“الإمام مربيّا”.. حوار مع الأستاذ عبد الكريم العلمي

Cover Image for “الإمام مربيّا”.. حوار مع الأستاذ عبد الكريم العلمي
نشر بتاريخ

أجرى موقع “الجماعة نت” حوارا مع الأستاذ عبد الكريم العلمي، عضو مجلس الإرشاد ورئيس مجلس الشورى بجماعة العدل والإحسان، بمناسبة الذكرى الأولى لرحيل الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله، حول “الإمام مربيا”.

وقد تناول الحوار التربية وشروطها، والإضافة النوعية التي أضافها رحمه الله في هذا الباب، وعلاقته بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

وتطرق الحوار أيضا إلى سر إلحاحه الشديد على ذكر الآخرة، وحرصه على آخرة المقربين منه، وتعلقه الكبير بالقرآن الكريم. كما تناول موضوع ثمرة صحبة الإمام رحمه الله تعالى وآثارها في هذا الجيل.

وهذا نصه:

1. من المعلوم أن الإمام عبد السلام ياسين كان موسوعيا، فهو الداعية المربي، وهو المفكر، والسياسي، والأديب.. ما كانت مكانة التربية عنده رحمه الله وسط كل هذا الزخم المعرفي على مستوى التنظير والممارسة؟

ج: في البداية أسأل الله أن يجدد الرحمة والسكينة والرضوان على حبيبنا ومرشدنا سيدي عبد السلام ياسين، كما أساله سبحانه أن يجزيكم خير الجزاء على جهودكم في هذا الموقع في تخليد ذكرى الفقيد العزيز الغالي رحمه الله.

ما أظنني أبالغ إذا قلت إن التربية وسط ما حبا الله به الإمام المرشد من خير عظيم تمثل الروح من الجسد، فهي غايته ومقصده من الفكر والحركة والسياسة، فالمتتبع العادي لمكتوبات الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله ومواعظه وخطبه يجد هذا الأمر واضحا أشد الوضوح، فحرصه رحمةُ الله عليه على توجيه القلوب إلى الله وتحبيب الرب الكريم إلى العباد ودلالتهم على معرفته سبحانه لا يعدِله بل لا يقرب منه حرص. فلا معنى ولا خير في فكر وسياسة لا ترتفع همة صاحبها إلى طلب قرب المولى وإلى أن تكون له عند الله حاجة كما كان يقول رحمه الله مرارا بل دائما.

2. سبق الإمام مهتمون كثر عنوا بأمر التربية والتزكية، ما هي الإضافة النوعية التي أضافها رحمه الله في هذا الباب؟

ج: نعم، المشايخ والعارفون والأولياء الصالحون الذين وهبوا لأمر التربية والتزكية حياتهم وجهدهم كثر والحمد لله، ولا يخلو زمان ولا بلد منهم، وهذا من فضل الله على هذه الأمة جزاهم الله عنها بما هو أهله سبحانه. لكن الذي أضافه الإمام المجدد رحمه الله في هذا الشأن العظيم جوهري ولا يقدر بثمن، فعلى مدى أزيد من ثلاثة عشر قرنا أي ما بعد القرون الفاضلة (معنى الأجيال) كما سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خير القرون قرني هذا ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم”، انفصلت التربية عن الشأن العام وانزوى أصحابها رحمهم الله في انقطاع كامل أو شبه كامل عن الدنيا وأهلها “صالحهم” و”طالحهم”، بل أصبح مع مرور الزمن هذا الانقطاع عن الدنيا وأصحابها شرطا في التربية عندهم، وهنا تكمن إضافة بل تجديد الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، حيث خلص هذا الجوهر النفيس – جوهر معرفة الله وحبه وطلبه- من الأعراض التي علقت به، من الإعراض عن الناس وعزلة وصمت وقعود عن هم الأمة، فجعله سلوكا وسط الحياة بل من أجل الحياة، حياة القلب بالله، وحياة العزة والكرامة والحرية، وجعل الهمين مرتبطين ارتباطا كليا كما كان الأمر في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم والصحب والآل الكرام رضي الله عنهم: همّ قرب وحب الله وهمّ نصرة أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو ما سماه رحمه الله في كلمة واحدة “السلوك الجهادي” وخصص له من كتبه كتاب “الإحسان” في مجلدين اثنين.

3. يعتبر الإمام الصحبة والجماعة والذكر والصدق شروطا للتربية، ما هي أهمية هذه الشروط؟ وكيف يمكن التحقق بها؟

ج: لابد من الإشارة هنا إلى أن المقصود بالتربية – عندما نقرنها بهذه الشروط الثلاثة – ليست أية تربية بل هي تربية السلوك إلى الله بما هو سير قلبي إلى القريب المجيب سبحانه، فالمطلب عال والطريق طويلة وخطيرة ودقيقة، فكان لا بد من الدال على الله العارف به المحب المحبوب، ولا بد من الرفقة في هذه الرحلة الربانية الذين بمعيتهم والصبر معهم وحسن مخالقتهم وبالتشرب والاستمداد من قلوبهم يتيسر المسير وتحلو الرحلة، وذاك شرط “الصحبة والجماعة”.

ولا يمكن أن نتحدث عن رحلة وسير إن لم يكن هناك زاد، فكان الشرط الثاني الذكر بكل أنواعه ومعانيه بداية من الذكر الشفاء كلام الله، ومن كلام الله لا إله إلا الله، إكثارا منها، وصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفارا وتسبيحا، ورأس الأمر كله فرض الذكر: الصلاة في جماعة المسلمين بضوابطها وكيفياتها المسنونة، وغير ذلك من العبادات التي يوطد بها العبد الطالب ذرى الإحسان علاقته بالمقصود المطلوب المحبوب سبحانه. ولا بأس من التذكير هنا بكلمة الأستاذ المرشد رحمه الله من كتاب الإحسان: “إنه يستحيل أن يكون من المحسنين من لم يكن أولا وأخيرا من العابدين”.

أما شرط الصدق فقد عده الإمام رحمه الله الشرط الأول والركن “الذاتي” للسلوك، فعلى صدق المرء وطلبه ونيته وإرادته وهمته يتوقف الأمر كله، فالصدق في القلب بينك وبين الله تعالى ولا يستطيع عبد – كما قال رحمه الله- أن يعالج مرضك وخللك من جانب خَصْلة الصدق، إن لم تكن المسارعة بالتوبة والبكاء على المولى والاستعانة بالصادقين وخفض الجناح لهم.

4. كيف كانت علاقته رحمه الله بكتاب الله وسنة نبيه عليه أفضل وأزكى السلام؟

ج: هذا مما تشرئب إلى بعضه همم الرجال حق الرجال. فقد كان القرآن والسنة ربيع قلبه ونور فكره وجوهر دعوته ولب جهاده. فقد صرح رحمه الله – رغم ما حباه الله به من اطلاع واسع وعلم غزير – أن معرفته الوحيدة والحقيقية هي كتاب الله، ولا يمكن لمثلي أن يتحدث عن حقيقة هذه العلاقة، ما أستطيعه هو أن أحكي بعض المظاهر والصور التي سمعتها منه رحمه الله أو شاهدتها مع من سمع وشاهد، مما قد يساعد على تمثل بعض ملامح هذا الأمر. فأذكر أنه أخبرنا أنه في اعتقاله بسجن لعلو سنتي 84 و85 كان يختم القرآن يوميا لمدة ستة أشهر متتالية وفي جلسة واحدة، وشاء الله أن نعيش معه هذا الأمر مرة أخرى – وإن كان بصورة مصغرة- لما رفعت عنه الإقامة الإجبارية في عام 2000، حيث منّ الله على ثلة من المومنين بمرافقته في أسفاره إلى مختلف الجهات والأقاليم، فكان يختم مرة في اليومين والثلاثة رغم المجالس المطولة والمتكررة التي كان يعقدها مع الإخوة والأخوات من أبناء الجماعة وغيرهم. وحدثنا رحمه الله أن عادته في ختم القرآن هي الختم ثلاث مرات في الشهر: قياما لليل، وختمة في النهار، وثالثة تلاوة في المصحف الشريف. وما كان رحمه الله يترك مناسبة إلا وحث المومنين والمومنات على استكمال حفظ كتاب الله ورفع الهمة للخيرية العظيمة: “خيركم من تعلم القرآن وعلمه”.

أما في باب التمسك بالسنة الشريفة فقد كان رحمه الله المثال العالي للتأسي بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأعماله وأحواله، وكم كان يفرح عندما يعثر فيما يقرأ على سنة لم تكن عنده.

5. ما كان يخلو مجلس للإمام أو لقاء إلا ويَذكر ويُذكر بالآخرة ويطلب من الحضور التذكير بها في مختلف اللقاءات والمحطات، كيف كنتم ترون حضور هذا الهم في حياته اليومية؟

ج: بالفعل، كان رحمه الله دائم الذكر والتذكير بالموت، ويعتبر ذلك من صميم التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن باب المستحيل أن يمر مجلس أو لقاء خاص أو عام، قليل أو كثير عدده، دون التذكير بالنبإ العظيم تذكيرا يشعرك صاحبه رحمه الله أنه يعيش الأمر حقا وحقيقة وليس تخيلا وتصورا، وكان يفعل ذلك في انبساط تام وبطلاقته وابتسامته المعهودتين، وكان من أكره ما يكره التجهم والتنفير في هذا الشأن وينهى عنهما، ولهذا كان يوصي بقرن المبتدإ في هذا الأمر بالخبر، فالموت هي البداية وإلى الله الكريم الرجعى والمنتهى، ونتيجة هذا القرن طبعا هي حسن الاستعداد لما بعد الموت، والتطلع إلى منازل القرب عند البر الرحيم.

6. كيف كان حرصه رحمه الله على آخرة المقربين منه؟

ج: لم يكن رحمه الله يحرص على آخرة المقربين منه فقط، بل كان همه ودعوته ودعاؤه للأمة كلها بل للإنسانية جمعاء، ولكن فضل الله على من سميتهم المقربين ظاهر بيّن، فقد كان دائم الدعاء لهم ولآبائهم وأزواجهم وذرياتهم، وكان يقول للإخوة في مجلس الإرشاد مرارا عندما نبلغه سلام الإخوة والأخوات وطلبهم الدعاء: “أنتم كذلك أبلغوهم السلام وقولوا لهم إنه يسلم عليكم من قلبه ويدعو لكم في جوف الليل”. وكان رحمه الله دائم النصح وبلطف وانشراح نادرين ليُقبل المومن والمومنة على ما ينفعهما عند الله بالجوارح والقلوب، بالعمل والمعاملة، ولعل من بين عناوين هذا الحرص وصيته الدائمة بالوالدين والأزواج والأبناء وصلة الرحم وحسن الخلق مع القريب والبعيد والحرص على ألا يحمل القلب غلا لأحد بل ينبض بالحب للجميع. والسؤال المستمر أين وصل كل واحد في حفظه لكتاب الله، والتحفيز الدائم على الدعوة والتهمم بأمر المسلمين. وكان مما يخوف منه رحمه الله ويؤكد النهي عنه باستمرار حب الرئاسة والتنافس عليها وكانت لازمته في هذا الباب: “حب الظهور يقصم الظهور”… كل هذه المعاني وغيرها كثير كان يقدمها من خلال الكلمة الرقيقة المباشرة أو من خلال أطايب الكلام شعرا ونثرا. فمن النادر أن تزوره رحمه الله ولا تخرج بحديث شريف أو شعر لطيف. بل كانت عادته دائما تغمده الله برحمته أن يخص كل مجلس أو رباط أو اعتكاف أو لقاء أو مناسبة عيد بمختارة من عيون ما أثله علماؤنا رحمهم الله من رقائق ومواعظ وأخلاق وآداب تنافس فيها جودة وروعة المبنى علو وسمو المعنى، وقد تجمع لدينا الآلاف من هذه المختارات، مما كان ينتقيه بعناية من مقروءاته على الحاسوب، منها ما صدر ووصل إلى أيدي الإخوة والأخوات ومنها ما لا يزال يصدر.

7. من منن الله الكريم عليكم أن كنتم من الجيل الأول الذي لازم الإمام قيد حياته، ما كانت ثمرة هذه الصحبة على هذا الجيل؟

ج: الحمد لله حمدا كثيرا على ما تفضل به سبحانه وتكرم على إخوتنا وأخواتنا بهذه الصحبة المباركة لعارف بالله مجاهد في سبيل الله، جمع الله به القلوب على الله ورفع الهمم إلى المعالي، وشوف الروح إلى كمال معرفة ربها وتمام محبته، وتمام محبة ومعرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في توازن بديع مع النهوض والقيام بحق الأمة والجهاد في سبيل حريتها وعدلها وكرامتها. والرجاء في الله عظيم أن تكون الثمرة العظمى لهذه الصحبة الكريمة أن يجمعنا الله معه رحمه الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر، بعد أن نوفي حق الوفاء لهذا الإرث الجليل فنكون أهلا ليتحقق فينا دعاء الإمام رحمه الله ورجاؤه أن يجد في صحيفته محسنين كان لهم صوتا يقول: من هنا الطريق، من هنا البداية.