تعد قابلة للتأجيل.

إن استمرار تجاهل مطالب الدواوير سيؤدي إلى تأجيج الهوة بين المواطن والدولة، وقد يعمّق الإحباط الجماعي. بالمقابل، يمكن تحويل هذه الاحتجاجات إلى فرصة لتصحيح المسار عبر :

• وضع سياسات إنصات ومقاربة تشاركية تُمكّن الساكنة القروية من التعبير عن أولوياتها.

• تسريع مشاريع البنية التحتية الأساسية (ماء، كهرباء، طرق، صحة، تعليم).

• محاربة الزبونية الانتخابية التي ظلت تعطل التنمية مقابل الحفاظ على الولاءات.

باختصار لم تعد البادية المغربية تتحمل المزيد من الإهانة. سنوات طويلة وهي تُعامل كخزان انتخابي، تُستنزف أصوات ساكنتها في كل استحقاق، ثم يُرمى بها إلى الهامش حتى يحين موسم الكذب من جديد. فموجة الاحتجاجات في البادية ليست مجرد رد فعل عابر، بل إشارة قوية إلى أن زمن الاستغلال الانتخابي بدأ يقترب من نهايته، وأن الوعي القروي أصبح عاملاً حاسماً في إعادة رسم الخريطة السياسية والاجتماعية بالمغرب.