ليس غريبا على الرجل أن يجعل شعارا لمجلة “الجماعة”، التي كانت اللبنة الإعلامية الأساسية في عرض مشروعه التجديدي (مشروع العدل والإحسان) أواخر السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الميلادي، بدايات القرن الخامس عشر الهجري الذي يصفه بقرن الإسلام، الآية الكريمة من كتاب الله تعالى: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (القصص: 5). ليس غريبا لأن هدفه الكبير في هذه الدنيا، رحمه الله، إقامة العدل الشامل الذي يحقق كرامة كل المستضعفين حتى يتسنى لهم الأمن والاستقرار والاطمئنان والأمان ليعرفوا الله عز وجل.
لذلك، وفي مناسبة رحيله، رحمه الله، عن الدنيا إلى دار البقاء والخلود، يقتضي المقام أن نشير إلى بعض ما يكشف عن محورية قضية المستضعفين في بناء مشروعه الفكري.
العمران الأخوي ونصرة المستضعفين
من يستمع للرجل ويتابع كتاباته يدرك كيف يتألم لحال المستضعفين في الأرض، مسلمين وغير مسلمين وإن كان المسلمون أكثر ناس الدنيا استضعافا في هذا الزمان، لكنه لم يقف عند هذا الألم إذ تجاوزه إلى عرض مشروع متكامل لتحريرهم، إنه مشروع العدل والإحسان ذو المطالب الثلاثة الكبرى”الشورى والعدل والإحسان”، الوعد الاشتراكي كان بالقصد والفلسفة أملا فُتح زمانا في وجه العامل لينصفه الرأسمالي الآكلُ عرقَ جبينه الماصُّ دماءَه، المنتزِعُ فائضَ قيمة عمله. وذهب الأمل ورُدِمَ في رُكام الخراب. فالرأسمالية الشرسة تهدد الإنسانية بالمخلب والناب. والمُستضعفون، ومن أضعفهم المسلمون السامعون بالصحوة الإسلامية المتطلعون لحكم إسلامي منقذ، ينتظرون عقيدة قوية وقاعدة أصيلة وشريعة مقدسة وطرائق عملية إجرائية تحقق العدل والإحسان. العدل. العدل. العدل. والإحسان) 1 .
إلا أن هذا لن يتحقق بقفزة في واد الصراع الدولي المعقد، بل لا بد له من شروط.
الشرط الأول: استقرار نظام الشورى
في مراحل زحف الإسلاميين إلى الحكم تعترض إرادتَهم عوارض العقائد العلمانية الدنيوية، ويثبط عزائمَهم قعود السواد الغثائي، ويقلل من فاعليتهم قلة التجربة وضخامة الإرث الخرابي النفسي الأخلاقي الاقتصادي الذي خلفه ذرية الفتنة. وتمضي وَفقا لسنة الله في الكون والأنفس فترة تطول أم تقصر قبل أن يقبَل الكافة حُكم الشريعة الإسلامية، وقبل أن يَستقر السلطان في يد أهل القرآن، وقبل أن تكون الشورى هي القاعدة المقررة المعروفة المعززة لنظام الحكم.)هذا هو الشرط الأساسي لإحلال العمران الأخوي، بل لبدايته، محل “الحضارة” الغابوية: الاستقرارُ على الشورى) 2 .
الشرط الثاني: المشاركة العامة في تنظيم الجهود لبناء القاعدة الاقتصادية
فإنه إن عمنا الفقر، وجرَّتنا التبعية في ذيل قطار الرأسمالية، وأرغمت أنوفنا المديونية، وخاننا العجز العلمي التكنولوجي، وتسربت من بين أصابعنا رؤوس أموالنا، لن نستطيع العيش مع أبناء الدنيا الناجحين) 3 . ومن لا يستطيع العيش فلن يستطيع بناء القوة اللازمة لإنصاف المستضعفين.
الثالث: وضوح الأهداف
إن كانت الشريعة ومقاصدها وأوامـر الله عز وجل وأمثلة السنة آلةَ مُعارَضَةٍ على لساننا قبل وصولنا إلى الحكم واستقرارنا فيه، فهي بعد ذلك قواعد مُلزمة وتكليف وحِمل، يرى الله عملَنا ورسولُه والمومنون، والمسلمون والناس أجمعون، وينتظر الكل ويتربص الكل. ما كان في الصحف مسطورا، وفي الصدور أملا مطمورا، وفي العقول خطة سابحة في المثالية، يجب أن يصبح برامج حكيمة، قابلة للتطبيق، آخذة في التطبيق، جارية تفرض نفسها بوجودها في عالم الكم والعدد) 4 . وهوما يقتضي التدقيق في أهداف كل مرحلة من مراحل بناء العمران الأخوي.
الرابع: ملاءمة الوسائل المتاحة للأهداف الإسلامية العمرانية الأخوية
العالَمُ يعج بالوسائل المالية المادية العلمية الصناعية. هي في مُعظمها رهينةٌ في يد أبناء الدنيا. وما فضَلَ منها فوقع في حوزة المسلمين فهو مسخر لأهداف المستكبرين في الأرض. فعُدَّتنا لأسلمة العلوم والخبرات ورأس المال الشارد منا توازي أو تكاد في الأهمية عُدتَنا لفرض الأهداف الإسلامية وتحبيبها وإنجاحها.)وكل ما نحققه إن شاء الله من نُجح في هذه الميادين يكون للمسلمين والمستضعفين عربونَ أخوة) 5 .
وسيلة بناء العمران الأخوي لنصرة المستضعفين
إذا كانت تلك أهم شروط قيام نظام عمران أخوي ناصر للمستضعفين، فما هي الوسيله الكلية في بنائه؟
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين في نفس الفقرة: من سماء الوحي والأمر الإلهي، وعلى أرض الإسلام ، وفي أركان المسجد وصف الصلاة ومجالس الإيمان وحِلق العلم، تنـزل حقائق الاستخلاف ومسؤولية المومن المشرَّف بأمر “وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه” إلى أداء الأمانة لأهل الأرض وإيتائهم من مال الله في مزاحمة شديدة لأبناء الدنيا الفاعلين الناجحين الرأسماليين، وفي قيادة المستضعفين في الأرض المنتظرين لعدل وإحسان، دلاَّهُمْ الوعد الشيوعي الاشتراكي بغُرور ولم يَفِ بشيء). لكن كيف لأبناء الأخرة أن يكتشفوا حقيقة الاستخلاف الذي أمروا به، إذا ظفرنا بالمنهاج النبوي لهذه المواطنة القلبية فقد ظفرنا بمفتاح أقفال الطبيعة البشرية، وظفرنا بالعلاج الناجع لداء الأمم، وكدنا نبرَأُ من داء الأمم. وأي شتيت من البشر كان أبعد أن يتألف ويتآخى ويكون خير أمة أخرجت للناس من قبائل العرب بمكة والمدينة وجزيرة العرب على عهد البعثة؟ كما بوأهم الله عز وجل الدار والإيمان باستجابتهم لداعيه محمد صلى الله عليه وسلم كذلك يبوئنا نحن الآخِرينَ. إن شاء وهو الملك الوهاب) 6 .
هكذا نتجه وضوحا نحو بناء نظام دولي على قاعدة عدل الإسلام، ولذلك منهاجه، وهنا تكمن أهمية كتاب “إمامة الأمة” حيث يعرض المنهاج لإقامة العدل في بلاد المسلمين ثم قيام الأمة بمهمتها التاريخية في إمامة المستضعفين حتى ولو اقتضى الأمر الثورة على دول الاستكبار: إن دخول دولة القرآن في الساحة لا نريده أن يكون عامل مزيد في الفوضى والقرصنة في العلاقات الدُّولية. فليس من صالح الدعوة الإسلامية، وهي الوظيفة العليا لدولة القرآن، أن يزداد العنفُ، وغمطُ الحقوق، وظلمُ العباد. بل يُصْلِحُها أن يسودَ الاستقرارُ والسَّلمُ ورعايةُ المصالح المشروعة لكل الدول، بإدخال الدولِ الكبرى التي يجب أن نساهم في الضغط عليها بكل وُسعنا، والثورةِ عليها إن اقتضى الحال، لينشأ جوُّ الصداقة والإنصاف بين بني الإنسان، ذلك الجو الضروري لازدهار الدعوة) 7 .
هذه بعض ومضات بمناسبة الرحيل تحتاج إلى كبير بحث وعميق تدبر، وإلى لقاءات مقبلة بحول الله وقوته.