الاستقرار الأسري.. فن وصناعة

Cover Image for الاستقرار الأسري.. فن وصناعة
نشر بتاريخ

في سفرنا هذا التأملي حول عالم الأسرة واستقرارها، ننطلق من كتاب الله تعالى ومن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ومن سيرته، ثم إليهما نعود. نستخرج ما ينير رحلتنا علنا نصل بأسرنا إلى بر الأمان.

يقول تعالى في سورة الروم الآية 20: وَمِنَ اٰيَٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنَ اَنفُسِكُمُۥٓ أَزْوَٰجاٗ لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحْمَةًۖ اِنَّ فِے ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَتَفَكَّرُونَۖدعوة هي إذن للتفكر والتدبر والتبصر في عجيب صنع الله، فخلقه سبحانه للزوج المرأة هو آية من آياته جل جلاله.

ونفتح قوسا لنشير إلى التأكيد على لفظ الزوج وليس الزوجة كما هو متداول، فالزوج وردت بمعنى الرجل والمرأة أيضا بدليل قول الله تعالى في سورة الأنبياء وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لنا خَاشِعِينَ (90).

تدل الآية الكريمة من سورة الروم على بعض مقاصد الزواج السامية، وهو تحقيق السعادة والسكن، وما السكن إلا استقرار وهدوء وراحة بال واطمئنان شطري العلاقة الزوجية إلى بعضهما، حاجة بشرية لا تستقيم إلا بوجود الزوج المرأة. فالاستقرار الأسري إذن مطلوب حتى يتفرغ بنو البشر إلى البناء والاستخلاف وعبادة الله وهي غاية الغايات وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات، 56).

فكيف يأتي الاستقرار إذن؟ وما أدواته؟ وما السبيل اليه؟ وهل ننتظر حتى يحصل الزواج كي نبحث في ماهية الاستقرار؟

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “العمل بلا علم خبط عشواء”، فكل فعل يقدم عليه الفرد ويتوسم نجاحه لا بد له من وعي به ومعرفة بكيفية إتقانه، وإلا انهار أمام أول عقبة تعترضه. والزواج، ذاك الميثاق الغليظ، مؤسسة عظيمة ثقيلة الوزن عند الله عز وجل، وينبغي لكل من أراد الولوج إليها أن يتسلح ببعض المهارات وأن يكتسب بعض التقنيات كي يتقن هذه الصناعة. هي إذن صناعة ودربة وفن أيضا، فمتى ما اكتسب الفرد أساسيات بناء مشروعه وأعد له عدته وارتقت معارفه في المجال إلا وبرزت مواهبه في التفنن في إتقانه وصار فنانا في صناعته.

إن كل بيت نرغب في بنائه لا بد له من أرضية صلبة وأساس متين يتحمل ثقل البناء، ثم إلى أعمدة تشكل أركان البيت، وإلى جدران تحصنه وتؤطره وتحميه، ثم إلى سقف يحميه الحر والقر. وهكذا هو بيت الزوجية، وسنحدد لكل جزء مواد بنائه حسب درجة أهميتها وخصوصيتها في البناء.

نرى وبالله التوفيق، أن أساس بناء أرضية بيت الزوجية يدخل فيه عناصر ثلاثة أساسية:

أولا: تقوى الله، أو الحافز الديني، قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ (الطلاق، من الآيتين 2 – 3). فأية علاقة إنسانية لا تنبني على الوازع الديني فهي محاطة بخطر الانهيار، وهذا لا يعني أن الوازع الديني عاصم من المشاكل وإنما هو إطار يحتكم إليه، بدليل أن أرقى علاقة زوجية في التاريخ الإنساني، وهي علاقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو خير الأزواج على الإطلاق بزوجاته، قد حصل فيها بعض الشنآن، وسنرجع إلى بعض المحطات لنستقي منها قواعد ومهارات تدبير الخلافات الزوجية.

ثانيا: العنصر الثاني الأساسي هو عدم النظر إلى الطرف الآخر بنظرة مغرقة في المثالية؛ فيرى هو فيها سيدتنا أسماء وترى هي فيه سيدنا الزبير. أو ما يسميه بعض الأخصائيين بالمراهقة الدينية. حتى إذا التقيا في سكن واحد واشتركا المأكل والملبس والفراش فتظهر الأنانيات والطباع المختلفة والذهنيات المتباينة مع كل ما يحملانه من تقليد تربوي انتقل معهما من بيت الأهل فيحصل النزاع والخلاف. ينبغي إذن لكل طرف أن يرى في شريك حياته بشريته بكل نواقصها وأن يتوقعها ويتقبلها أيضا.

ثالثا: تفهم الفروق بين الجنسين قال تعالى: وليس الذكر كالأنثى، فينبغي على الطرفين فهم الخارطة الذهنية والنفسية والفكرية لكل منهما، فلكل طريقته في التفكير والتأويل أيضا.

ونطل على بيت النبوة عبر خلاف وقع بين سيد الأزواج وبين أمنا عائشة لننظر كيف عالج عليه الصلاة والسلام هذا النزاع بالحكمة، ونتعرف إلى المهارات التي استعملها لتدبير الخلاف.

جرَى بينه (أي بين سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) وبين عائشةَ كلامٌ، حتَّى أدخلا بينهما أبا بكرٍ رضي اللهُ عنه حكَمًا، واستشهده، فقال لها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: تُكلِّمين أو أتكلَّمُ؟ فقالت: بل تكلَّمْ أنت ولا تقُلْ إلَّا حقًّا، فلطمها أبو بكرٍ حتَّى دَمِيَ فوها، وقال: يا عَدِيَّةَ نفسِها أوَيقولُ غيرَ الحقِّ، فاستجارت برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقعدَتْ خلفَ ظهرِه، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لم ندْعُك لهذا ولا أردنا منك هذا”(تخريج الإحياء، 56/2، إسناده ضعيف).

إن أول مهارة نتعلمها من سلوك النبي صلى الله عليه وسلم هو البحث عن الحكم لفض النزاعات العويصة، وليس أي نزاع يتدخل فيه الحكم. تقنية رشيدة تسرع في فض النزاع. لكن بشرط أن يكون الحكم صالحا حكيما لبقا متمكنا من إدارة الخلاف بالعدل والإنصاف.

ثم نقف عند لطف النبي في استشارتها في الحكم المنتقى للقضية، وفيها إشارة إلى الإشراك وأخذ رأي المرأة في كل تفاصيل الحياة. ولم ينتصر عليه الصلاة والسلام لنفسه، حين اقترح أباها وهو طرف قد لا يكون محايدا في الكثير من العلاقات، لكنه فعل إكراما لها، ثم إنه عليه الصلاة والسلام لم يركب على وتر القوامة وألزمها بمن اقترحهم ولم تنكمش هي وتذعن لرأيه. مساحة لإبداء الرأي دونما خشونة أو تسلط. وذاك نتاج التربية النبوية القائمة على الحرية والعدل.

والقصة في نسيجها العام تمت في إطار مبدأ الحوار والأخذ والرد بين الطرفين، وهو مبدأ محوري ينبغي أن نؤسس له في علاقاتنا الأسرية.

وفي قولها: “تكلم أنت ولا تقل إلا خيرا”، أي قل الحقيقة بلا زيادة أو نقصان، هو كلام تبدو في ظاهره بعض الشدة والخشونة. لكن هل هاج رسول الله وأزبد وأرعد من قولها؟ طبعا لم يفعل، لأنه متفهم لنفسية زوجه والغرض من كلامها وبساطة تعبيرها، فلم يؤول كلامها تأويلا سلبيا كما فعل أبوها. وهذه النقطة هي مربط الفرس في التواصل بين الأزواج: تجاوز التأويلات السلبية للأقوال والأفعال، كما نفهمه أيضا من حادثة كسر أمنا عائشة لقصعة حفصة المهداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبها ثريد بدافع الغيرة، فما زاد عليه السلام في التعليق على الحدث بقوله: غارت أمكم، غارت أمكم.

بهذا نأتي على تحديد عناصر بناء الأرضية القوية والمتينة. فننطلق إلى الحديث عن الدعامات الأساسية لأركان البيت السعيد. فما هي يا ترى؟

إن مما نستلهمه من سيرة سيد المرسلين في تعامله مع زوجاته:

الرفق واللين: كان عليه الصلاة والسلام لين الجانب رقيقا لطيفا، ما شوهد أبدا قاسيا مع الناس أو مع أهل بيته. وقد أخبره ربه أن هذا الخلق هو ما جعل الناس يلتفون حوله وحول دعوته، قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اَ۬للَّهِ لِنتَ لَهُمْۖ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ اَ۬لْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَۖ  (آل عمران، 159)، فما وهبه الله تعالى من رقة ولطف ولين هو رحمة من الله، هبة وعطاء. قوله تعالى “لانفضوا من حولك” أكبر دليل على أن الرفق يجمع، أما العنف فيفرق.

وفي البيان النبوي: “إن الله يحب الرفق في الأمر كله” (متفق عليه)، وأيضا يا عائشةُ، ارفُقي؛ فإن الله إذا أراد بأهلِ بيتٍ خيرًا أدخل عليهم الرِّفقَ (أخرجه أحمد (24734) باختلاف يسير، وابن الجعد في ((المسند)) (3453)، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (4/295) مختصراً). فالرفق إذن مصدر الخير والهناء وراحة البال في الأسرة السعيدة.

المعاشرة بالمعروف: قال تعالى: وعاشروهن بالمعروف يقول الطبطبائي في تفسير الميزان: المعروف هو ما يعرفه الناس بالذوق المكتسب من الحياة الاجتماعية المتداولة بينهم، وهو التعامل بأسلوب لائق يتناسب مع تعاليم الشرع وأعراف المجتمع.

والمعاشرة الطيبة تشمل القولية والفعلية؛ من صحبة طيبة وبذل الخير والعطاء والنفقة والكسوة وحسن المعاملة وكف الأذى.. قال عليه الصلاة والسلام: “استوصوا بالنساء خيرا”. ويدخل ضمن المعاشرة محوران: الاحترام والتقدير وما يدخل تحتهما من خصال، ومحور أداء الحقوق ضمن ما تعارف عليه المجتمع. وقد حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم مفهوم الخيرية والأفضلية ونسبها لمن يحسن إلى أهل بيته ويعاملهم بالحسنى ويعاشرهم بالمعروف. قال: “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي” (حسن صحيح).

الحوار والتواصل: تقنية مهمة مرت معنا في خلاف سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام مع أمنا عائشة. مهارة مهمة ينبغي اكتسابها والتدرب عليها حتى نتفادى الكثير من العوائق، فقد يكون الخلاف في أوله مجرد سوء تفاهم لكنه يكبر ككرة الثلج كلما أهمل في الحوار.

الثقة: هي صمام أمان استقرار الأسرة، فغيابها وحضور الشك هو المعول الهدام الذي ينخر في أساس الأسرة ويرديها في الهاوية. الغيرة مطلوبة لكن حذار من الغيرة المرضية التي تعلو عن سقف المعقول: فمن فقد الثقة في شريك حياته فقد الطمأنينة وراحة البال.

وبعد تثبيت الأركان على الأساس المتين نمر إلى ذكر اللبنات التي بها نبني ونشيد لعمران الأسرة الرشيدة والسعيدة، وهي كثيرة وأصيلة في أخلاق المسلمين وفي تقاليدهم المنسجمة مع تعاليم الدين، لكن ما تعرضت له الأسرة المسلمة كما المجتمع بأسره من تغريب فكري واغتصاب أخلاقي واستلاب حضاري أفقدنا الكثير منها. وهي لبنات نقسمها حسب ما هو نفسي وذاتي، وماهو سلوكي، اجتماعي، ومالي.

فالنفسي منها كالصبر والمصابرة في تجاوز صعوبات الحياة واستيعاب الطرف الآخر بعيوبه.

والذوقي: كغض الطرف عن بعض الأمور الجزئية والمداراة واستصغار المشاكل، والمصارحة العاطفية، والتعاون في خدمة البيت ورعاية الأبناء، وترك مسافة بين الزوجين وعدم الانصهار والذوبان كليا في شخص واحد.

والسلوكي: كحسن التعامل على أرضية الإحسان طلبا لوجه الله بدل أرضية الندية والحقوقية، فالحياة الزوجية ليست معركة وإنما هي عبادة بدليل الحديث المعروف: “وفي بضع أحدكم صدقة” (من حديث صحيح رواه مسلم).

وهناك من اللبنات ما هو اجتماعي: كالإحسان إلى الأصهار والوالدين وتقديرهما. والإشراك والمشاركة في اتخاذ بعض القرارات. ثم الاستقلالية في تربية الأبناء ومراعاة القواعد السليمة في ذلك.

وهناك ما هو مالي: كالتدبير المالي الجيد وترشيد النفقات وهو من مقاصد الدين الكبرى، وهي مهمة الزوج المرأة والرجل على السواء.

وختاما؛ نتخيل جميعا بيتا أو أسرة أساسها متين، وأركانها قوية، ولبناتها صلبة عصية عن الاختراق، فأي سقف هذا الذي سيظله وأي غطاء سيحميه ويدفئه؟

الجواب في الآية المنطلق في حديثنا. نعود إليها لنكتشف ماهية السقف والغطاء الرباني الذي وعد به تعالى الأسرة التي حققت السكن والتساكن. والشاهد عندنا قوله تعالى: وجعلنا بينكم مودة ورحمة؛ هو عطاء وهبة، تتويج إلاهي يزين به رب العزة هذين اللذين التقيا في الله وزرعا زرعهما حتى استغلظ واستوى على سوقه. فبعد أن يحصل السكن والسكينة والاطمئنان والاستقرار والتكامل الوظيفي بين الزوجين يحظيان برداء المودة والرحمة والمحبة والألفة تكريما ربانيا، وما أجله من تكريم.

في الأخير، أختم بحكمة من حكم ابن عطاء الله السكندري يقول: “العلم النافع هو الذي ينبسط في الصدر شعاعه، وينكشف به عن القلب قناعه”. وفحوى هذه الحكمة ومعناها، أن كل علم تلقيته ولم يترك فيك أثرا يغيرك وينقلك من حال إلى حال، ويشعل فيك جذوة إرادة التغيير والعزم، وينير شعاعه صدرك، فليس بنافع لك. وإن كان في ماهيته كذلك، لكن منفعته لم تلامس إرادتك. والخلاصة أن نتلقى كل علم وكل معرفة بإرادة التغيير وعزيمة الارتقاء…

جعلنا الله وإياكم ممن يسمعون القول ويتبعون أحسنه.