بين المقال السابق أن الشرعة والمنهاج كانت أساس بناء الأمة المسلمة، وسبب عزتها وقوتها، ومناط خيريتها وشهادتها، ومعنى وجودها وغاية رسالتها في العالم. لكن سرعان ما بدأ الانحراف والتحريف والنقض في عرى المنهاج القرآني النبوي. ومع مرور الزمن كبر هذا الانحراف واستفحل، وتوسع النكث والتفتت واستحكم، واستمر السوس ينخر البناء حتى وصلت الأمة إلى أدنى دركات الضعف والغثائية. ومنذ ذلك الحين -وطوال تاريخنا الفتنوي- عاشت الأمة وماتزال أزمة منهاج؛ أزمة عقل ونقل وإرادة. أزمة تلقي وفهم وتطبيق.
3- أزمة منهاج
أجمعت أغلب الدراسات ومشاريع النهوض والتقدم أن الأمة تعيش أزمة، ولكنها اختلفت في تحديد طبيعتها والأسباب والعوامل المؤثرة فيها، ومن ثمة طبيعة المشروع المنشود: أهدافه، أولوياته، أساليبه ووسائله… فتعددت المقاربات والتوصيفات لهذه الأزمة: أزمة عقيدة، أو أزمة فكرية، أو سياسية، أو حضارية، أو أزمة ديمقراطية، أو أزمة حداثة… وعند التحقيق نجد أن الأزمة مركبة يتشابك فيها التربوي والعقائدي بالفكري والسياسي والاقتصادي… ويتداخل لدرجة يصبح الفصل بينها مستحيلا. ولكن الثابت أن أزمة الأمة لم تكن وليدة اليوم ولا الأمس القريب، بل جذورها ممتدة إلى فترة إسقاط الخلافة الراشدة، وقيام سلطان العصبية والأثرة والقهر والاستبداد مع بني أمية في نظام المجتمع الإسلامي.
لقد مثل هذا التراجع عن المنهاج النبوي الراشد في الحكم بداية التحلل والنقض في عرى المنهاج ومعاقده وأصوله وخصاله. ومنذ تلك اللحظة التاريخية المفصلية بدأت المحجة البيضاء الناهجة التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم تتعتم -أول ما تعتم منها الحكم- وتتعرض لغيوم الأوهام، وغبش التقليد، وقتامة البدع والضلالات، وظلام التحريف والانحراف لتفشي الظلم والجور وسطوتهما، ولسيطرة الأهواء وتعصبها، وتناقض العقول والأفهام وتمذهبها، ونفرة القلوب وتدابرها، واختلاف الإرادات وتخاصمها.
نحاول البحث -باختصار شديد- عن أصول هذه الأزمة المنهاجية وطبيعتها وامتداداتها وتجلياتها حتى نعرف من أين أوتي المسلمون، ونتعلم من أخطاء الماضي ونستعد عاطفيا وعقليا وعمليا لطي صفحة الفتنة التاريخية وما فيها من أحقاد ونزاعات ونكسات وانكسارات… التي عاشتها -وماتزال- أمتنا الإسلامية من أجل التحرر من ثقلها، والانفكاك من قيدها، والبناء من جديد على نهج الشرعة القرآنية والمحجة النبوية.
فما هي طبيعة هذه الأزمة؟ وما هي أسبابها وجذورها؟ وما هي مظاهرها؟ وكيف يمكن معالجتها؟
أولا: في طبيعة الأزمة المنهاجية
إن الأمة الإسلامية بكل فئاتها وطوائفها ومذاهبها (سنة بمدارسها المتعددة، وشيعة بفرقها المختلفة، ومعتزلة بتياراتها القديمة والحديثة…) حتى تلك التي تمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، إلا وتدعي التمسك بالكتاب والسنة، وتنصب نفسها الناطقة باسمهما، الحافظة لمفاتيحهما، الأمينة على كنوزهما، الحامية لهما من انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وتحريف الغالين. بل وتعيب على من يخالفها في الرأي والاجتهاد بالبعد عن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة…
وكل الحركات الإسلامية والجماعات الدعوية والتيارات المذهبية -رغم اختلافاتها العميقة وتبايناتها الواسعة- تعلن أن خطها العلمي والعملي ومنهجها التربوي والدعوي والجهادي هو الكتاب والسنة. بل بعضها يغالي فيجعل فهمه واجتهاده ورأيه هو الكتاب والسنة، وجماعته هي الطائفة الناجية من دون الناس. فما من أحد من هؤلاء وغيرهم إلا و”يقول في معرض التحدث والتساؤل عن العمل الإسلامي ومنهاجه، ينطق بهذه العبارة الصارمة: كتاب الله وسنة رسوله.
لا مراء أن المحفوظ من حفظه الله من الشك في هذا. بيد أن الكتاب والسنة أصلان سماويان. فهما في منتهى الكمال إذا اعتبرناهما مجردين. فإذا نزلنا إلى الميدان، وشهدنا الناس في قابليات الفهم، وإرادة الجهاد، والإخلاص فيه، وجدنا أن تصور كل للكتاب والسنة يخالف تصور الآخرين. فكلما قيل جوابا عن تساؤلنا على عتبة العمل: “الكتاب والسنة”، قلنا “الكتاب والسنة نقل” فبأي عقل وبأي إرادة نحن مقبلون على تطبيقهما؟” 1.
الكتاب والسنة نقل ووحي، لكن بأي قلب نتلقاهما؟ وبأي عقل نفهمهما؟ وبأي إرادة نطبقهما؟ هناك طرف ثالث داخل هذه المعادلة: المنهاج النبوي = الكتاب + السنة + أنا.
المنهاج النبوي بين ثابتين هما: القرآن والسنة، ومتغير هو: القارئ المتلقي للوحي. بل في الحقيقة هما متغيران: أنا: الشخص القارئ، وواقعه المتغير الذي يعيش فيه، ويؤثر في قراءته وفهمه وتمثله للوحي الثابت كتابا وسنة. فهذا هو محط الاختلاف وسبب التناقض في تلقي الوحي وفهمه وتنزيله.
هذه الأنا ما حظها من الله؟ ما سابقتها وغناؤها في دين الله؟ ما مقدار فهمها عن الله وتبصرها في شرع الله؟ ما فقهها في أحوال الناس والعصر؟ ما إرادتها؟ ما غايتها؟ ما نيتها في سعيها وجهادها؟ ما مقدار وراثتها الإيمانية وعمقها الروحي؟ وما مؤهلاتها العلمية وقدراتها الاجتهادية؟ وما خبرتها التنفيذية ومواصفاتها القيادية وكفاءتها الجهادية؟
هذه الأنا -كانت في تاريخنا الفتنوي- إما ماسكة بالنص الشرعي إمساكا حرفيا لا تستطيع استكشاف مقاصده وأسراره، وإما واضعة العقل في مكانة سابقة عن النص، بل جاعلة العقل حاكما على النص رافضا ما يخالفه -بزعمها- أو عكس ذلك جاعلة العقل منكوسا جامدا مقلدا لا يخرج -أبدا- عن اجتهادات السابقين، أو محرفة للنقل بدافع الأهواء السياسية والمذهبية، وموظفة له في حمى النزاعات الدموية في ساحة الحرب والجدالات الكلامية في ساحة الفكر. وإما معرضة عن العقل والنص معا مغرقة في الحقائق والبواطن والأسرار…
هذه الأنا -في تاريخنا- اختلفت إراداتها وتناقضت؛ فإرادات حاولت تمثل قيم القرآن والسنة، والوقوف في وجه الانحراف عن جادة الشرعة، والتحريف لحقائقها وصفائها، ونهضت لطلب الإصلاح، وقاومت جور الحكام وظلمهم؛ فمنها من أوذي في الله، ومنها من عذب، ومنها من استشهد… وإرادات استسلمت لقوة الباطل وجبروته، لقلة النصير وضعف “المكنة” حفاظا على “شوكة الإسلام” و”بيضة المسلمين”. وإرادات ثارت وحركها الغضب المكبوت والانتقام الحقود، أو الهوى الجامح والتعصب المقيت، أو الطمع في دنيا فانية ومتعة زائلة. وأخرى حركها طلب الآخرة والتوقان إلى الجنة ونعيمها، وأخرى طار بها الشوق إلى لقاء الله والنظر إلى وجهه الكريم.
هذه الطريقة النبوية المنيرة تجزأت وتشعبت، وهذه المحجة البيضاء الواضحة التبست وتعتمت، وهذه الإرادات اختلفت وتخاصمت، وهذه القلوب تدابرت وتباغضت، وهذه العقول تحجرت وسطت عليها الأهواء فحرفت النقل وبررت الظلم ونطقت بالباطل، أو سكتت عن الحق -على أحسن تقدير- ولم تجسر على بسط منهاج القرآن والسنة الكلي: الشورى والعدل والإحسان، مخافة بطش السلطان وجبروته.
فالوحي الإلهي معصوم و”النقل ثابت والعقل متحرك بين سياديتين تتنازعانه، هما سيادة الإرادة الإيمانية الإحسانية أو سيادة الهوى، معادلة الاجتهاد العلمي لسلوك الشريعة تتراوح إيجابا وسلبا بين وضع يخدم العقل فيه الإرادة على ضوء النقل، ووضع يخدم فيه العقل سلطان النفس فيحرف النقل” 2.
إذا هناك أزمة على ثلاثة مستويات: أزمة نقل وعقل وإرادة.
أولا: أزمة نقل
النقل ثابت، لكن طرأ على الكتاب والسنة واختلط بهما شروحا وتفرع عنهما علوما ومعارف في مجالات عدة (أصول الدين، التفسير، الحديث، الفقه، أصول الفقه…)، وخلف كل مذهب وطائفة الكثير من الاجتهادات والآراء المعبرة عن فهمه ونظرته للنقل. شكل كل هذا كتلة كثيفة حجبت عنا الأصول القرآنية النبوية، وحال التقليد والجمود، والتعصب للمذهب والطائفة والشخص من الاستمداد من هذه الأصول، والنهل من ينبوعها الصافي، واستثمار هداياتها ومعارفها في واقعنا المعاصر بدعوى تعظيم الوحي، والمحافظة على قداسته، أو أن الأولين ما تركوا للآخرين شيئا.
النقل محفوظ، لكن شكك فيه وتجرأ عليه واقتحم حماه دعاة العقلانية وأصحاب “القراءات المعاصرة والجديدة”، وأخضعوه -كباقي النصوص البشرية والتاريخية- لمناهجهم المادية الغربية من هرمينوطيقية وبنيوية وتاريخية وجدلية وتفكيكية… لتجريده من حرمته، وقداسة معانيه، وعصمة مصدره، وإلهية تشريعاته، وإلزامية أحكامه.
لذا فالمطلوب شرعا وواقعا التحرر من ثقل القراءات المختلفة التي أنجزها المسلمون منذ عصر التدوين إلى اليوم في التفسير وعلومه، وفي الحديث ومصطلحه، وفي الفقه وأصوله، وفي الفلسفة وعلم الكلام، وفي التصوف وعلم السلوك، وفي السياسة الشرعية والأحكام السلطانية… والتي حجبت أنوار القرآن المجيد والسنة النبوية المطهرة وهدايتهما الفردية والجماعية والعمرانية، ومقاصدهما الدنيوية والأخروية، وشكلت بالتدريج جدارا صلبا وحاجزا كثيفا يحول دون الاستلهام والاستمداد المباشر من الوحي فقها لأحكامه، وتثويرا لمعانيه، وتدبرا لأسراره بعد الاستفادة -بطبيعة الحال- من كل هذا التراث وكنوزه، والإحاطة بكل هذه العلوم ومناهجها والبناء عليها التماسا وتطويرا وتجديدا في ضوء هدايات المنهاج ومقاصده، ومتطلبات العصر ونوازله، وإشكالات الواقع وتحدياته، ومقتضيات التجديد الكلي وشروطه.
الاجتهاد المنهاجي يبدأ من حيث انتهى إليه العلماء، ويوظف نتائج اجتهاداتهم ومناهجهم وأدواتهم لكشف واكتشاف المنهاج النبوي، ويؤسس أصولا جديدة تقتضيها طبيعته الدائرة ليست فقط في مدارات الحلال والحرام والحقوق الفردية والفتاوى الجزئية والنوازل الفردية. بل في مدارات التنظير الكلي (كلي الوحي، كلي الواقع، كلي المقصد والمصلحة، كلي المآل، كلي النوازل العمرانية…) والتأصيل التفصيلي (تربويا، علميا، سياسيا، اجتماعيا، اقتصاديا،…) والكيف التنزيلي (تربية، تنظيما، زحفا، تغييرا، بناء، عمرانا،…) لحركة الدعوة في تحولاتها وعلاقاتها ومساراتها وامتداداتها، ولعملية البناء الفردي والجماعي في مقاصدها وتعقيداتها وشروطها، ولبناء دولة القرآن وتنظيمها سياسة واقتصادا واجتماعا وعمرانا.
ثانيا: أزمة عقل
في ظل الفتنة وثقلها وقبضتها، وواقع الانشطار والانكسار نشأت ذهنيات لم تستطع التحرر من تلك القبضة، وترعرعت عقليات لم تسلم من ذلك التكسير والتفتت، منها:
– ذهنية ناقصة لم تستكمل وسائل العلم والفهم ولم تفقه واقعها وحاضرها.
– ذهنية مقلدة جامدة تقفز على واقعها، وتعيش قضايا غيرها، وتفكر خارج زمانها.
– ذهنية لفظية: لا تصورات واضحة، أو أفكار هادفة، أو مناهج محكمة، أو مفاهيم محددة.
– ذهنية حرفية: لا تميز بين المقصد والوسيلة، بين الرخصة والعزيمة، بين مراتب الطلب وأولوياته.
– ذهنية تبسيطية ساذجة لا تعرف سوى “يجوز” أو “لا يجوز”: لا تبذل جهدها في فهم النص الشرعي، ولا فهم الواقع بتشابكه وتعقده وتحولاته، ولا تراعي فقه التدرج والتنزيل.
– ذهنية تكفيرية متعصبة تدعي الهداية والصلاح، وتنسب نفسها للفرقة الناجية من دون الناس، وتضلل كل من خالف نظرتها الضيقة.
– ذهنية ذريّة لا تنظر إلى ما بين الشريعة والحياة والكون من ارتباط، ولا تستحضر الإشكالية المركبة من تداخل الأبعاد التربوية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والوضع الداخلي والخارجي، وتنغلق في نظرة جزئية ضيقة بدل الرؤية الاستراتيجية الكلية.
– ذهنية رعوية تبريرية: درجت على الخنوع للحكام والانقياد لهم، وتبرير واقع الظلم والاستبداد والفساد، وتركز على جانب العبادات والأخلاق الفردية، مع الذهول المهول عن حالة الأمة ومشاكلها الحقيقية.
– ذهنية مادية: متأثرة بالعقلانية المعاصرة، ساكتة عن أمور الآخرة والغيب…
– ذهنية معارضة متهمة، همها نقد الواقع وكشف عيوبه دون العمل على إصلاحه، وبذل الجهد والثمن لتطهيره وكنس فساده، ومواجهة فساقه.
القرآن الكريم وحي من الله وحق لا باطل فيه، و”المحجة البيضاء التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ليل يعميها، فهي نهر دائم في نفسها، لكن نظرة الناس إليها وفهمهم لحدودها وعزمهم على سلوكها ووسائلهم بالسير عليها عرضة لغيوم الأوهام وظلام الضلالات وغبش البدع وقتامة الكفر” 3.
قد يكون العقل مقلدا تابعا، والفهم جامدا حرفيا، والفقه جزئيا سطحيا، والوعي صعبا مستعصيا، إذا كان:
1- مصدر الفهم وأجهزة الفكر ومواطن التعقل كلها أو بعضها معطلا.
2- الجهل باللغة العربية وأسرارها، وبمقاصد الشريعة وحكمها. فلا يصح النظر والاجتهاد -كما يقرر ذلك الإمام الشاطبي- إلا “لمن اتصف بوصفين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها. والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها” 4.
3- تفتت في النظرة، وانغلاق في الرؤية، وانحباس في المنهج الفردي التجزيئي التفريعي الذي يذهل عن المشهد الكلي والخيط الناظم، وعن الأهداف الكلية والغاية النهائية، ولا يستطيع النظر الكلي المباشر إلى الرسالة الإسلامية جمعية، وإنما يقرأها في شظايا الفقه الموروث شتيتة 5.
4- الخضوع لطوق تقليد الآباء والمؤسسين، والجمود على اجتهاداتهم وآرائهم. “فمن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعا، ومع هذا يقلده فيه ويترك من الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه، جمودا على تقليد إمامه، بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب والسنة ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالا عن مقلده” 6.
– اختلاف العلماء والدعاة المعاصرين في درجة الفهم ودقة النظر في النصوص الشرعية والمناطات الفردية والجماعية والحالية والمآلية، والتباين في مستوى الوعي بالواقع وتحولاته والقدرة على استشراف المستقبل والتخطيط له لضمان حسن التنزيل والتنفيذ لمطالب المشروع وأولوياته. فلكل مدرسة وجماعة من المسلمين نظرتها للإسلام ومقاصده، والجهاد ووسائله، والزحف ومراحله، والبناء ومداخله، والتربية وشروطها، والدعوة ومقتضياتها.
ثالثا: أزمة إرادة
ما يغشى هذه الإرادات البشرية من فتور أو خوف أو طمع يدعو لمسالمة الواقع وشرعنته، أو حماس مندفع يريد القفز إلى المستقبل قبل أن يوطد أقدامه في الحاضر، ويستعجل الثمرة قبل أن تنضج، أو نفور وتنافس مرضي بين الأشخاص، وحب للظهور والرئاسة، واتباع للهوى وحب للدنيا. أو خضوع وخنوع لدين الانقياد وضغط الواقع، وتبرير للظلم والفساد المستشري بدعوى العجز وقلة النصير. أو استقالة تامة من الشأن العام وانصراف للتعليم والتدريس، أو انعزال ودروشة طلبا للخلاص الفردي. أو تحريف للنقل وافتراء على الوحي إرضاء للسلطان، أو إشعال للحروب وإسالة للدماء تعصبا للطائفة أو المذهب أو الشخص.
المطلوب تحرير الإرادة من كل ثقل وقيد يكبلها، ويضعف فعاليتها؛ قيد الهوى الذي يحرف النقل، وثقل حب الدنيا الذي يشوش على النية والقصد، ودين الانقياد والقعود عن الجهاد الذي يؤدي إلى الغثائية والانحطاط.
في الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن يتلى فيتجسد حقائق تسعى بين الناس. وحي يأتي به جبريل عليه السلام فلا يلبث أن يتحول التعليم القرآني حياة نابضة بالأخوة والقوة، وسلوكا فاعلا مؤثرا في الواقع. تنتقل التعاليم القرآنية بالجهاد النبوي الصحابي اليومي من دعوة إلى حياة، من مثال إلى واقع، من مطمح عال إلى إنجازات عينية. “كان القرآن ينزل طريا مواكبا للمسيرة التاريخية للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه موجها لها. هو العلم، وهو المنهاج، وهو البرنامج، وهو النور الهادي إلى صراط الله. به ابتنيت نفوس مؤمنة، ومجتمع مؤمن، وحركة في العالم إيمانية” 7.
جيل قرآني نبوي فريد يتلقى الوحي بنية التنفيذ، والأمر ليعمل به فور سماعه، والتوجيه ليتمثله ويتخلق به. شعور التلقي بنية التنفيذ -كما كان يعبر الشهيد سيد قطب- فتح لهم آفاقا واسعة مبدعة مؤثرة للعلم والعمل؛ لأن الوحي (القرآن والسنة) لا يمنح كنوزه إلا لمن يقبل عليه بهذه الروح: روح العلم المفضي للعمل، والنظر المنشئ للسلوك، والمعرفة المؤطرة للممارسة.
منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنع الجيل الأول، وهو الشرط في صناعة أي جيل على نهج الرعيل الأول 8.
[2] ياسين. عبد السلام، مجلة الجماعة، ع4، ص133.
[3] ياسين. عبد السلام، مجلة الجماعة، ع3، ص151.
[4] الشاطبي. أبو إسحاق ابراهيم بن موسى اللخمي، الموافقات، تحقيق محمد مرابي، مؤسسة الرسالة ناشرون، دمشق-سوريا، ط1، 2013، ج 4، ص445-446.
[5] ياسين. عبد السلام، تنوير المومنات، دار لبنان، بيروت، ط2، 2018م، ج1، ص225.
[6] العز. بن عبد السلام السلمي، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ضبطه وصححه عبد اللطيف حسن عبد الرحمن، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، ط1، 1999م،ج2، ص104.
[7] ينظر، ياسين. عبد السلام، القرآن والنبوة، مرجع سابق، ص13-14.
[8] ينظر قطب. سيد، معالم في الطريق، مرجع سابق، ص15-16.