الابتلاء.. محنة أم منحة؟

Cover Image for الابتلاء.. محنة أم منحة؟
نشر بتاريخ

لا يخفى على أحد أن الدنيا دار بلاء وامتحان، فكل فرد منا معرض لابتلاءات كثيرة ومتعددة؛ فقد يبتلى المؤمن أحيانا بالمرض في جسده، أو بنقص ماله، وأحيانا أخرى قد يبتلى في دينه، أو بانحراف ولده عن جادة الصواب، أو بفقد الأحبة.. وهكذا تتقلب عليه الأحوال والأقدار، فلا يدري كيف سيتحمل هذه المصائب، خاصة أن بعض الرزايا قد تطيش منها العقول إذا لم تتحصن بقوة الإيمان والقدرة على الصبر والمصابرة لمواجهة الابتلاء، يقول الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (البقرة: 155).

وفي هذا السياق يبرز سؤال جوهري يطرح نفسه بإلحاح كبير: لماذا كتب الله علينا البلاء؟

هذا السؤال ليس اعتراضا على مشيئة الله في كونه لا سمح الله، لكنه سؤال نجلو به حقيقة الابتلاء، ونفهم به حكمة الله سبحانه وتعالى في تدبير شؤون خلقه، ونتلمس به نور الرحمة في عتمة الابتلاء.

ولكي نكشف حقيقة البلاء نقف على ما ذكره الراغب الأصفهاني في قوله: “إن اختبار االله تعالى لعباده تارة بالمسارّ ليشكروا، وتارة بالمضـار ليصـبروا، فصارت المحنة والمنحة جميعاً بلاء، فالمحنة مقتضية للصبر والمنحة مقتضية للشكر، والقيـام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر، فصارت المنحة أعظم البلاءين” 1.

وقال القرطبي: “البلاء يكون حسناً، ويكون سيئاً، وأصله المحنة، والله عز وجـل يبلـو عبـده بالصنع الجميل ليمتحن شكره، ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره، فقيل للحسـن بـلاء، وللسيء بلاء” 2.

وهكذا نفهم أن البلاء يجمع بين المنحة والمحنة، لذلك يقال: “رُبَّ مغْبُوطٍ بمسّرة وهي داؤُهُ، ومَرْحومٍ من سقمٍ هو شفاؤُهُ” 3.

قال تعالى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونْ (الأعراف: 816)، وقال: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (الأنبياء: 35)، إذن فالبلاء يكون بالحسن والسيء، كما يكون في الشر والخير معا، وكما قال الأصفهاني شكر النعمة المغلفة بالابتلاء هي أصعب من الصبر على الشر الذي هو في ظاهره بلاء. فاللهم ارزقنا الصبر عند المحن، والشكر وقت المنح.

بعد أن أمطنا اللثام عن جوهر البلاء ومعناه، ننتقل إلى الغاية من الابتلاء ومقاصده.

من تمام حكمة الله سبحانه وتعالى وبديع خلقه، أنه نوع صور الابتلاءات حسب قدرة خلقه على طاقة التحمل، لأن القدرات والطاقات والاستعدادات التي وهبها االله سبحانه وتعالى لعباده تختلف من فرد لآخر، وفق ما أوتي من قـدرة واسـتعداد، وما منحه الله إياه من نعم وعطايا، كمـا قـال تعـالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ (الأنعام: 165).

مقاصد الابتلاء

من مقاصد الابتلاء:

1. تحقيق العبودية لله رب العالمين

 البلاء درس من دروس التوحيد والإيمان، يختبر من خلاله المؤمن مدى صبره وحسن توكله على مولاه، ليصل إلى عين الحقيقة وهي؛ أن الإنسان لا حول ولا قوة له إلا بالله، ففلاحه في الدنيا مقرون باتصاله بخالقه، وصبره على البلاء، والشكر في السراء والضراء وقاية من الضياع والخسران. قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (الحج: 11).

2. تهذيب النفس وتقويم اعوجاجها

قال ابن القيم: “فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا، والله سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله، يستفرغ به من الأدواء المهلكة، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه: أهَّله لأشرف مراتب الدنيا، وهي عبوديته، وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه” 4.

نفهم من قولة ابن القيم أن الابتلاء يربي المؤمن حتى لا يطغى فوق الأرض، ويهذب أخلاقه ويصوب عثراته، كما يستفرغ به أمراض النفس حتى يؤهله إلى أشرف المراتب ويحظى بأعظم الثواب وهو القرب من الله سبحانه وتعالى.

3. تمحيص المؤمنين وتمييز المفلحين من الخاسرين

الشدائد والمحن تكشف معادن الناس، لأنها تظهر جوهر الإنسان وحقيقته وصدق إيمانه ومواقفه وأقواله وأفعاله، وهذا يحقق العدالة لكل إنسان يوم القيامة، فتتميز مراتب العاملين المحسنين، ودركات العاصين المسيئين؛ وتقام الحجة على كل إنسان.

قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (محمد: 31).

وقال سبحانه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (العنكبوت: 2).

وقال عز وجل: مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (آل عمران: 179).

الابتلاء امتحان واختبار للمؤمنين، يختبرهم به سبحانه ليعلم المجاهد من القاعد، ويميز الصابر عن الساخط، والمؤمن من المنافق، والخبيث من الطيب، ويبلو أخبارهم ليعرف الصادق منهم في إيمانه من الكاذب.

4. رفع الدرجات وزيادة الأجر

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ((مـا يـزال الـبلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى االله وما عليه خطيئة)) 5.

الحديث يؤكد على التتابع والاستمرار في تعرض المؤمن للبلاء، كما يحدد أشكاله المتعددة؛ فقد يتعرض للابتلاء في نفسه، أو ولده، أو ماله. والغاية الكبرى من هذا التمحيص هو رفع الدرجات وتنزيه المؤمن من الخطايا والذنوب، وما يزيد الأمر تأكيدا  حديث الرسول ﷺ: ((ما يصيب المسلم من هم، ولا حزن، ولا وصب، ولا نصب، ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)). 6.

عن محمد بن خالد، عن أبيه، عن جده رضي الله عنهم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن العبد إذا سبقت له من الله جل جلاله منزلة فلم يبلُغْها بعَمَلٍ، ابتلاه الله في جسده أو ماله أو ولده، ثم صبَّره على ذلك حتى يبلغ المنزلة التي سبقت له من الله تعالى)) 7.

وهكذا يظهر لطف الله ورحمته بعباده وسط محن الابتلاء، فيرفع الدرجات ويعلي المقام ليصل إلى المنزلة التي ارتضاها لهم. سبحانك يا الله ما أعظمك وما أرحمك!

كانت هذه بعض مقاصد الابتلاء التي تؤكد أن البلاء هو سنة كونية ماضية، ومنهج رباني لتزكية التوحيد وتعميق العبودية لله سبحانه، وما يزيدنا يقينا في ذلك هو أن الأنبياء – وهم صفوة الخلق – كانوا أشد الناس بلاء. قال ابن الجوزي رحمه الله: “ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تعتور فيها الأمراض والأكدار، ولم يضق العيش فيها على الأنبياء والأخيار، فآدم يعاني المحن إلى أن خرج من الدنيا، ونوح بكى ثلاثمائة عام، وإبراهيم يكابد النار وذبح الولد، ويعقوب بكى حتى ذهب بصره، وموسى يقاسي فرعون ويلقي من قومه المحن، وعيسى بن مريم لا مأوى له إلا البراري في العيش الضنك، ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين يصابر الفقر، وقتل عمه حمزة وهو من أحب أقاربه إليه، ونفور قومه عنه، وغير هؤلاء من الأنبياء والأولياء مما يطول ذكره، ولو خلقت الدنيا للذة لم يكن حظ المؤمن منها”. 8.  

وخير ما نختم به قول الشاعر التهامي 9:

حُكمُ المَنِيَّةِ في البَرِيَّةِ جاري

ما هَذِهِ الدُنيا بِدار قَرار 

طُبِعَت عَلى كدرٍ وَأَنتَ تُريدُها

صَفواً مِنَ الأَقذاءِ وَالأَكدارِ         


[1] الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، ط1، 1992، ص145.
[2] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ط5، ص263.
[3] كتاب الأمثال والحكم، الماوردي، ص240.
[4] زاد المعاد (4 /195).
[5] رواه التِّرْمِذيُّ وَقالَ: حديثٌ حسنٌ صحِيحٌ.
[6] أخرجه البخاري (5642) واللفظ له، ومسلم (2573).
[7] رواه أبو داود، وأحمد، والطبراني، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
[8] تسلية أهل المصائب، ص 23.
[9] الديوان، التهامي، حكم المنية في البرية جاري.