لبيت المقدس وأكناف بيت المقدس مكانة خاصة، ورمزية عقدية للمسلم بصفة عامة، وبالنسبة للمغرب الأقصى أولى وأعمق؛ فهو مرتبط معه بسيرورة تاريخية، وبرباط مقدس يحتم عليه أن يكون من أولى الشعوب دفاعا عن تلكم الأرض المباركة؛ فإرث الأجداد هناك يستدعيه بإلحاح أن يثبت حضوره وفاعليته التاريخية، في زمن تعرض فيه موروثه هناك للطمس والتدمير والتغييب، مثلما حدث سابقا لحارة المغاربة التي هدمت من طرف الصهاينة خلال حرب الستة أيام 6 يونيو 1967.
وعند نهاية الحرب دمرت إسرائيل الحارة التي شملت 135 بيتا، ومسجدين أحدهما مسجد البراق الشريف، وتم بناء حائط المبكى بدل حائط البراق على جزء كبير من أنقاضها، بعدما أخرجت عوائل مغربية من بيوتها بالقوة، ورحلت لمصير مجهول، وهجرت أخرى بعد قرون إلى موطنها الأصلي من عمان إلى الرباط… أما التبريرات الإسرائيلية لتدمير الحارة بأنها تعوق الرؤى الصهيونية وتحول دون إبراز «حضور المقدس اليهودي» باعتبار القدس العاصمة الأبدية لإسرائيل والشعب اليهودي 1.
ولعلنا نسترجع بعضا من الذاكرة، بمحاولة الغوص والنبش في ماضينا العريق، لنفهم الجذور التاريخية للتواجد المغربي بفلسطين، لتفسير هذه الصلات العميقة بين الشعبين، علنا نلملم ما استطعنا شمل الموضوع؛ فالمغاربة دائما ما دأبوا على المجاورة بالمسجد الأقصى، والمسجد الحرام والنبوي، عبر رحلاتهم الحجية أو الحجازية 2؛ وغالبا ما كانوا يقدمون الزيارة أو يؤخرونها لأداء مناسك الحج ببلاد الحرمين اقتداء بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام الذي قال فيه: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» 3.
وهناك الكثير من الرحلات الحجازية التي توثق لهذا الترابط الروحي بين المغرب والمشرق سواء في العصر الوسيط من قبيل؛ رحلة أبي الحسن (محمد بن أحمد) ابن جُبير الأندلسي (ت614ﻫ)، ورحلة أبي عبد الله (محمد بن عمر) بن رُشيد الفهري السّبتي المسماة «ملء العيبة» (ت721ﻫ)، والرحلة المغربية لأبي عبد الله (محمد بن محمد بن علي) العبدري الحيحي (كانت رحلته سنة 688ﻫ)، ورحلة أبي القاسم (بن يوسف) التجيبي (ت.730ﻫ) المسماة بـ«مستفاد الرحلة والاغتراب»، ورحلة لمحمد (بن عبد الله بن ابراهيم) اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» (ت. 779هـ).
أما العصر الحديث فبدوره عرف رحلات مثل؛ رحلة أبو سالم العياشي التي تسمى «ماء الموائد»، والرحلة الناصرية الكبرى والصغرى، ورحلة ابن الطيب الشرقي، ورحلة الوزير ابن عثمان المكناسي الذائعة الصيت: «إحراز المعلى والرقيب في حج بيت الله الحرام وزيارة القدس الشريف والخليل والتبرك بقبر الحبيب»، وغيرها الكثير مما لا يسع المجال لذكره. فيما عرف برحلات «ركب الحاج المغربي» 4.
فإذا تتبعنا كرونولوجيا الرحلات المغربية فنجدها لم تنقطع منذ دخول الإسلام للمغرب إلى عصرنا الحاضر، ومن أكثر الشعوب كتابة وتوثيقا لمسار وأحداث الرحلات الحجية هم المغاربة، نظرا للرباط الروحي والعلمي الذي يربطهم بتلكم الأماكن المقدسة، لهذا فالخزائن العلمية للتراث المغربي تعج بهذا الصنف من الأجناس المصدرية.
أما الجانب الثاني الذي لا يقل أهمية عن الأول، فهو سمعة المغاربة في الجهاد البحري والبري، وصيتهم الذي انتشر في المغرب والمشرق، وهذا ما دفع القائد صلاح الدين الأيوبي أن يطلب النصرة من السلطان المغربي أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي، صاحب «معركة الأرك الخالدة» (591هـ/ 1195م) التي انتصر فيها على الجيش الصليبي بالأندلس بقيادة ألفونسو الثامن؛ فيما عرف عندهم «بحروب الاسترداد»، فأمده بالجيش والعتاد ومن ضمنها مراكب حربية.
لهذا بعدما تم الانتصار على الصليبيين في «معركة حطين» عام (583 هـ / 1187 م)، وانتهت الحرب وافتتحت القدس، قرر المغاربة العودة لبلادهم، لكن صلاح الدين الأيوبي ألح عليهم باستيطان القدس، واقتطع لهم تلك الأراضي وهنا قال مقولته الشَّهيرة: «أسكنت هنا من يثبتون في البر ويبطشون في البحر، وخير من يؤتمنون على المسجد الأقصى وعلى هذه المدينة» 5.
وعرفانا منه بجهاد المغاربة أوقف الملك الفضل بن صلاح الدين الأيوبي هذه البقعة على المغاربة في سنة (1193م/583 هـ)، حيث اعتاد المغاربة أن يجاوروا قرب الزاوية الجنوبية الغربية لحائط الحرم، أقرب مكان للمسجد الأقصى، وفي هذه الفترة الزمنية أطلق إسم المغاربة على باب تلكم الحارة المرابطة 6.
ويبدو اليوم بأننا لم نستفد من دروس التاريخ، ولم نأخذ العبر، فكما اعتدى الكيان الصهيوني هناك سيعتدي هنا… فالبداية هي التطبيع بأشكاله السياسي والفلاحي والصناعي، وأخطرها الثقافي الفكري الذي بدأ يغير أنماط التفكير ويتلاعب بالمتجذر في الذاكرة الجمعية للشعب المغربي، للأسف هذا ما صرنا نلحظه في واقعنا الاجتماعي، مع تغير وتيرة التفكير السريعة؛ فمنا من يساند ويدافع عمن غصب أرض الغير بالحديد والنار والتهجير، ومنا من يعتبر الصهيوني أقرب له من المسلم؛ ويتبني المخطط العرقي الإقصائي ليقسم أبناء الوطن الواحد، ويضرب أحدهم بالآخر بعدما جمعهم الإسلام وعاشوا لقرون عدة بسلام.
فنفث النعرات القبلية بين أبناء الشعب الواحد، لن يخدم مصلحتهم أكيد، بل سيخدم أجندة الكيان الصهيوني الدينية ليسهل عليه في الأخير السيطرة عليهم بدون أدنى مقاومة وباستسلام وخنوع.
هؤلاء هم من اعتدوا على إرث المغاربة… فتلكم الحارة التي تعرضت للتضييق وتغيير معالمها، وكسر ملامح بنيتها الديموغرافية، فجزء منها حاليا يسمى «بحارة اليهود»، تستنجد بأحفادها للرباط مجددا بجوارها بالمسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين، ومسرى الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذا الشعور بالانتماء والارتباط لغزة وفلسطين ليس وليد اللحظة، بل هو دفين ومتوارث تناقلته الأجيال؛ جيلا بعد جيل.
فالوقوف حاليا مع غزة؛ ليس قضية حسابات ولا انتماءات سياسية ولا تيارات فكرية، هي قضية الإنسانية قبل كل شيء، وأم القضايا راهنا، هي بوصلة الإنسان العادلة التي توجهه للاختيار الصحيح، هي صوت الضمير الحي الذي يؤرق صاحبه إذا انحرف عن المسار الواضح والمحجة اللاحبة، هي تلك الصورة القاتمة عن الكيان الصهيوني التي انطبعت في المخيلة وتأبى أن تنجلي من الذهن والفكر، تدفع الإنسان كي لا يغمض عينيه عن بشاعة ما يرى، وعن فظاعة ما يسمع، وعن هول المشهد، لم يعد يُتَحدث عن الدمار، والأرض المحروقة، والإبادة، والتطهير العرقي، إنها مشاهد تفوق الوصف، فكل شيء انمحى واندثر، تغير كلي لمعالم المكان، وباختصار إنها قيامة غزة…
على الأقل أن لا يخسر الإنسان إنسانيته وفطرته السوية، ولا يتأثر باهتزاز القناعات والمواقف في زمن موار، وأن لا يزن القضية بميزان المصالح، وأن يقف مع المستضعف على الدوام، للحفاظ على سلامة المبادئ والقيم من التمييع.
وحري بنا وقت الهرج والفتن واشتباه الناس بين الحق والباطل، أن نوجه بوصلة قلوبنا وأجسادنا نحو ذاك الفرد أو المجتمع الذي يشكل أمة لوحده، والذي مكنته عدة صفات من الثبات على الحق، ومقارعة الظلم بإقدام؛ بتبني استراتيجية الخروج من دائرة النظام العالمي الجديد، وبتخطي المنهج السائد، والأسلوب المألوف، والطريق السهل الذي يستسيغه الكل بلا استثناء، تلك المزايا خولته أن يكون: متفردا في قراراته، مستقلا بإرادته، لا يملى عليه ما يفعل، لا يتبع التبعية المطلقة، وبهذا يصنف خارج نطاق منظومة الإمعية العالمية، ويعد في عصرنا الراهن النموذج الذي يحتذى به من المنظور الإلهي، وليس بالمنظور الدنيوي الذي يقيس الأحداث والوقائع الراهنة بمقياس الخير والشر البشري.
ولهذا يظن الجميع أن «أهل غزة» هلكوا لاختيارهم الصعب العصي على الفهم أولا؛ وبالأحرى معايشة أحداثه على وسائل التواصل الاجتماعي ثانيا، أو تصور العيش على منواله في الواقع؛ ما يعتبر ضربا من الخيال وخرقا للمستحيل، فهذا ملا نطيق معه صبرا، بينما هم بالدماء والأنفس والأموال يسجلون حضورهم في قلب التاريخ، ويعيدون للأمة شهودها الحضاري، بينما الآخر الذي سلك مسلك الانصياع يظن أنه طرق باب النجاة، لكن ستظهر لنا السنوات المقبلة ما نتوجس منه خيفة ونحذر، سيدخل علينا ذاك عقر دارنا، ونحن في غفلة من أمرنا، سيسحب من الوطن قراراته المصيرية، في السياسة والاقتصاد والفكر، وسيحاول ضرب الأمن الاجتماعي ببث النعرات العرقية للتفريق بين أبناء الدين الواحد، ونكون بذلك أمضينا بأيدينا إسفين نعشنا الأخير.
[2] أبوسالم (عبد الله بن محمد) العياشي، «الرحلة العياشية 1661/1663»، تحقيق، سعيد الفاضلي، سليمان القريشي، دار السويدي التوزيع والنشر، أبو ظبي، ط1، 2004، صص448ـ449.
[3] البخاري، أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل الجعفي، الجامع الصحيح للبخاري، من رواية أبي ذر الهروي، تحقيق، عبد القادر شيبة الحمد، فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر، الرياض، ط1، 2008. ص 344، برقم: 1165.
[4] محمد المنوني، حديث ركب الحاج المغربي، مطبعة المخزن، تطوان، 1953، ص7.
[5] عبد الهادي التازي، «القدس والخليل في رحلات المغاربة ابن عثمان نموذجا»، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة إيسيسكو، 1997.
[6] عبد الهادي التازي، «القدس والخليل في رحلات المغاربة ابن عثمان نموذجا»، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة إيسيسكو، 1997، ص83.