الاعتراف بدولة فلسطين مقدمة إنصاف أم ذر للرماد في العيون؟

Cover Image for الاعتراف بدولة فلسطين مقدمة إنصاف أم ذر للرماد في العيون؟
نشر بتاريخ

منح الغرب والحكام العرب الكارهون لكل ما يَبُثُّ روحَ التحرر في الشعوب الوقت الكافي للاحتلال للقضاء على المقاومة. لكنه كلما ازداد الوقت الممنوح للاحتلال ازداد يأسه من تحقيق أية نتيجة. وكلما ازداد يأسه تصاعدت وحشيته، وتصاعد معها الغضب الشعبي ضد جرائمه، وازدادت أعداد المسيرات الضخمة التي تخرج من حين لآخر للتعبير عن ذلك الغضب، وازدادت أعداد الشخصيات الغربية المؤثرة التي تعلن دعمها لفلسطين رغم ما قد تدفعه من ثمن باهض لذلك، وازداد عدد الذين يفضّلون “حماس” على “الكيان” 1… ثم تُوِّج مسار الأحداث بالمؤتمر الدولي لحل الدولتين المنعقد يوم 22/09/2025 بنيويورك برئاسة “فرنسا” و”السعودية”، والذي أصدر بيانا يؤكد “الالتزام الدولي بحل الدولتين”، وحظي بتأييد 142 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن دون أية إدانة أو دعوة لوقف التجويع والإبادة الجماعية المستمرة في غزة، والتطهير العرقي في الضفة الغربية، وهجمات الجيش الإسرائيلي على كثير من العواصم العربية والإسلامية…

فهل هذه الخطوة إنصاف للمزاج المتصاعد ضد الكيان في الغرب، أم مجرد خدعة جديدة، وذر للرماد في العيون؟ 

حقيقة الموقف الشعبي في الغرب

في كتابه “الإسلام والغرب والمستقبل”، تحدث المفكر والمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي (Arnold Toynbee) عن تطور عداء الغرب للإسلام، مشيراً إلى أن هذا العداء ليس مجرد نتيجة لمواجهات معينة، بل هو ظاهرة متوارثة في الوعي الغربي عبر الأجيال دون الحاجة لتبرير أسبابها في كل مرة. وفي مطلع هذا القرن اُخْتُرِعْتِ”الحرب على الإهاب” لتكريس الإسلاموفوبيا وهو الخوف والتحامل والكراهية تجاه المسلمين أو الإسلام، لكن كل هذا لا ينبغي له أن يحجب عنا حقيقة أن الناس معادن 2، وأن التعميم مزلقة، وأن في بعض الغربيين خصال حسنة، ومنها: (خامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وأَمْنَعُهُمْ مِن ظُلْمِ المُلُوكِ) 3.

ولفهم الطبيعة البشرية التي قد تجعل بعض من لا يمُتُّون للإسلام بصلة مؤيدين للقيم الإنسانية، ويقومون ضد الظلم، وبعض المسلمين مؤدين للاستبداد، وقد يلتصق بقاع طبعهم الخنوع، ويرسخ في جنبات نفوسهم “دين الانقياد” 4، يمكن في كثير من الأحيان الرجوع إلى السيرة النبوية وحياة الصحابة رضي الله عنهم في الفترة التي كان الوحي ينزل فيها للتوجيه والتحدث بما في الصدور. ففي هذه الفترة نجد أن من الكفار ذوي مروآت عالية، كعتبة بن ربيعة 5 الذي كان يوم بدر في صف قريش وقال عنده رسولُ اللَّهِ ﷺ: (إن يَكُن في القومِ أحَدٌ يأمرُ بخيرٍ، فعَسى أن يَكونَ صاحبَ الجمَلِ الأحمر) 6، وفي سيرة هذا الرجل عبرة، كما أن من الصحابة من بقيت فيهم عادات جاهلية، وإذا كان ذلك حال من صحب رسول الله ﷺ بكيف بحال من دونهم من المسلمين؟

خلاصة القول إن في الغرب أفرادا وجمعيات غير حكومية نذرت نفسها لبعض القيم الإنسانية، يجب تقدير إنسانيتهم وصدقهم والحرص على التعاون معهم، لكن شأنهم شأن الصادقين من هذه الأمة، لمَّا يستطيعوا بعد التأثير في مجريات الأحداث (ولمَّا تنفي الفعل في الحاضر مع ترقب حدوثه في المستقبل)، وتجري عليهم “سُنَّةُ” السنوات الخداعات التي يؤتمن فيها الخائن، ويصدق فيها الكاذب 7.

حقيقة الموقف الرسمي الغربي

بخلاف الموقف الشعبي الغربي الذي يتحكم فيه مزاج الناس و”معدنهم”، فإن الموقف الرسمي من أية قضية من قضايا فلسطين أو المسلمين هو موقف مباشر أو غير مباشر من الصراع بين الصهيونية والإسلام؛ هذا الصراع الذي بؤرته في فلسطين وساحته الأرض كل الأرض، وبالتالي فإن مواقف الساسة الغربيين تتأسس على هذه الحقيقة، ويتخذونها تبعا لـ “منطق الربح والخسارة”. وكونهم يدركون مدى السيطرة الصهيونية التامة على كل المجالات يجعلهم ينحازون إلى مبدأ: “نحن مع من غلب” الذي أعلنه البعض، منذ إرهاصات الانقلاب الأموي على الخلافة الراشدة، للحفاظ على ما تبقى للأمة من مقومات أثناء غزو مسلم بن عقبة للمدينة المنورة واستباحته إياها وهتكه فيها وسفكه.. والذي أعلنه باكرا في هذا العصر جيمي كارتر، رئيس سابق لأمريكا، للحفاظ على كرسيه، لما استشعر  استباحة الصهاينة لأمريكا، وأجمل مقتضياته في قوله: “إن واشنطن تدعم الأنظمة الديكتاتورية العربية من أجل رفاهية إسرائيل؛ كل الرؤساء الأمريكيين فعلوا ذلك، وأنا أيضا”.

وإذا استثنينا موقف رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز الذي قال: “صحيح أننا اتخذنا خطوة حاسمة اليوم … لكن دعونا نكون واضحين، حل الدولتين مستحيل عندما تكون إحدى الدولتين ضحية إبادة جماعية”. فإن باقي المواقف هي كما قال كارتر (من أجل رفاهية إسرائيل). وفي هذا الصدد يقول الرئيس الفرنسي ماكرون بعد الإشادة بالنتائج “الرائعة” للحرب التي تمكنت من اغتيال كل القادة الكبار لحماس وحزب الله: (فيما يتعلق بمحاربة حماس فهذا فَشِلَ اليوم. الحرب قضت على نصف أعضاء حماس، لكنها تمكنت من تجنيد ما يعادل ذلك). ثم ينصح أهل ملته فقال: (إذا أردنا تفكيك حماس فالحرب الشاملة ليست هي الحل، لأنها ببساطة تقضي على مصداقية إسرائيل، وبالمناسبة فإنها تضعف وتقضي على مصداقيتنا إذا لم نتحرك).

إذن، فالحراك الدولي هو لانقاد “مصداقية” إسرائيل و”مصداقية” الغرب تجاه مواطنيه الذين يحتجّون على جرائم الاحتلال. أما دماء المسلمين ومصائبهم فلا بواكي لها. وحل الدولتين هو محاولة للانتقال من أسلوب المواجه الذي يثير عناصر المقاومة في النفوس، إلى الخداع والمكر والإغراءات التي تمني النفس، و(العاجِزُ مَن أتبَع نفسَه هَواها وتمنَّى على اللهِ الأمانِيَّ) 8. ثم هو محاولة لإنشاء أدوات محلية تقوم بالمهام التي عجز عنها الاحتلال: سلطة بوليسية لخص عباس دورها في كلمته: (لنْ يكونَ لحماس دور في الحكم، وعليها وغيرها من الفصائل تسليم السلاحِ للسلطةِ الفلسطينية، لأننا نريدُ دولةً واحدةً غيرَ مسلحة، وقانوناً واحداً، وقوات أمنٍ شرعية واحدة). وإضافة إلى هذا المكسب المتمثل في الجهاز الذي سينوب عن الاحتلال في القيام بالمهام القذرة هناك ثمن آخر كبير ستتقاضاه إسرائيل مقابل هذا الاعتراف، وقد أشار إليه رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في قوله: (الاعتراف بالدولة الفلسطينية لن يشكل خطرا على إسرائيل، بل هو في مصلحتها العليا، لأنها في كل الأحوال ستكون دولة شكلية وافتراضية وثمنها جلب كل العرب للتطبيع مع إسرائيل).

الخلاصة

غاية ما تسعى إليه الدول الغربية الكبرى من “الاعتراف بدولة فلسطين”، وهي التي لم تكلف نفسها حتى مجرد الإدانة الشكلية للإبادة الجماعية في غزة أو للتجويع أو لقصف العواصم العربية والإسلامية، هو:

  • انقاذ سمعة إسرائيل التي تتردى يوما بعد يوم.
  • انقاذ سمعة الغرب أمام جمهور عريض من مواطنيه.
  • إنشاء سلطة فلسطينية صهيونية عميلة، أبرز مهامها نزع سلاح المقاومة، وتفكيك حماس وباقي فصائل المقاومة.
  • جلب كل العرب للتطبيع الرسمي مع الاحتلال.

[1] كشف استطلاع أجرته مؤسسة هارفارد-هاريس ونشر في(New York Post )  بتاريخ 30/08/2025 (أن 60% من الجيل “Z” (24 – 18 عاما) يفضّلون “حماس” على “الكيان” في الحرب الحالية.
[2] إشارة إلى الحديث النبوي: (النَّاسُ مَعادِنُ كَمَعادِنِ الفِضَّةِ والذَّهَبِ، خِيارُهُمْ في الجاهِلِيَّةِ خِيارُهُمْ في الإسْلامِ إذا فَقُهُوا) رواه مسلم في صحيحه.
[3] إشارة إلى الحديث النبوي: (تَقُومُ السَّاعَةُ والرُّومُ أكْثَرُ النَّاسِ. فَقالَ له عَمْرٌو: أبْصِرْ ما تَقُولُ، قالَ: أقُولُ ما سَمِعْتُ مِن رَسولِ اللهِ ﷺ قالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذلكَ، إنَّ فيهم لَخِصالًا أرْبَعًا: إنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وأَسْرَعُهُمْ إفاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ ويَتِيمٍ وضَعِيفٍ، وخامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وأَمْنَعُهُمْ مِن ظُلْمِ المُلُوكِ). رواه مسلم.
[4] (دين الانقياد): يعود هذا المصطلح إلى ابن خلدون ويعبر به عن حال الأمم حين تستسلم وتنقاد لحكامها، يقول: (ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتسليم، وقاتل الناس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانية… كأن طاعتها كتاب من الله لا يُبَدل ولا يُعْلم خلافه).
[5] عتبة بن ربيعة (أبو الوليد): أحد سادات مكة ووجهاء قريش في الجاهلية، معروف بالحلم والرأي، كان له دور في إيقاف حرب الفجار، ونصح قريش، ولكنه لم يسلم عند ظهور الإسلام واتبع قريش ضد المسلمين، وقد قُتل في غزوة بدر. وعندما قتل ظهرت على وجهه ابنه أبي حذيفة علامات الكآبة والحزن، فتعجب النبي ﷺ وسأله إن كان متأثرًا بما رأى. فأجابه أبو حذيفة بأنه لم يشك في قضاء الله، لكنه حزن لأنه كان يرجو أن يهدي الله أباه إلى الإسلام لما كان لديه من عقل وفضل.
[6] المحدث: الهيثمي، المصدر: مجمع الزوائد، الصفحة أو الرقم: 6/78، أخرجه أحمد (948)، وابن جرير الطبري في ((التاريخ)) (2/ 424)، واللفظ لهما، والبزار في ((البحر الزخار)) (719)، باختلاف يسير، وأبو داود (2665)، مختصرا.
[7] إشارة إلى الحديث النبوي: (سيَأتي علَى النَّاسِ سنواتٌ خدَّاعاتُ يصدَّقُ فيها الكاذِبُ ويُكَذَّبُ فيها الصَّادِقُ ويُؤتَمنُ فيها الخائنُ ويُخوَّنُ فيها الأمينُ وينطِقُ فيها الرُّوَيْبضةُ قيلَ وما الرُّوَيْبضةُ قالَ الرَّجلُ التَّافِهُ في أمرِ العامَّةِ). أخرجه ابن ماجه واللفظ له، وأحمد.
[8] جزء من الحديث: (الكَيِّسُ مَن دان نفسَه وعمِل لما بعدَ الموتِ والعاجِزُ مَن أتبَع نفسَه هَواها وتمنَّى على اللهِ الأمانِيَّ). رواه ابن ماجة.