لقد شهد تاريخ الإسلام علماء أفذاذا ومفكرين عظاما عرفوا بالبراعة والسبق في شتى الميادين والعلوم، فلم تقف معرفتهم على باب واحد من أبواب العلوم والمعارف، بل كانوا على نحو دقيق موسوعيين في تكوينهم، أخذوا بنصيب وافر من علوم القرآن والحديث والفقه واللغة والرياضيات وعلم الكلام والأنساب والأيام والأخبار والطب وغيرها.
وكان العلماء والفقهاء أهل معرفة بأصول الدين ومعارفه المختلفة، وكانوا على دراية واسعة باللغة وأساليبها، وكانوا أصحاب ذوق وفن وأدب.. فكان الفقيه يجمع إلى فقهه وورعه، إلمامه بالأدب والشعر حفظا ودراية، إبداعا ونقدا، بغض النظر عن موضوعاته أو فنونه… فكان الشافعي إماما للمذهب الذي أثر عنه ونقل، وكان مع ذلك شاعرا مجيدا، له شعر ضمه ديوانه المشهور والمتناقل عنه، وكان شعرُه في أغلبه يتناول الحكمة ومناجاة الخالق، والدعاء والاستغفار والتندم على المعاصي. ولذلك انتشر شعره بين الناس ولا يزال، وصارت بعض أبياته أمثالاً يتداولها الناس في حياتهم اليومية.
وكذلك كان القاضي عياض شاعرا متميزا، إلى جانب كونه فقيها ومحدثا وقاضيا، وهو صاحب ” كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى”، وكان يغلب على شعره الغزل والتشبيب…
كما عرف لسان الدين بن الخطيب إلى جانب كونه وزيرا وفقيها وطبيبا ومؤرخا، أنه كان أديبا وشاعرا ووشاحا… وكذلك عرف عن أهل العلم اهتمامهم بالأدب شعره ونثره. أمثال الباقلاني والرماني والرازي وابن سينا والفارابي والقاضي عبد الجبار، كذلك كانوا يجمعون بين العلم وبين الأدب… وكان منهم من فضل أن يكون شاعرا لو لم يكن فقيها أو محدثا.
ولم يشذ الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله عن هذه الحقيقة الثابتة في حق العلماء الأفذاذ الكرام السابقين لزماننا علما ومعرفة شاملة متكاملة، وإن شذ عن علمائنا في زمن أصبح فيه العلم تخصصا، وأصبح المتعلم متخصصا في بعض العلوم دون بعض.. فأصبح رحمه الله بذلك امتدادا لهذه السلسلة المباركة من العلماء… وحلقة نيرة تذكرنا بهم وبموسوعيتهم…
هكذا جمع رحمه الله بين المعرفة العلمية الدقيقة المتخصصة في مجالات علمية متعددة…
كما برع في معرفة الأدب وفنونه ونقده وتسخيره لخدمة الفكر المنهاجي، لتتكامل النظرة العلمية مع مجموع المناهج الأصولية الإسلامية التي تعتبر التمكن من نصيب وافر وحظ كبير من الأدب أمرا مساعدا على الاستنباط والاجتهاد، إذ لا يمكن أن تكتمل للمجتهد آلة الاجتهاد إلا بما لديه من إلمام بالعربية ومبانيها ومعانيها ومعرفة دقيقة بأساليب العرب الجارية على ألسنة البلغاء منهم وأصحاب الصناعات القولية الشعرية والنثرية، مستمدا معرفته النافذة من أصولها العميقة الضاربة في جذور التاريخ العربي الإسلامي النقدي والأدبي، منطلقها القرآن الكريم وأحاديث النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، فتكوّن له بذلك ذوق أدبي رفيع أبانت عنه إسهاماته النقدية ونظراته الموجهة الثاقبة، وأعماله الأدبية الشعرية منها على وجه الخصوص… 1
لقد حظي الأدب شعره ونثره باهتمام كبير في كتابات الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، منه ما كان استشهادا في مواضع بعينها تخص قضية من القضايا للتدليل على رجوحها أو قوتها أو بلاغها، ومنه ما كان توجيها عاما إلى شخص بعينه له باع في الشعر أو النثر، وهذا أمر يشهد له كل من عرفه من الأدباء والشعراء الذين كانوا بحضرته، وقدم لهم كثيرا من الآراء الأدبية تعديلا أو استحسانا أو توجيها. ومنه ما كان اختيارات شعرية ضمتها مختاراته عن كبار العلماء والأدباء 2 ، ومنه ما كان من آداب أطباء القلوب الذين لهم قدم راسخة في الأدب شعره ونثره كما هو الحال مع المربين المؤدبين للمريدين والأتباع والتلامذة بما يليق من معان وإشارات تلخص المضامين وتجمع القضايا. وهذا هو التعريف الأول الذي يعطيه للأدب إذ: الأدب لغة هو الدعوة والجمع والتعليم) 3 . ويعرف الأديب بأنه من اجتمعت فيه خصال الدعوة إلى محامد الأفعال والأخلاق والنيات، وتحلى بمجامعها، وتعلمها ثم علَّمها) 4 .
ويمكن أن ننظر إلى الإمام المجدد أديبا وناقدا من ثلاثة جوانب أساسية هي:
1 – إسهامه النقدي المؤطر للأدب والفن من منطلق إسلامي، متمثلا في تقديمه العام والواضح في منظومته الوعظية، وهي المنظومة التي يبسط فيها رأيه في الأدب والفن الإسلاميين، وكيف يجب أن يكونا في خدمة الدعوة إلى الله وفي تبليغ رسالات الله تعالى، وموجها من خلال نظرته هاته انتقاده لما عليه مثقفو العصر وأدباؤه وفنانوه من شعراء وكتاب وروائيين وسينمائيين، الذين غلبت عليهم النظرة المادية، وطوحت بهم الحضارة الدوابية، وقد صاروا عبيدا لما أنتجه المفكرون الغربيون من أعمال خاطبت في الإنسان جانبا منحطا، أثارت فيه بهيميته ليس إلا.
2 – استشهاده بكثير من الشعراء والأدباء ولا سيما في كتابه “الإحسان”، فنجد يستشهد بالصحابيين الجليلين عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت، وبشعر كعب بن زهير والنابغة، وبشعر عبد الله بن المبارك والإمام الشافعي، وبشعر ابن القيم وشيخه ابن تيمية، وبشعر البحتري وأبي العتاهية، وبشعر ابن عطاء الله . وتثمينه لكثير من الأدباء والشعراء الذين كانوا في خدمة الدين، منافحين عنه من خلال كتاباتهم وآرائهم و إبداعاتهم.
3 – إبداعه للأدب شعرا ونثرا بما يجعله مطبقا لما يدعو إليه من مبادئ وأسس موجهة، متفاعلا مع نظرته المغايرة تلك لما جاءت به إبداعات الكثيرين من الأدباء المنتسبين إلى بلاد المسلمين، أمثال أدونيس ونزار قباني وغيرهما من الأدباء والشعراء.
وقد أبدعت قريحته الشعرية المطبوعة دواوين شعرية منها ديوان “شذرات” الصادر سنة 1992، و”المنظومة الوعظية” سنة 1996، وسلسلة “قطوف” التي صدرت على التوالي في بداية الألفية الثالثة.
ومثلت مقدمة المنظومة الوعظية الاهتمام المباشر بالأدب والفن، وعبرت عن نظرة الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله النقدية، وهي نظرة مميزة جديرة بالدراسة والبحث فيما يتعلق بالأدب.
فهو وإن صرح بأن هذه المنظومة لا ترقى إلى مراتب الصنعة الشعرية، لكنها تطمح أن يضرب لها بسهم في مضمار الأدب الإسلامي الرافع راية الدعوة بين قوم غافلين 5 .
كما يعتبر أن من الجهاد جهاد الكلمة والحجة وهو جهاد كبير فيه: يتميز أدبنا وشعرنا ومسموعاتنا ومرئياتنا عن سمت الكافرين والمنافقين. نربي ونساهم في تربية بأدب معافى من لوثات التعايش مع عصر الاستهلاك والتجارة الحرة في متاع الدنيا وبضاعة الزنى وأعراض النساء والأطفال.)ومن هنا ينبغي أن يكون الأدب الإسلامي وسيلة من وسائل التربية، كلمة لها مغزى، تحمل معنى، تبلغ رسالة. لا أداة تسلية وبضاعة استهلاك. وسيلة تربية وكلمة هادفة تأخذ من العصر وسائله، وتروضها وتتزين بزينة الله…) 6 ،إنه جهاد كلمة في جهاد تربية، مشاركة كلمة وفن وصنعة بلاغية متلطفة وقول بليغ قوي في مشروع تربية متكاملة تحقن منعة العافية في شرايين أجيال السلامة والإسلام) 7 .
وبهذه النظرة النقدية المتميزة يرى أنه لا ينبغي أن: تبطل معارك المنافسة المحمومة على اهتمام القارئ والسامع والناظر عزيمتنا على تبليغ رسالة الله… ذاك الأديب الشاعر المنتمي اسما ولقبا إلى أمة الإسلام…) 8 . ويشترط: أن لا نضيع المضمون القرآني جريا وراء الجمالية والصنعة والتنميق الفني. من وراء شفافية الشعر وتلطف الفن وترقيق الأدب، ينبغي أن يرتسم بوضوح حقيقة من أنا المتكلم الشاعر الأديب الفنان) 9 . وهو، بما هو أديب، يود وهو يصرح على لسانه أن تنفذ رسالتي وتبلغ أمينة على البلاغ القرآني النبوي الذي أخدمه عزيزا به مقتحما به متحديا به) 10 . وذلك بأدب يربي ويؤدب ببلاغة ورقة وجمال) 11
رأيه النقدي في بعض العلماء والشعراء
من آرائه النقدية قوله: لأبي العتاهية رحمه الله رأيٌ صوابٌ في ذهاب الدنيا وأهلها، ويستشهد بشعر له في الموضوع، ويقول في حق ابن القيم: ها هو يشيد بشيخه إشادة لاَ يتأتى لها النثر. فقال شعرا في نونيته المشهورة التي سجَّلت معركة حَاميةً في تاريخ الخلاف 12 .
ويقول في أدب اليوسي وبلاغته: ما أنصع بيان اليوسي رحمه الله في كشفهما وترذيلهما في إحدى قصائده. وكان فَحلاً من الشعراء مُجيدا) 13 . ويستشهد بقوله:
قال اليوسي رحمه الله:
ويْحَ المشَرِّف للخسِيس مُجِلِّهِ
ومُذِيلِ ذي الشَّرَف الأثيل الأقْعَد
وحفيظِ من هُو للصداقة خَائِنٌ
وخَؤُونِ ذي الوُدِّ الصفِيّ الأتْلَدِ
ولبَائع حُوراً حِساناً خُرّداً
عُرُباً بعظم في التّراب مُدَوَّدِ 14 ويضيف موضحا قدرته على الوصف أين نحن من النَّوْكَى المتلَدِّدين في حُمْقهم وتفاهتهم الأخلاقية الذين وصفهم الإمام اليوسي رحمه الله بقوله:)حَرِدٍ إذا ما سيمَ خسفا جاهه
وإذا يُسامُ إلهُهُ لَمْ يَحْرَد 15
كما يستدل بشعر الشاعر المسلم محمد إقبال كما في قوله: كان شاعر الإسلام محمد إقبال رحمه الله يقول: إذا بقي الأفغان بقيت الجبال وبقيت كلمة الله والملك لله). ويقول في شعر آخر: اجتمع إبليس بأعوانه ونصحهم قائلا: لكي تُدمِّروا غيرة الشعب الأفغاني على الإسلام أخرجوا العلماء من جبالهم ووديانهم) 16 .
ويعتبر محمد إقبال المفكر المسلم الهندي، الشاعر الفحل، كما يعتبر مؤلفاته السياسيّة أهَمَّ مُحَرِّك في اتجاهِ تأسيس دولة باكستان، انفصالا عن الهند سنة 1948 بتاريخ النصارىياسين عبد السلام، حوار الماضي والمستقبل، ص: 123..
كما يثني على كثير من الأدباء ممن شمروا عن أقلامهم دفاعا عن الدين من أمثال الشيخ رشيد رضى والشيخ محب الدين الخطيب رحمهما الله، والكاتب البارع البليغ مصطفى صادق الرافعي أحسن الله إليه.
إن الاحتكاك بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية وبالشعر قديمه وحديثه وبكل الآداب الإنسانية، إضافة إلى سلامة الطبع، وحسن التأتي والمأخذ، كل ذلك أمد الأستاذ عبد السلام ياسين بأدب رفيع.
ويجري الإمام المجدد في أدبه على أساليب العرب وفصاحتهم، وهو بذلك يعيب ما درج عليه كتاب العصر وأدباؤه من رطانة تبعدهم عن لغة القرآن وتتجافى بهم عن أساليب البلاغة النبوية، وهو بذلك أديب مطبوع وأصيل، أعاد للكتابة وهجها المتألق، يصول بقلمه في سماء الأدب والبلاغة غير منازع.كما تمثلها المنظومة الوعظية التي قدمت تصور الإمام المجدد رحمه الله للأدب والفن.
[2] انظر مختارات الإمام المجدد رحمه الله ،وهي كثيرة وموجهة لخيري الدنيا والآخرة.\
[3] ياسين عبد السلام، الإحسان ج 2 / 394.\
[4] ياسين عبد السلام، الإحسان ج 2 / 394.\
[5] ياسين عبد السلام، المنظومة الوعظية، ص: 3.\
[6] المنظومة الوعظية، ص 15-16.\
[7] المنظومة الوعظية، ص: 21.\
[8] ياسين عبد السلام، المنظومة الوعظية، ص: 17-18.\
[9] المنظومة الوعظية، ص: 26.\
[10] المنظومة الوعظية، ص: 26.\
[11] المنظومة الوعظية، ص: 27..
\
[12] ياسين عبد السلام، الإحسان، ج 1/ 158.\
[13] ياسين عبد السلام، حوار مع صديق أمازيغي، ص: 218.\
[14] حوار مع صديق أمازيغي، ص: 218.\
[15] حوار مع صديق أمازيغي، ص: 240.\
[16] ياسين عبد السلام، سنة الله، ص: 205.\