الاعتكـــاف

Cover Image for الاعتكـــاف
نشر بتاريخ

مقدمة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن سار على دربه ونهجه إلى يوم الجزاء والدين.

وبعد:

أمام هذا الإقبال الملحوظ لكثير من الناس، خاصة الشباب منهم، على دينهم وسنة نبيهم يحيونها، وبالذات تلك التي كانت غابرة ومنحصرة في مجالات ضيقة، هذا إن لم نقل كادت أن تنقرض، ومنها سنة الاعتكاف، تلك السنة العظيمة والجليلة التي سنها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لتكون لنا وقفة بين يدي الله عز وجل ننسى فيها كل هموم الدنيا وننشغل بالعبادة في انقطاع تام في أيام مباركات كالتي نعيشها من رمضان شهر التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، فإن الأجر والفضل يزيد ويعظم بعظم العبادة والزمن الذي تؤدى فيه.

لقد اعتكف النبي صلى الله قبل بعثته في رمضان، حيث كان -كما أخبرت بذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- يتحنث الليالي ذوات العدد، حتى جاءه الملك وهو في تلك الحال يبشره أنه نبي هذه الأمة، وفيها أنزل عليه القرءان، ولزم هذه السنة بعد البعثة أصحابه معه إلى أن توفاه الله عز وجل واعتكف أزواجه من بعده، وبقيت هذه السنة في الأمة زمانا، ثم ما لبثت أن انحصرت في أوساط ضيقة ، ومع الزمن غاب عن أذهان الكثيرين وجود ها مع عظمها وملازمة النبي لها وامتلاء كتب الحديث والفقه بالحديث عنها وعن آدابها وشروطها ومكروهاتها ومحرماتها.

ونحن نرى اليوم شغف الشباب بدينهم وتهافتهم على حضور الاعتكافات كلما سنحت لهم فرصة لذلك، بادلين الوقت والجهد طمعا في الأجر والتواب. لكن الملاحظ أن الكثيرين تغيب عنهم أحكام هذه الشرعة في كلياتها وتفاصيلها.

لذلك نود أن نقدم بين يدي الإخوة الكرام هذه الرسالة حول أحكام الاعتكاف، وهي عبارة عن أقوال العلماء واجتهاداتهم، ليس لنا منها إلا الترتيب والتبويب.

فالله نسأل أن تكون النية خالصة لوجهه وعلى الله قصد السبيل.

معنى الاعتكاف

الاعتكاف في اللغة هو الاحتباس والملازمة يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه. وقال الشاعر:وظل بنات الليل حولي عكفا

عكوف البواكي بينهن صريعولما كان المعتكِف ملازما للعمل بطاعة الله مدة اعتكافة لزمه هذا الاسم.

وأما في عرف الشرع فهو ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في موضع مخصوص

ولا بد من حضور النية فيه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيات”.

مشروعية الاعتكاف

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان. قال نافع: وقد أراني عبد الله رضي الله عنه المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد” 1 . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده” 2 . عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر”.

وفي رواية مسلم عنها أيضا: “يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد في غيره”. يعني العشر الأواخر من رمضان.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان فاعتكف عاما حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه قال: “من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر وقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر”. فمطرت السماء تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف المسجد فبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين”.

وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب وهو قربة ونافلة من النوافل، لكن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم به ومواظبته عليه وكذا قضاؤه في شهر شوال ومن بعده أصحابه وأزواجه يرفعه إلى أن يكون سنة مؤكدة وإن لم يرد في فضله حديث صحيح يخصص فضله، كما قال أبو داود: قلت لأحمد تعرف في فضل الاعتكاف شيئا؟ قال: لا، إلا شيئا ضعيفا. لكن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ومداومته عليه يكفي تأكيدا على فضله كما أنه يدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: “ألا أدلكم بم يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات. قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط”. فإن هذه الأعمال يقوم بها المعتكف بل إن الانقطاع عن هموم الدنيا إلى العبادة وخاصة في رمضان أفضل من الخطوات التي يمشيها من بيته إلى المسجد وذلك لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما بالك إن وافق هذا العشر الأواخر التي هي من أفضل أيام السنة.

موضع الاعتكاف

حكى ابن حجر في الفتح إجماع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد لقول الله تعالى: وأنتم عاكفون في المساجد.

واختلفوا في المراد بالمساجد فذهب قوم إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد وهو ما بناه نبي كالمسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى -بناه يعقوب عليه السلام- روى هذا عن حذيفة بن اليمان وخصه عطاء بمسجد ي مكة والمدينة وابن المسيب بمسجد المدينة فلا يجوز الاعتكاف عندهم في غيرها.

وقال آخرون لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة لأن الإشارة في الآية عندهم إلى ذلك الجنس من المساجد روي هذا عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وهو قول عروة والحكم وحماد والزهري وأبي جعفر محمد بن علي وهو أحد قولي مالك.

وقال آخرون الاعتكاف في كل مسجد جائز يروى هذا القول عن سعيد بن جبير وأبي قلابة وغيرهم وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما وحجتهم حمل الآية على عمومها في كل مسجد له إمام ومؤذن وهو أحد قولي مالك وبه يقول ابن علية وداؤد بن علي والطبري وابن المنذر وروى الدارقطني عن الضحاك.

فعن حذيفة قال “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح”. قال الدارقطني والضحاك لم يسمع من حذيفة.

وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض كلها مسجد لهذه الأمة حيث قال: “الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام” 3 وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها وهو المكان المعد للصلاة فيه وفيه قول الشافعي قديم وفي وجه لأصحابه وللمالكية يجوز للرجال والنساء لأن التطوع في البيوت أفضل. وذهب محمد بن عمر بن لبابة المالكي إلى أن أجازه في كل مكان، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: “جعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا”.

وبهذا يكون الاعتكاف جائزا في كل مكان وخاصة إذا تعذر على المسلم الاعتكاف في المسجد خوفا من الفتنة أو حال حائل آخر دون إمكانية ذلك كما هو الحال في أيامنا هذه حيث إن المساجد لا تفتح إلا لأداء الصلاة ثم تغلق مباشرة بعد ذلك، فكيف يحرم المرء نفسه الخير من أن ينال فضل الاستنان بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن ما يمنع جله لا يترك كله.

وقد اختلى كثير من الصالحين في الجبال والكهوف أو في بيوتهم هربا من الفتن وطلبا للعبادة والنسك.

مدته ووقتـــه

يمكن أن نقسم الاعتكاف إلى مطلق وخاص، فأما المطلق فهو غير مشروط بوقت ولا زمان، وقد اختلف الفقهاء في مدته فأقله عند مالك وأبي حنيفة يوم وليلة وقال الشافعي أقله لحظة ولا حد لأكثره وقال بعض أصحاب أبي حنيفة يصح الاعتكاف ساعة.

وأما الخاص وهو موضوع بحثنا فهو اعتكاف العشر الأواخر من رمضان التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب عليها مما يدل على ميزة هذه الأيام.

متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه؟

روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه وإنه أمر بخبائه فضرب -أرادت الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان- فأمرت زينب بخبائها فضرب وأمر غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بخبائه فضرب فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر نظر فإذا الأخبية فقال آلبر تردن فأمر بخبائه فقوض وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال”.

اختلف العلماء في وقت دخول المعتكف في اعتكافه فقال الأوزاعي بظاهر هذا الحديث ورُوي عن الثوري والليث بن سعد في أحد قوليه وبه قال ابن المنذر وطائفة من التابعين.

وقال أبو ثور إنما يفعل هذا من نذر عشرة أيام فإن زاد عليها فقبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم. قال مالك وكذلك كل من أراد أن يعتكف يوما أو أكثر وبه قال أبو حنيفة وابن الماجشون.

وقت الخروج من الاعتكاف:

اختلف الفقهاء في وقت الخروج من الاعتكاف بين رأيين:

فاستحب مالك لمن اعتكف العشر الأواخر أن يبيت ليلة الفطر في المسجد حتى يغدو منه إلى المصلى وبه قال أحمد.

وذهب الشافعي والأوزاعي إلى أنه يخرج إذا غابت الشمس ورواه سحنون عن ابن القاسم لأن العشر يزول بزوال الشهر والشهر ينقضي بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان، وفي الإجماع على ذلك دليل على أن مقام ليلة الفطر للمعتكف ليس شرطا في صحة الاعتكاف.

وليس المعتكف مقيدا بأن يعتكف الأيام كلها إن حال حائل دون ذلك، بل يحق له الخروج.

اعتكاف النساء

أطلق الشافعي كراهته لهن في المسجد الذي تصلى فيه الجماعة واحتج بحديث عائشة فإنه دال على كراهة الاعتكاف للمرأة إلا في مسجد بيتها لأنها تتعرض لكثرة من يراها.

وقال بن عبد البر لولا أن بن عيينة زاد في الحديث -أي حديث عائشة- أنهن استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف لقطعت بأن اعتكاف المرأة في مسجد جائز.

وشرط الحنفية لصحة اعتكاف المرأة أن تكون في مسجد بيتها وفي رواية لهم أن لها الاعتكاف في المسجد مع زوجها وبه قال أحمد.

شروط الاعتكاف

يشترط في المعتكف أن يكون مسلما مميزا طاهرا من الجنابة والحيض والنفاس، فلا يصح من صبي غير مميز ولا كافر ولا حائض ولا نفساء.

وقال العلماء: يكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه.

ومن الشروط التي اختلف الفقهاء فيها:

– الصيام:

قال مالك وأبو حنيفة وأحمد في القول الآخر لا يصح إلا بصوم وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم وفي الموطأ عن القاسم بن محمد مولى عبد الله بن عمر لا اعتكاف إلا بصيام لقول الله تعالى في كتابه وكلوا واشربوا إلى قوله وانتم عاكفون في المساجد فإنما ذكر الله الاعتكاف مع الصيام قال يحيى قال مالك وعلى ذلك الأمر عندنا واحتجوا بما رواه عبد الله بن بديل عن عمرو بن دينار عن ابن عمر أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “اعتكف وصم”. أخرجه أبو داؤد وقال الدارقطني تفرد به ابن بديل عن عمرو وهو ضعيف.

وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا اعتكاف إلا بصيام” قال الدارقطني تفرد به سويد بن عبد العزيز عن سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة.

وإذ نحن بصدد الحديث عن العشر الأواخر من رمضان فإن هذا الشرط متحقق، لكن لمن يتعذر عليه الصوم لمرض مثلا له الاعتكاف دون الصيام والله أعلم.

– الخروج من المعتكف:

ليس للمعتكف أن يخرج من معتكفه إلا لما لا بد له منه وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة لما روى الأئمة عن عائشة قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان” تريد الغائط والبول.

فإذا خرج المعتكف لضرورة وما لا بد له منه ورجع من فوره بعد زوال الضرورة بنى على ما مضى من اعتكافه ولا شي عليه ومن الضرورة المرضُ البين والحيض.

واختلفوا في خروجه لما سوى ذلك:

روى أبو داود من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: “السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه”.

و قال سعيد بن جبير والحسن والنخعي يعود المريض ويشهد الجنائز وروي عن علي وليس بثابت عنه.

وفرق إسحاق بين الاعتكاف الواجب والتطوع فقال: في الاعتكاف الواجب لا يعود المريض ولا يشهد الجنائز وقال في التطوع يشترط حين يبتدئ حضور الجنائز وعيادة المرضى والجمعة).

وقال الشافعي: يصح اشتراط الخروج من معتكفه لعيادة مريض وشهود الجنائز وغير ذلك من حوائجه) واختلف فيه عن أحمد فمنعه مرة وقال مرة أرجو ألا يكون به بأس.

أ- الخروج إلى الجمعة

ذكرنا أنه يجوز الاعتكاف في غير المسجد، لكن هذا لا يسقط عنه أمورا كالجمعة. فماذا عليه إن اعتكف في مكان لا تقام فيه الجمعة؟

اختلف العلماء في خروج المعتكف للجمعة، ونورد هنا آراءهم:

مشهور مذهب مالك أن من أراد أن يعتكف عشرة أيام أو نذر ذلك لم يعتكف إلا في المسجد الجامع وإذا اعتكف في غيره لزمه الخروج إلى الجمعة وبطل اعتكافه.

وقالت طائفة يخرج للجمعة ويرجع إذا سلم الإمام لأنه خرج إلى فرض ولا ينتقض اعتكافه، ورواه ابن الجهم عن مالك وبه قال أبو حنيفة واختاره ابن العربي وابن المنذر وقال عبد الملك يخرج إلى الجمعة فيشهدها ويرجع مكانه ويصح اعتكافه

وأجمع العلماء على أن الاعتكاف ليس بواجب وأنه سنة وأجمع الجمهور من الأئمة على أن الجمعة فرض على الأعيان ومتى اجتمع واجبان أحدهما آكد من الآخر قدم الآكد فكيف إذا اجتمع مندوب وواجب ولم يقل أحد بترك الخروج إليها فكان الخروج إليها في معنى حاجة الإنسان.

وأما إذا خيف الفتنة على المعتكفين إن كانوا جماعة في غير المسجد فإنه لا بأس أن يصلوا الجمعة من غير أن يفسد اعتكافهم، والله أعلم.

ويبقى السؤال: هل تجزئ الجمعة إذا لم تتحقق كل الشروط التي وضعها الفقهاء كالمسجد الجامع وغيره؟ فهذا مبحث لا يتسع الظرف في تفصيله هنا.

ب- الخروج لقضاء حوائج الناس:

روى البيهقي في شعب الإيمان عن عطاء عن ابن عباس أنه كان معتكفا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فسلم عليه فجلس إليه فقال له ابن عباس يا فلان أراك مكتئبا حزينا قال نعم يا ابن عم رسول الله لفلان علي حق ولا أقدر أن أرده إليه وحرمة صاحب هذا القبر ما أقدر عليه قال ابن عباس أفلا أكلمه فيك قال إن أحببت قال فانتعل ابن عباس ثم خرج من المسجد فقال له الرجل أنسيت ما كنت فيه قال لا ولكني سمعت صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم والعهد به قريب – فدمعت عيناه – وهو يقول: “من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيرا من اعتكاف عشر سنين”

أعمال الاعتكاف

اعلم أن الاعتكاف كله عبادة تؤجر عنها. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يزال أحدكم في صلاة مادامت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة” 4 وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “والملائكة تصلي على أحدكم مادام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه” 5 ومن الأعمال التي يستحب للمعتكف أن يملأ بها وقته ولا ينصرف إلى غيرها شاغلا وقته بها نذكر:

أ- الصلاة

وهي أفضل الأعمال لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “الصلاة خير موضوع فليكثر أحدكم أو يقل”، وجاء في صحيح الأخبار أن الله تعالى قسم الصلاة بينه وبين عبده فهي مناجاة، وأن الله يقبل عليه في الصلاة، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، والتقرب إلى الله يكون بالفرض أولا فإذا تم الفرض أركانا وخشوعا صح النفل.وهذا لا يتأتى إلا بمعية الخاشعين.

ولعل سعة الوقت تتيح للمعتكف أن يأتي بالفرائض مع الجماعة طيلة اعتكافه مع الرواتب والنوافل كصلاة الضحى وقيام الليل فإنه خير العبادات بالليل. والكيس من واظب على صلاة الاستخارة يتخذها عند الله عز وجل وسيلة ليلهمه رشده، وواظب على صلاة الحاجة لإبداء الافتقار إليه سبحانه والاعتماد عليه.

ب- الصوم

تقدم معنا أن بعض الفقهاء اشترطوا الصوم للمعتكف وإذ نحن بصدد الحديث عن الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان فإن هذا الشرط حاصل لكن الذي تجدر الإشارة إليه هو أثر الصوم على المعتكف، إذ أنه وسيلة عظيمة لتربية النفس حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الصوم نصف الصبر”. كما أنه يجعله متفرغا للعبادة منشغلا عن شهوة البطن، بالإضافة إلى فضله وميزته من بين العبادات الأخرى حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به”.

ج- الذكر بكل أنواعه

قال الله عز وجل: أتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحب الأعمال إلى الله أن تموت ولسانك رطب بذكر الله”. فدلت الآية الكريمة والحديث الشريف على مكانة الذكر من بين العبادات كلها، بل إنما شرعت العبادات لذكر الله عز وجل.

وقد وردت في السنة صيغ لذكر الله علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغب فيها وبين فضلها وأثرها.

* الكلمة الطيبة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفضل الذكر لا إله إلا الله” وبها يتجدد الإيمان لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “جددوا إيمانكم قالوا وكيف نجدد إيماننا يا رسول الله قال أكثروا من قول لا إله إلا الله”.

* الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

قال الله عز وجل مخبرا آمرا: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما.

وروى الإمام أحمد عن الطفيل بن أبي عن أبيه قال: قال رجل يا رسول الله أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك قال: “إذن يكفيك الله ما أهمك من دنياك وآخرتك”.

* التسبيح والاستغفار وغيرها من الأذكار الواردة بها السنة، مع تخصيص كل وقت بما يناسبه من صيغة.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إذا أدركت ليلة القدر ما أقول. فقال صلى الله عليه وسلم: ” قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني”.

* قراءة القرآن:

ومن الذكر قراءة القرءان وهو كلام الله عز وجل كما جاء في الأثر: من أراد أن يكلمه الله فليقرأ القرءان، ومن أراد أن يكلم الله فليدخل في الصلاة.

ثم لما لهذه العبادة من الأجر والثواب فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف” 6 .

وكذلك الاستماع لقراءة القرآن فإن فضله قد وردت به السنة حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من استمع إلى آية من كتاب الله كتبت له حسنة مضاعفة ومن تلاها كانت له نورا يوم القيامة” 7 .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن، يجهر به” 8 ومعنى أذن أي استمع، وهو إشارة إلى الرضا والقبول.

آداب الاعتكاف

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد فليقل إني صائم إني صائم”.

ويتأكد هذا في الاعتكاف: وليعلم المعتكف أنه في ضيافة الله عز وجل وعليه أن لا يرفث ولا يصخب ويعلم أنه في عبادة ما دام في معتكفه وأن يستغل كل لحظة في طاعة الله من قراءة للقرءان وذكر وصلاة وتعلم لأمور دينه، ولا يرفع صوته ولو بصلاة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن المصلي يناجي ربه فلينظر أحدكم بم يناجي ربه؟ ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن” 9 وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: “ألا كلكم مناج ربه فلا يؤدين بعضكم بعضا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة”.

وإذا أتى المعتكف كبيرة فسد اعتكافه لأن الكبيرة ضد العبادة كما أن الحدث ضد الطهارة والصلاة وترك ما حرم الله تعالى عليه أعلى منازل العبادة. وقد أمر الله في آخر آية الاعتكاف بعدم الاقتراب من حدوده فقال: تلك حدود الله فلا تقربوها وحدود الله معاصيه.

من نذر الاعتكاف

من نذر شيئا لله فإنه واجب عليه فعل ذلك وإن كان ذلك الفعل غير واجب وعليه أن يوفيه وإلا بقي في عنقه. ويدخل في هذا حتى من نذر صوما أو اعتكافا.

وفي ذلك كلام للفقهاء نورد بعضه. فإن قال لله علي اعتكاف ليلة ويوم وكذلك إن نذر اعتكاف يوم لزمه يوم وليلة.

وقال سحنون من نذر اعتكاف ليلة فلا شيء عليه وقال أبو حنيفة وأصحابه إن نذر يوما فعليه يوم بغير ليلة وإن نذر ليلة فلا شيء عليه كما قال سحنون قال الشافعي عليه ما نذر إن نذر ليلة فليلة وإن نذر يوما فيوما.

والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه ومن سار على دربه وأحيا سنته إلى يوم الجزاء والدين.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

المراجع

– نيل الأوطار للشوكاني

– فتح الباري لابن حجر العسقلاني

– تفسير القرطبي

– المنهاج النبوي لعبد السلام ياسين

– فقه السنة لسيد سابق


[1] رواه مسلم.\
[2] رواه مسلم.\
[3] أخرجه أبوداود والترمذي وغيرهما بسند صحيح.\
[4] متفق عليه.\
[5] رواه البخاري.\
[6] رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب.\
[7] رواه أحمد.\
[8] متفق عليه.\
[9] رواه أحمد بسند صحيح.\