الإحسان أو شهادة الإمام.. قراءة في كتاب “الإحسان” (1)

Cover Image for الإحسان أو شهادة الإمام.. قراءة في كتاب “الإحسان” (1)
نشر بتاريخ

حديثي حديثُ القلب إلى القلوب الحُرّة) (عبد السلام ياسين، الإحسان، ج1/ص: 27).

مدخل

يُعتبر كتابُ الإحسان) من أمهات كتب الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله التي تضم: المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا)، العدل: الإسلاميون والحكم)، تنوير المؤمنات)، نظرات في الفقه والتاريخ)، ومقدمات في المنهاج). فرغ الإمامُ من تأليفه يوم الجمعة 23 صفر 1409 للهجرة الموافق 5 أكتوبر 1988، ونشره سنة 1998 عن “مطبوعات الأفق” بالدار البيضاء بعد انصرام عشر سنين، اشتد خلالها عود الجماعة، وامتد تنظيمها، ورشد قياديوها، وتشرب معظم أعضائها كلٌّ حسب هِمّته معانيَ الإحسان وشعبَ الإيمان. وفي هذا الانتظار إشارة على أن الرجل لا يكتب لنفسه وليحلق في سماء الثقافة، بل ليدل على الله، بعد نضج مريدي الله، طاعة لله.

غلاف الكتاب أبيض ناصع، كناية عن الفطرة، والإيمان، والسلْم، وصفاء السّرّ، وخلوص النية، ووضوح الطريق، وسلامة المنهج، والسعادة في الآخرة؛ يتوسّطه مربع أخضر رمز الدوحة النبوية الشريفة، وحياة الروح، عليه كتب بالأبيض عنوان الإحسان). وكلا اللونين تعبير فني عن التمسّك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم.

الكتاب أضخم مؤلفات الإمام إطلاقا، يبلغ عدد صفحاته بجزأيه 1040 صفحة من الحجم الكبير، دلالة على أنه رحمه الله، لِلَوْعته على الدين وحبه للمسلمين وإشفاقه حتى على غير المسلمين، يريد أن تلامس كلماتُه كل القلوب. فكان لا بد تحقيقا لهذه الغاية الجليلة أن يورد كل الشواهد والنصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن مآثر الصحابة رضوان الله عليهم، ومن أطايب كلام أعلام الأُمّة وأفذاذها، ليُسمِع كلمةَ الحق منْ يبحث عن الحق تعالى، من يريد أن يسلك إليه جل وعلا، من يريد القرب منه، من يريد أن يرتقي إلى مقام الإحسان، وهو موضوع الكتاب. يقول الإمام رحمه الله: قصدي في هذه الصفحات أن أدل على الله وعلى الطريق إليه) 1 . فالكتاب جواب عن سؤال الكيف الذي أرّق كثيرا من العلماء والعاملين للإسلام سيّما في العصور الأخيرة، هذا الكيف الذي سمّاه القرآنُ تزكيةً وسمّاه الاصطلاحُ التاريخي تصوُّفا وسمّاه شيخُ الإسلام ابن تيمية فقهَ سلوك) 2 .

ينقسم الكتاب إلى جزأين، في كل جزء ستة فصول. أما الأول ففيه بعد المقدمة: الرجال، عقبة واقتحام، الصحبة والجماعة، الذكر، الصدق، البذل؛ وأما الثاني فيحتوي على الفصول التالية: العلم، العمل، السمْت الحسن، التؤَدَة، الاقتصاد، الجهاد. فالكتاب إذن عرض من منظور إحساني للخصال العشر التي تُكون مراحلَ صعود في العقبة التي يُهيب الخالقُ الكريم بالإنسان أن يقتحمها، بدءًا من الصحبة والجماعة) وهي أول خطوة في السلوك إلى الله حتى الجهاد).

يبدأ الأستاذ ياسين كل فقرة من الفصل/الخصلة بدعاء قرآني أو نبوي أو بهما معا)، ويُوشيها في آخرها بشِعْر يُرقّق الشعور) 3 ، أشعار مختارة لأهل الله تعالى، وشعر من نظْمِه رحمه الله. تنتهي كل خصلة من هذه الخصال، التي تناولها من زاوية أخرى في كتابه المنهاج النبوي)، بفقرة عنوانها شعب الإيمان)، تُكوّن مجتمعةً ركائزَ سلوكية لا يمكن لطامح في مقامات الإحسان وسلوك طريق العرفان أن يتجاوزها أو يتنكّبها، وإلاّ كان كمنْ يبني على غير أساس) 4 .

مضامين الكتاب

الفصل الأول: الرجال

بعد أن تحدث عن معاني كلمة الإحسان) الثلاثة التي ورد بها القرآن ووردت بها السُّنة، اعتبر الإمامُ الإحسانَ في مدلوله الأول وهو أن “تعبد الله كأنك تراه” كما جاء في حديث جبريل عليه السلام، غاية الغايات ومحطّ نظر ذوي الهِمم العالية من الرجال) 5 . لكن السؤال الذي ينتصب في وجه كل طالب وطالبة وجه الله تعالى ومتشوف ومتشوفة لهذا المقام العالي، مقام القرب والحب هو: ما العمل وكيف؟

يجيب الأستاذ ياسين أن هذا العلم علم الكيف هو أهم علم وتطبيقه أهم عمل)، وأن من عمل به وحافظ عليه هم من تسموا في التاريخ باسم “الصوفية”. علم ثابت في الكتاب والسنة) 6 ، لأنه عليه تقف استقامة الفرد وصلاح المجتمع، بل بقاؤهما ومنعتهما. يتساءل الإمام: أفيمكن للأُمّة والجسد واهٍ غُثائي أن تستجمع قواها وتجاهدَ أعداءها وتعِزّ على المستكبرين إن لم يصلح القلبُ وتتوثق عُرا الإحسان؟). الجواب في نظري يعرفه كل غيور على الدين، غيور على الأمة. القلب مكمن الداء (يجيب الإمام)، فإن صحّ وسلِم فهو مركز الإشعاع، وهو العنصر الحاسم في معادلة وجود الأمة وانبعاثها) 7 .

يحذر الكاتب الفاضل من سوء فهم المقصود بلفظ “تصوف”، التي توجس منها بعض الفقهاء وحاربها آخرون في سالف القرون، جهلا بالدين، أو لقعود وانزواء بعض المتصوفة أهل الله المقرّبين قائلا: لكن أساليب العزلة وتربية الصمت والمجاهدة المنفردة في زماننا نكوص وبيت المقدس محتل، والأمة نهب مقسّم، ووجودها المعنوي مهدّد، ورسالتها منكرة في عقر دارها) 8 . ويقول أيضا: ولاية الله لا تنال بالقعود والتأمل، وإنما تُنال بالجهاد والمجاهدة فيما يُطهّر القلبَ وينفعُ الناسَ في الأرض) 9 .

وأول شرط لتطهير القلب واللحاق بالمحسنين هو صحبة عارف بالله خبر الطريق ومهاويها، وعرف النفس وشهواتها، إذ “المرء على دين خليله” كما جاء في الحديث. وللمنكرين المحجوبين عن حقائق الدين، الذين يرددون بلا علم ولا تجربة: لم يثبت أن حصل هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد سلفنا الصالح، يقول الإمام المجدد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك شيئا يسمّى مصحفا، ولا كتبا، ولا فقها، ولا أصولا، ولا دواوين للحديث، ولا مدرسة، ولا نحوا، ولا صرفا، ولا علوما تخصصية، ولا، ولا، ولا.) 10 ويقول رحمه الله: في تلك القرون كانت الصحبة والاقتباس الروحي عملية فطرية، يجذب القلب الكبير القلوب الظمأى إليه في يسر وصداقة ورحمة) 11 . ثم يذكر فطاحل وأئمة أجمع علماء الأمة على صلاحهم ونبوغهم صحبوا في الله وسلكوا على يد مشايخ مُعظمهم أقلّ منهم علما وتفقها في الدين بكثير، كالإمام النووي، والإمام العلامة السيوطي، وحجة الإسلام أبو حامد الغزّالي، والحافظ الزاهد الفقيه تقي الدين ابن دقيق العيد، والمحدث البارز ابن حجر الهيثمي، وسلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام، والإمام الشوكاني …

الفصل الثاني: عقبة واقتحام

في هذا الفصل يعرض الإمام المجدد، اقتباسا من سورة البلد، رأسَ المفاهيم التي يقوم عليها المنهاج النبوي المفصل في هذا الكتاب وباقي كتبه الرئيسية الأخرى: اقتحام العقبة) إلى الله عز وجل. يقول الخالق الكريم في محكم كتابه: فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة إلى آخر السورة. يشرح الإمام قائلا: عقبات تثبط الإنسان عن اقتحام العقبة الإيمانية، وعقبات أوعر تعوقه عن الارتقاء في الإحسان. عقبات من تعلق نفسه بالدنيا، بالمال، بالجاه الذي يصرفه عن المرحمة، بالأنانية التي تجعله يستكبر عن الدخول في حصن الجماعة يسمع النصيحة، غافلا عن ربه، عن مخلوقيته، يحسب أن أحدا لا يراه، ناسيا أن الذي برأه وجعل له لسانا وشفتين ديّان) 12 .

على أن هذا الاقتحام لا يتأتى بالعزلة والهروب من الساحة، بل بتوسط الفتنة، ومدافعة أهل الباطل في مضمار السياسة والاقتصاد وسائر مجالات الحياة الدنيوية كما دافع الصحابة الكرام، حتى نالوا بالجهاد المزدوج الجهاد الآفاقي والأنفُسي درجة الكمال) 13 . وعن تلازم الجهادَيْن المبلغين الدرجة الشريفة، يستشهد الإمام بقوله تعالى في سورة النساء: لا يستوي القاعدون من المومنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. فضّل اللهُ المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة. وكلا وعد الله الحسنى. وفضل المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة. وكان الله غفورا رحيما (الآيتان: 95-96).

ومن كان حلساً من أحلاس بيته) من أولياء الله تعالى فيما مضى إثر الانكسار التاريخي) 14 بعبارة الإمام، فعذره أوامر نبوية صريحة) جاء بها الحديث الذي أخرجه مسلم وأبو داود عن أبي بكرة وتضمنتها أحاديث أخرى 15 .

إن هذا الاقتحام أو هذه الربانية ليست اجتهادا وتحصيلا وشهادات وإجازات، بل وهب إلهي وعطاء ومنة) 16 ، لمن شمّر عن ساعد العمل والطاعة، واجتهد في العبادة، واقتحم العقبات لله، مسترشدا بولي لله تعالى بالسماع والتشبّه والتمثّل والتشرّب 17 . وهنا يعود الإمام المجدد، تأكيدا على مركزية الصحبة في دائرة السعي إلى المولى عز وجل، ليقدم شهادات قولية لعلماء متأخرين، بعد أن قدم عنها في الفصل الأول شهادات فعلية، كشهادات العلماء الأجلاء أبو إسحاق الشاطبي، حسن البنا، الشيخ الندوي، سعيد رمضان البوطي، وسعيد حوى.

الفصل الثالث: الصحبة والجماعة

اقتحام العبد عقبات نفسه وهواه والعقبات الاجتماعية المحيطة يفضي إلى حبّ العبد ربَّه وحب الربّ عبدَه (و) هو قُطب رَحى الدّين) 18 . يقول الكاتب: تتحقّقُ الولاية للعبد، ويُحرز على السبق والقربى حين تُكلّل جهوده في طاعة مولاه وحبه والوفاء له والسيْر إليه بحُبِّ المولى عبدَه ذلك الحب الخاص الذي تشْرَئِبُّ إليه أعناقُ الرجال). سنده في هذا القول الحديث القدسي الذي مما جاء فيه: “وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبّ إلي مما افترضته عليه. وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببْته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها” 19 .

هذه المحبة مقرونة بمحبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم العروة الوثقى) وأهل بيت رسول الله: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم. قل أطيعوا الله والرسول. فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين (آل عمران: 31-32). يعلق الأستاذ عبد السلام ياسين: لا فاصل بين حب الله وحب رسول الله وحب أهل بيت رسول الله (…) ولا حدود للتفاني في محبة الشخص الكريم على الله حتى يكون أحبَّ إلينا من الناس أجمعين ومن أنفسنا. (…) مَلَكَ واللهِ ناصيةَ التوفيق منْ كان اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وذاقَ حلاوة الإيمان، وأشرفَ على مشارف الإحسان). ثم يعطي الأستاذ الجليل صورا من محبة الصحابة الكرام والتابعين والسادة الصوفية للنبي الأكرم، معتبرا أن تولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصلاة عليه الدائمة، وحب آل البيت المطهرين، وتولي صحابته، لَمِمّا يُقرّبُ المسافاتِ للمريد الطالب) 20 .

ومما يتفرع عن هاتين المحبتين حب المومنين. يقول الإمام المجدد اعتمادا على الأحاديث التي يحض فيها الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم على التحاب بين المومنين: الجنة ممنوعة علينا ما لم نتحاب في الله)، ومَنْ رُزق في الدنيا من المومنين تحابا خاصا عميقا كان له في الآخرة مكانة خاصة). ثم يخلص للقول: وهنا نضع الأصبع على مفصل، بل موصل، من أهم مواصل بناء الجماعة (جماعة واحدة أو جماعات متعاونة منسجمة يؤكد الإمام المجدد في فصل آخر)، بل هو أهمها إطلاقا: ألا وهو التواصل القلبي) 21 .

لكن أنّى لك بذلك التعلق بالقلب الأسمى والجناب الأحمى ونفسك في الحضيض، عديم الإرادة، ساقط الهمة) 22 ، يكتب الإمام مخاطبا القارئ. الجواب نقرؤه إثر العبارة الأخيرة، ونقرأ أدلته في الفقرات التالية من هذا الفصل. يقول الإمام: اسأل ربك أن يقيض لك روحانية عارف تطير بك همّتها بأجنحة المحبة إلى رحاب الوحي والنبوة) 23 . ويقول لاحقا قولا هاما جدا: بعد ذلك (وفاة النبي الكريم) أفاق الصحابة من الذهول، وانتخبوا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق، فأدّت الصدّيقيّة منذئذ ما كانت تؤديه النبوة من وظيفة الحضور والشهادة بين الناس والهداية والدلالة، وكان التبليغ العلمي اللساني العقلي جزءا من المسألة لا كل المسألة. بقيت الوراثة القلبية والتحاب في الله بين المومنين جوهر الدين. بقيت سنة الله في التابع والمتبوع قائمة وستظل إلى يوم القيامة) 24 . ثم يستدل بالحديث الذي رواه الشيخان والترمذي: يأتي على الناس زمان يغزو فيه فِئامٌ من الناس فيقولون: هل فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم! فيفتح لهم…) ليضيف معلقا: بركة متسلسلة، وفلاح ونصر. وإن التابعين فمن بعدهم إلى يوم القيامة لَتَشمُّ أرواحُهم نسيمَ الحب والقرب من عشرة أصحاب القلوب النيرة الخيرة، وتحوم حولها، وتقتبس منها نوراً ومحبةً وروحاً) 25 .

هذه الصحبة المباركة في الله مع الذكر والاتباع للوارث الكامل 26 المتحقق بتبعيته الشاملة للرسول صلى الله عليه وسلم تُثمِر ميلادا قلبيا ووجودا جديدا 27 . يخاطب الإمام المجدد القارئ: اقرأ لنفسك قول الله تعالى:)أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها (الأنعام: 122) (…) وقوله عز من قائل:)إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصمّ الدعاء إذا ولّوا مدبرين (النمل: 80)) 28 .

ومن الشهادات اللافتة التي ساقها الإمام رحمه الله شهادة ابن قيم الجوزية تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي يستشهد به بعض المقلدين لإنكار ما هو من صحيح الدين، قال ابن القيم: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يذكر ذلك (أي مرتبة الوجود الثاني التي هي أعلى مراتب الإحسان) ويفسره بأن الولادة نوعان: إحداهما هذه المعروفة، والثانية ولادة القلب والروح وخروجهما من مشيمة النفس وظلمة الطبع) 29 .

الفصل الرابع: الذكر

الذكر هو الشرط الثاني من شروط التربية بعد الصحبة والجماعة. قال الله عز وجل في كتابه العزيز: لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (الأحزاب: 21). وقال جل وعلا يخاطب رسوله الكريم: ولذكر الله أكبر (العنكبوت: 45). وقال عز من قائل في سورة الرعد: الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله. ألا بذكر الله تطمئن القلوب (الآية: 28). انطلاقا من هذه الآيات يحدد الإمام رحمه الله شرط التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، والخشوع في الصلاة، واستكمال صفات الإيمان، وهو: الذكر: من لا يذكر الله كثيرا لا أسوة له برسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يقدر على التأسي، وهو الاستناد والاتباع (…) من لا يذكر الله في صلاته وإذا تلا القرآن فلا تلاوة له ولا صلاة. له صورة الصلاة وأركانها البدنية، لكن ذكر الله، وهو الأمر الأكبر والأعظم الذي من أجله شرعت العبادات، فاته ففاته لب العبادة. من صفات المومنين الاطمئنان للذكر والاطمئنان بالذكر، فمن لا طمأنينة له بذكر الله لا يستكمل صفات الإيمان) 30 .

وبما أن صلاح المجتمع يقف على صلاح الفرد، وصلاح هذا ينبني على الذكر، فإن الذاكرين يكونون هم مناط التجديد) 31 ، عليهم يتوقف انبعاثُ الأُمّة من غُثائِيَتِها. وليس المقصود بالذاكرين أولئك المتبتلين المنزوين في الزوايا المنقطعين عن العالم في البيوت، بل المستهترين بذكر الله وهم في ساحة الجهاد بمعناه الواسع، أي الذي يشمل سائر ميادين التدافع الأرضي: ذكر الله باللسان والقلب (…) بناء على غير أساس إن لم يصن ذلك الذكر الكثير ذكر الله عند الأمر والنهي، ذكره عند حق كل ذي حق، ذكره في الدرهم والدينار، ذكره في الأمة التي تنتظر مجاهدين لإقامة دين الله في الأرض) 32 .

والذكر يجمع أنواعا من العبادات، بها يتقدس الكيان القلبي للمومن، ويكون التقديس أعظم إن كان ذكر الله أدومَ) 33 . وأولها ذكر الكلمة الطيبة): لا إله إلا الله. يقول عنها الأستاذ عبد السلام ياسين بعد سرد مجموعة من الأحاديث التي تحث على الاستمساك بها: في لفظها المقدس سرٌّ وكيمياء بهما ينفذ الإيمان إلى القلب) 34 . ثم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ هي من أعظم الأذكار فضلا، وأجلّها قدراً، وأوفاها بمقصود المريدين المحبين المتقربين (…) هي شيخ من لا شيخ له) 35

ومن الذكر الدعاء بآدابه، وهو “مخ العبادة” كما جاء في الحديث، ومنه أيضا التفكّر أي تناول الأشياء والمعاني من زاوية مرجعيتها إلى الخالق، ومن زاوية معنى وجود الإنسان، ومصيره بعد الموت، ومخلوقيته، ومسؤوليته في الآخرة) 36 . وعمق التفكّر هو الحزن على حال النفس والرجوع عليها باللائمة والقرع والقمع والتوبيخ الدائم) 37 مع مخالقة الناس بالخلق الحسن) ولقائهم بالبشاشة الدائمة) 38 .

ومنه ذكر الموت والدار الآخرة)، يقول الإمام المجدد: إنك تقرأ كتب الإسلام الثقافي من الدفة إلى الدفة فلا تجد ذكرا لله ولا لليوم الآخر إلا استثناءً غير مقصود. وإن حاجتنا إلى العودة للخطاب القرآني والنبوي، وكلاهما ذكر لله والآخرة، لمن أمس الحاجات حتى لا نتيه وتضيع منا مُسكة الإيمان بالغيب التي عليها مدارُ اهتدائنا وفلاحنا) 39 .

ومن جملة الذكر، بل أعظم الذكر القرآن) 40 ، أورد المؤلفُ رحمه الله عدة آيات وأحاديث لتبيان مكانته في الدين… وقال أيضا: ولكل من عظّم كتاب الله وخدمه حفظا وتلاوة، وعمل بأمره ونهيه نصيب من ولاية الله) 41 . معتبرا أن الاعتصام بالحبلين العظيمين، كتاب الله وسنة رسول الله هو مخرج الأمة من الفتنة، ومِعراجها من دركات الانحطاط والانهزام والغُثائِيَة) 42 .

الفصل الخامس: الصدق

يتحدث الإمام في هذا الفصل، مستشهدا بالآيات التالية وآيات أخرى، عن المنزلة العظمى) وهي إخلاص النيّة لله تعالى، والصدق في طلب وجهه الكريم، والصواب في التوجه إليه. قال الله سبحانه وتعالى: وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا (الإسراء: 80). وقال عز وجل: وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم (يونس: 2). وقال أيضا: إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر (القمر: 55). منزلة زكّى الإمام قول الأستاذ القشيري رحمه الله في اعتبارها تالي درجة النبوة) اعتمادا على قوله تعالى: ومن يُطعِ اللهَ والرسولَ فأولئك مع الذين أنْعَمَ عليهم منَ النبيئين والصدّيقين والشهداء والصالحينَ (النساء: 36) 43 .

قد تحسب فئة من الناشطين في الساحة الإسلامية أنها على الطريق الموصل إلى “مقعد الصدق” لمجرد صدقها في الدعوة لإقامة دولة الإسلام. لهذه الفئة يقول الأستاذ المرشد: حتى دولة الإسلام إنْ نَصرْتَها في غفلة عن الله دُنيا في حقّك، نَصَرْتَ المسلمينَ لم تَنصُرِ الله (…) لا يُغنيك تألقُ مصير الجماعة، و لا تمكينُ دين الله في الأرض (…) إن لم تتحَقّقْ لك أنتَ مع الله جلّ شأنه رابطة العبودية والمحبة والقربة) 44 .

ولدقّة الأمر يورد الإمام كلاما عميقا للعارف الزاهد الفضيل بن عياض حين سُئِل: ما أحسن العمل في قوله تعالى:)الذي خلق الموت والحياةَ ليبلوكم أيكم أحسن عملا. قال الفضيل: أحسنه أخلصه وأصوبه) (…) إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لمْ يُقبَل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبلْ، حتى يكون خالصا صوابا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنّة). ثم يضيف قولا حكيما لأحد أعلام الصوفية أبو يعقوب السوسي: متى شهد الصادقون في إخلاصهم الإخلاص احتاج إخلاصهم إلى إخلاص) 45 . يعلق الأستاذ عبد السلام ياسين: هذا التدقيق على النفس هو عكس الرياء، هو إخلاص الإخلاص، هو الشفاء التام من النفاق والشقاق وسوء الأخلاق (…) وأنىّ لك يا حبيبي بلا طبيب حبيب) 46 .

ومن ركائز الصدق ترك إثارة الخلاف والشقاق بين المسلمين بالنبش في شوارد النصوص وما اختلفوا فيه رحمة من الخالق جلّ وعلا، وكف اللسان عن الوقوع في علماء الأمة ومُجتهديها، ونبذ الجدل والتعصب والتباغض والتنابز بالألقاب، والنأي عن التكفير والتبديع، وعدم طلب الكرامة. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: الجدل عند قوم أحلى وأغلى من العمل. يتفرغ أحدهم ليستعرض الناسَ أمامه، من مضى منهم ومن هو حاضر، في طابورَيْن هو قرّر قِسْمَتَهما مُلوِّحا باسم فلان وفلان، مختفيا تحت رداء منْ مضوا ولقوا الله بأعمالهم، وليس له من خِيارهم ولا من عِيارهم قِسمة، ولا من عِلمهم مُسْكة. طابور المهتدين حزبُه، وطابور الهالكين من لا يخضع ويسمع ويتبع. نُفوسُهم لم تُهذّبْ بصُحْبة، ولا ذكرت الله، ولا حزنت على بلواها، بل ولا علمت بما هي مبتلاة به) 47 .

فالمدخل إلى الصدق إذن هو الصحبة، يقول الأستاذ في الفقرة الأخيرة من الفصل: الكينونة مع الصادقين التي حرّض عليها القرآن الكريم هي مُدخل الصدق إلى سِكّة السلوك. هي الطابع على جواز السفر بمداد التقوى. قال تعالى:)يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (التوبة: 119)) 48 .

الفصل السادس: البذل

في هذا الفصل والفصول اللاحقة يتحدث الأستاذ عبد السلام ياسين عن أمارات الصدق عند مريد وجه الله تعالى، عن الأعمال التي يزكو بها ويترقى في معارج الإحسان، بعد ذكر الله تعالى وصحبته للمحسنين، بعد استيفائه لشروط التربية العاكسة لهذا الصدق: نعرف صدق السالك من بذله للدنيا، أي من إعطائه ما في يده من جاه ومال ابتذالا للدنيا واستهانة بها في جنب الآخرة ثم في جنب الله. نعرف صدقَه من إخلاصه وتقواه ومجانبته المباهاة في طلب العلم. نعرف صدقه من إخلاص عمله بمقتضى علمه، نعرفه من سمته، من تؤدته، من اقتصاده، من جهاده) 49 .

في مقدمة العوائق المانعة عن معرفة الله تعالى إذن نجد حب المال وحب الرئاسة، هما جماع الشرور الاجتماعية) 50 . لا يعني هذا ترك المال والعزوف عن الرئاسة، بل عدم التوجه إليهما كأهداف. يعني إخراجهما من القلب نهائيا، واعتبارهما من وسائل القوة في الدنيا (…) والعزة، والمنعة، والثروة، والسلاح، والاقتصاد المزدهر (…) والزراعة المغذية) 51 . مثلما كان في عهد الصحابة رضوان الله عليهم الذين لم يكن زهدهم زهد انطواء وانزواء، بل كان عملاً فعّالاً (…) وجهادا متواصلا يبذلون النفسَ والنفيس في سبيل الله) 52 ، متوكلين على الله غير متواكلين، آخذين بكل الأسباب العقلية الحركية في احترام تام لسنة الله في الكون 53 .

لقد بيّن الله جلا وعلا فيما وفيمن يجب بذل الأموال في الآية الكريمة من سورة البقرة: ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس (الآية: 177). بناءً على هذه الآية يقول الإمام عبد السلام ياسين: البرّ سلوك متماسك، أخلاقي ديني اقتصادي اجتماعي، في البأساء والضّرّاء وحين البأس، باعثه الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين) 54 .

على أنه لا ينبغي لطامحٍ لدولة العدل أن يتّكل على أجهزة الدولة في مسألة البر بحيث ينفض هو يدَه من القضية نهائيا، وتستحيلُ هي آلةً خيريةً الناسُ من تحتها أرقامٌ في الحضانة، وتحت الرعاية الإدارية التي لا إسمَ لها ولا لونَ ولا وجه) 55 . فالبِرُّ عطاءٌ طوعي. وإيتاءٌ للمال والخدمة لوجه الله، وفتوّة وإيثارٌ، وأخلاق كبار)، لكن بعد القضاء على الظلم والترف والطبقية والفقر ونشر العدل والمساواة وسُنّة التقلُّل في الكماليات 56 .

وخيْرُ البذلِ ما يعود للصّدّيقين الذين تقتضي منزلتهم بذلا للنفس في عمر طويل) شكرا لله تعالى الذي وعدَ عبادَه الصالحين الخلودَ في الدار الآخرة والنظرَ إلى وجهه الكريم. قال تعالى: اعملوا آل داود شُكرا (سبأ: 13). بذلها بتهذيبها، (…) وتوبيخها في جنب الله، وحملها على طاعته، وخضوعها لجلاله، وخشوعها لهيبته، وتضعُّفها أمام قوّته، وتواضعها لقدرته، ورضاها بقضائه وقدره، وصبرها على بلائه، وخوفها من بطشه، وذلتها على المومنين، وعزتها على الكافرين، وعدائها للشياطين وإخوان الشياطين) 57 .


[1] عبد السلام ياسين، الإحسان، الدار البيضاء، مطبوعات الأفق، ط1: 1998، 1/27.\
[2] نفسه، 1/9.\
[3] نفسه، 1/78.\
[4] نفسه، 1/253.\
[5] ن. م. 1/18. (ينبه الأستاذ ياسين إلى أن النداء لا يخص فقط الذكور، للنساء قال الله تعالى في سورة الأحزاب: “وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعدّ للمحسنات منكن أجرا عظيما”(1/21)).\
[6] ن. م. 1/23-24.\
[7] ن. م. 1/26.\
[8] ن. م. 1/54.\
[9] ن. م. 1/43.\
[10] ن. م. 1/208.\
[11] ن. م. 1/43.\
[12] ن. م. 1/94.\
[13] ن. م. 1/94.\
[14] للتعمق في الموضوع، انظر كتاب “نظرات في الفقه والتاريخ” للأستاذ عبد السلام ياسين.\
[15] ن. م. 1/143-144.\
[16] ن. م.، 1/92.\
[17] ن. م. 1/80.\
[18] ن. م. 1/171.\
[19] محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، المكتبة العصرية، بيروت-2004، 4/2039.\
[20] انظر من الجزء الأول من الإحسان الصفحات من 177 إلى 182.\
[21] ن. م. 1/189.\
[22] ن. م. 1/180.\
[23] ن. م. 1/180.\
[24] ن. م. 1/196-197.\
[25] ن. م. 1/196-197.\
[26] لمعرفة شروط الوارث الكامل الذي تتعين حرمته، انظر الصفحتين 235 و236 من الجزء الأول للكتاب اللتين يحيل فيهما الأستاذ عبد السلام ياسين على إفادة الإمام أبي حامد الغزالي.\
[27] ن. م. 1/225-226.\
[28] ن. م. 1/225-226.\
[29] ن. م. 1/230.\
[30] ن. م. 1/258.\
[31] ن. م. 1/269.\
[32] ن. م. 1/302.\
[33] ن. م. 1/260.\
[34] ن. م. 1/267.\
[35] ن. م. 1/300.\
[36] ن. م. 1/305.\
[37] ن. م. 1/313.\
[38] ن. م. 1/317.\
[39] ن. م. 1/321.\
[40] ن. م. 1/332.\
[41] ن. م. 1/329.\
[42] ن. م. 1/333.\
[43] ن. م. 1/350.\
[44] ن. م. 1/348.\
[45] ن. م. 1/359.\
[46] ن. م. 1/360.\
[47] ن. م. 1/383.\
[48] ن. م. 1/423.\
[49] ن. م. 1/433.\
[50] ن. م. 1/434.\
[51] ن. م. 1/441.\
[52] ن. م. 1/441.\
[53] ن. م. 1/449.\
[54] ن. م. 1/464.\
[55] ن. م. 1/465.\
[56] ن. م. 1/472 و1/483.\
[57] ن. م. 1/485.\