الإمام عبد السلام ياسين يؤسس لإجماع وطني حول فلسطين

Cover Image for الإمام عبد السلام ياسين يؤسس لإجماع وطني حول فلسطين
نشر بتاريخ

تكتسي الندوة التي نظمتها مؤسسة الإمام عبد السلام ياسين للأبحاث والدراسات نهاية الأسبوع، تحت عنوان “القضية الفلسطينية في الفكر المغربي المعاصر” أهمية خاصة جدا، لسببين اثنين على الأقل:

1- الراهنية الزمنية: باعتبار الظرفية التاريخية التي تنظم فيها الندوة والسياق الدولي وما تمر منها القضية الفلسطينية من مرحلة دقيقة بعد طوفان الأقصى الذي يعيد تشكيل الوعي السياسي والجيوستراتيجي للمنطقة، والسياق المحلي المغربي الذي عرف تحولا في الموقف من القضية الفلسطينية على مستوى النخب وانفراط عقد الإجماع الوطني التاريخي بعد توقيع “اتفاقية التطبيع” بين المغرب وإسرائيل برعاية العراب الأمريكي، ولهذا حرصت الندوة على جمع الفسيفساء المغربية من شتى الانتماءات والمدارس الفكرية والإيديولوجية والسياسية، بدءا بالسلفية المحافظة مرورا بالصوفية التقليدية وصولا إلى اليسارية وانتهاء بتيار الصحوة الإسلامية.

فكان حاضرا على مائدة الندوة للتدارس وبحث الميراث الفكري والسياسي كل من: الزعيم علال الفاسي، والعالم عبد الله كنون، والأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، والمجاهد الفقيه محمد البصري، والفيلسوف طه عبد الرحمن، والداعية عبد السلام ياسين، والمفكر محمد عابد الجابري.

وغابت مواقف وفتاوي قامات علمية شامخة 1، وأيضا تجارب وتركة المثقف محمد بن الحسن الوزاني والفقيه المختار السوسي والسياسي عبد الرحمن اليوسفي والأديب إدمون عمران المالح والمناضل الصلب محمد بن سعيد آيت يدر وغيرهم، إذ لم تكن غاية الندوة والمنظمين استقصاء آراء كل الشخصيات وإحصاؤها، ولكن التدليل بهم على الحالة السائدة، والتمثيل على المدارس والتيارات، التي كان يجمعها حب فلسطين والعمل لها ومناصرة قضية شعبها، لكونها أعدل وأنبل قضية عرفها التاريخ المعاصر.

2- مصيرية الوعي بالرهان الفكري والأكاديمي: باعتباره خيارا استراتيجيا في المعركة مع العدو الصهيوني ووكلائه، وهو وعي بات ضرورة تاريخية وواجهة لمجابهة مشروع الهيمنة الصهيو/أمريكي بأبعاده السياسية والثقافية والحضارية 2، هذا الوعي والإدراك للأهمية والخطورة تم التعبير عنه والإلحاح عليه في الآونة الأخيرة؛ سياسيا من خلال تصريحات قيادات جماعة العدل والإحسان، وميدانيا من خلال الاحتجاج المتواصل للجماعة دعما ونصرة لفلسطين ومناهضة لتيار التطبيع، وفكريا من خلال مئات الندوات والمحاضرات الداخلية والخارجية التي نظمتها الجماعة عبر مؤسساتها العاملة، ومئات المقالات والتحليلات والمقابلات الفكرية مع رموز الجماعة وقياداتها التي تم نشرها وتداولها على نطاق واسع، ولعل من بينها هذه الندوة الفكرية المتميزة، التي تعتبرا عملا نضاليا قويا، لأنها تحمل إدانة لسياسات النظام المغربي التطبيعية، واتهاما صريحا له بالتنكر لتاريخ المغاربة المساند للحق الفلسطيني والمناهض للكيان الصهيوني، وهي أيضا صرخة أسف مكتومة على ما آل إليه وضع بعض النخب المغربية الفكرية والسياسية من تردّ، وصل إلى حد الانسلاك في دين النظام المخزني، والانسلاخ عن رصيد هيئاتهم التاريخي والثقافي والسياسي، والدوران في فلك الصهيونية العالمية صمتا أحيانا وقولا وفعلا أحايين كثيرة.

ومن أهم ما كشفته هذه الأوراق المعروضة 3 من أكاديميين وقادة وسياسيين، فضلا عن إبرازها للارتباطات الحيوية لهذه الشخصيات بالقضية الفلسطينية، وسبر أغوار أدوارها الطليعية في العمل لمكافحة ومناهضة العدو الصهيوني، خلاصات مهمة هي مبادئ تم التوافق عليها، ويمكن إجمالها فيما يلي:

الإجماع المغربي على دعم القضية الفلسطينية ومناهضة العدو الصهيوني منذ وقت مبكر جدا 4، إذ لم تنفصل قضية الاستقلال الوطني عن تحرير فلسطين، فالعلاقة تعود إلى بداية القرن المنصرم.

التحام الفكري والسياسي بالميداني والتنظيمي، فهؤلاء الرواد لم يكتفوا بالبيان الفكري والموقف السياسي، والعمل الثقافي الوطني، بل تجاوزوه إلى العمل الإقليمي والدولي الأممي كما في تجربة المهدي بنبركة أو السي علال أو الأمير الخطابي 5، وانخرطوا في العمل من أجل فلسطين والتعريف بقضيتها على كافة الواجهات، كالعمل الإعلامي بتأسيس منابر تخدم القضية 6، أو العمل الدبلوماسي، بل وحتى المساهمة في العمل المسلح كما هو الحال مع تجربة الفقيه البصري رحمه الله الذي حشد المتطوعين وقام بتدريبهم في معسكرات الزبداني في سوريا 7.

التأكيد على شرعية الكفاح المسلح ضد الصهاينة باعتبارهم عدوا محتلا، والحق في الدفاع عن الأرض والوطن، وهو موقف رافق كافة أطوار القضية الفلسطينية، واستمر حتى عندما اختارت منظمة التحرير الفلسطينية سبيل المفاوضات المباشرة مع العدو.

هذه المبادئ التي وحدت التصور والخطاب والعمل تجاه القضية الفلسطينية مغربيا، غطت كل مراحل العمل الوطني، وحددت طبيعة الصراع العربي الصهيوني، وأطرت إمكانات مناهضة التطبيع مع العدو أو حتى التقارب معه بقوة وشراسة، في كل المراحل التاريخية والسياسية التي مر منها المشروع العربي الإسلامي، فدعم فلسطين والتماهي مع القضية الفلسطينية القضية المركزية والمصيرية، لم يحد عن وجهته وإن اتخذ أشكالا مختلفة وتعبيرات متفاوتة خلال ثلاثة مراحل على الأقل:

* مرحلة أولى: كانت القضية الفلسطينية جزءا من مشروع حركة التحرر الوطني، وجزءا من بناء الدولة الوطنية المستقلة. فنجد مثلا عبد الكريم الخطابي بعد اللجوء إلى مصر، وتأسيسه “لجنة تحرير المغرب العربي” في يناير 1948، أي بعيد صدور القرار 181 من الجمعية العامة للأمم المتحدة الرامي إلى تجزئة فلسطين وتهويدها، وجه نداءً إلى الأمة العربية والإسلامية داعياً فيه إلى الجهاد لتحرير فلسطين، وعبّر عن تأييد مجاهدي فلسطين كونها القضية المركزية للأمة: “يسرّني في الختام أن أحيي إخواننا مجاهدي فلسطين الشقيقة، داعياً لهم بالفوز والنصر، ومؤكداً لهم تضامن الأقطار المغربية معهم، وعزمها اتخاذ جميع الوسائل الممكنة للاشتراك في إنقاذ بلادهم والمحافظة على عروبتها ووحدتها”.

* مرحلة ثانية: صارت القضية الفلسطينية جزءًا من المشروع النهضوي العربي الشامل، مع رواد النهضة العربية الحديثة، واتخذ عناوين كثيرة ومرجعيات مختلفة حسب المراحل، سواء كان عروبيا قوميا أو إسلاميا سلفيا، أو ناصريا اشتراكيا، أو بعثيا وحدويا، أو إسلاميا سياسيا.

* مرحلة ثالثة: تحولت القضية الفلسطينية إلى مركز وبؤرة المشروع الحضاري التحرري للأمة، باعتبارها نموذجا مقاوما لمشاريع الهيمنة الصهيو/أمريكية والتوسع الاستكباري، وتأكدت هذه المكانة بعد سقوط كل خيارات التسوية 8، وظهور قوى عقائدية جهادية في الأمة الإسلامية خاصة بعد الثورة الإيرانية، أحيت الميراث القسامي من جديد.

إجمالا يمكن القول إن القضية الفلسطينية عرفت تحولات كبرى في تاريخها ومسارها عربيا ومغربيا، وعاشت نكبات ونكسات وأزمات، لكنها لم تصل إلى حالة التردي الحالية، وهي جزء من الحالة العربية العامة، على مستوى الوعي الاستراتيجي وعلى مستوى الفعل السياسي، فقد نجح الكيان الصهيوني ووكلاؤه بشكل متدرج إلى تحويلها إلى شأن فلسطيني خاص، ورفعت شعارات “لسنا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين” أو “تازة قبل غزة”، ثم إلى مشكل سياسي قابل للتسوية بالمفاوضات والمؤتمرات والمبادرات، والأخطر الآن أنه سيتحول مع مرور الوقت إلى ساحة للصراع بين المعارضة المجتمعية ونظام الدولة، وهذا ما بدأ يتبدى مع انسياق النظام العربي الرسمي للإرادة الأمريكية في إطار إملاءات واتفاقات معلنة وأخرى سرية، بدل أن يكون مصدر وحدة وقوة وإجماع.

وأظن أنه من منطلق هذا الوعي الاستراتيجي المستقبلي تراهن “مؤسسة الإمام عبد السلام ياسين للأبحاث والدراسات” بمثل هذه المبادرة الثقافية/السياسية على تحصين المغرب السياسي والمعرفي والثقافي أمام بوادر الاختراق والاختناق الفكري، والتصدي لهيمنة الرؤية والسردية الصهيونية، بإطلاقها لمرحلة جديدة من الطوفان هي “طوفان الوعي” و”كي الوعي” الذي بات ضرورة حيوية، وساحة مصيرية، لمقاومة تمدد مشروع العدو، الذي راهن عليها مبكرا واستطاع من خلال مؤسسات الأبحاث والدراسات ومراكز الفكر والبحث وعلى مدى عقود أن يوجد في المجتمعات العربية قابلية “التصهين والتطبيع”. يقول الكاتب الصهيوني “يائير عميكام”: في كل مدرسة تعنى بالاستشراق، ضابط كبير من سلاح المخابرات لتوجيه دراسات الاستشراق.


[1] تمت الإشارة إلى فتاوي العلامة عبد العزيز بن الصديق في ورقة الدكتور عبد الله الجباري الباحث في الفكر المغربي المعاصر.
[2] يكفي أن نعلم أن فكرة الجامعة العبرية في القدس كمشروع اختراق فكري عالمي أطلقها عالم الرياضيات اليهودي “تسفي” عام 1882م، حيث تم طرح المشروع رسمياً في المؤتمر اليهودي الأول عام 1897م وتقرر بناؤها في المؤتمر اليهودي الثالث عشر عام 1913م وتبرع دافيد رئيس المؤتمر الصهيوني بمبلغ 25 ألف دولار لتأسيسها عام 1918م، وقد وضع “حايبم وايزمان” حجر الأساس ودشنها بلفور عام 1925م.
[3] لم يتح لي الاطلاع على الأوراق البحثية بشكل تفصيلي، لكن هذه استنتاجات على ضوء المداخلات.
[4] الإشارة هنا إلى ما بعد بداية الاستعمار حيث رصدت أول حركة احتجاجية منظمة بعد ثورة البراق 1929م عمت كل من فاس وتطوان وسلا وتم توجيه مذكرة احتجاج إلى القنصل البريطاني، وإلا فعلاقة المغاربة بفلسطين علاقة تاريخية وطيدة.
[5] يمكن الإشارة إلى مداخلة الأستاذ عبد الله المنصوري، والتي سبق له نشرها في مقال “الشهيد القسّام.. استلهم ثورة الخطابي وتضامن مع المغرب”:

https://2u.pw/KxmAaGWJl


[6] مثلا إسهام المجاهد الفقيه البصري في تأسيس إذاعة صوت فلسطين بالجزائر، وفي تأسيس الجمعية المغربية لدعم كفاح الشعب الفلسطيني.
[7] ورقة المناضل الدكتور محمد ويحمان أحد رموز الحركة المغربية المقاومة للتطبيع مع الكيان الصهيوني.
[8] نستحضر مداخلة الأستاذ عبد الصمد فتحي الذي أكد أن الشمولية في هذه الرؤية تعتبر الصراع في فلسطين هو العنوان الأبرز للمعركة بين الإسلام وروح الصهيونية التي تسري في قوى الاستكبار العالمي، وأن تحرير فلسطين مرتبط بتحرر الأمة من قيود الاستبداد والهيمنة الاستعمارية.