الإبادة الجماعية وصمت شجرة الغرقد

Cover Image for الإبادة الجماعية وصمت شجرة الغرقد
نشر بتاريخ

إن ما يتعرض له الشعب الفلسطيني اليوم من قتل وتجويع وحصار ودمار، وإبادة جماعية للنساء والأطفال، وما يقابله من صمت مخز ومخجل للقريب والبعيد، بل وتستر على جرائم الاحتلال ومساندته وإمداده بالمال والسلاح، يذكرنا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:

“لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ” 1

إن هذا الحديث الشريف يخبر بمستقبل الصراع بين المسلمين واليهود، ويبشر المسلمين بالنصر والتمكين، فهو يزرع اليقين في قلوب المسلمين، والثقة الكاملة في موعود الله ورسوله، حيث المستقبل للمسلمين، المستقبل تحرير بيت المقدس وتطهيره من رجس الصهاينة الغاصبين، رغم قساوة الحاضر ومعاناة أهل غزة العزة، رغم تخاذل الأنظمة العربية والغربية وتسترها على جرائم الكيان الغاصب.

إذا كان اليقين ثقة راسخة في النصر والتمكين، ودافع داخلي يحفزك على الاجتهاد في أخذ الأسباب وإتقانها، فإن المقاومة الفلسطينية أصبحت رمزا لكل هذه المعاني وزيادة، أصبحت بالنسبة لكل أحرار العالم يقينا في النصر يمشي على قدمين، إنها شجاعة ومبادرة وإقدام مجسدة في أجساد رجال، إنها صبر وصمود وثبات وعزة وكرامة اسمها غزة، إنها عام ونصف من المقاومة والمجابهة في وجه أطنان من القنابل والمتفجرات. مهما قلنا عما فعلته المقاومة الفلسطينية في وجه الاحتلال الغاصب فلن نوفيها حقها، إنها المقاومة الفلسطينية وكفى.

إن هذا الحديث الشريف يحذر من شر الصامتين عن قتل الأبرياء من الأطفال والنساء، المتسترين عن الإبادة الجماعية التي يتعرض لها شعب غزة العزة، فشجرة الغرقد تتستر عن اليهود المختبئين ولا تنطق فهي من اليهود، و«الغرقد» هو أحد أنواع شجر الشوك المعروفة ببلاد المقدس، واليهود اليوم يحرصون على استنباتها في كل أنحاء الأراض المحتلة، في يقين تام منهم أنهم منهزمون فمختبئون وراء الشجر، وكما عملت دولة الاحتلال على زراعة شجر الغرقد، فهي خططت لبناء واستنبات أنظمة سياسية، واقتصادية، وإعلامية، وثقافية، ورياضية، تساندها وتتستر عليها وتختبئ وراءها.

إن الصمت المطلق اليوم على معاناة أهل غزة العزة، وعدم التدخل لفك الحصار ووقف الحرب، يؤكد أن هذه الأنظمة مجرد وسيلة وأداة في يد الكيان الغاصب، يستعملها من أجل تحقيق مشروعه وتنفيذ مخططاته، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، سواء بوعي وتنسيق وشراكة كاملة، أو بغير وعي.

إن الذي أنطق الشجر والحجر سبحانه قادر أن ينطق شجر الغرقد، لكن حكمته سبحانه اقتضت أن يكون الغرقد شاجر يهوديا يتستر على اليهود، كما أن حكمته سبحانه اليوم اقتضت أن يصمت العالم الغربي المنافق، أن يصمت دعاة الحداثة وحقوق الإنسان، أن تصمت الأنظمة الاستبدادية والنخب التابعة لها، أن يصمت دعاة التطبيع المبشرون بالشراكة مع دولة الاحتلال، حكمته سبحانه اقتضت أن تنطق المقاومة صبرا وثباتا وشجاعة وإقداما، أن تنطق أرض غزة العزة أنفاقا ترعب جنود الاحتلال وتخيفه، أن تنطق جثامين الشهداء مسكا تنسم عبيره كل الأحرار، أن ينطق شعب غزة صمودا وإصرارا على البقاء في أرض الوطن رغم القصف والدمار، أن تنطق الشعوب الحرة مساندة ودعما لغزة العزة رغم التضييق والاعتقال والحصار، أن تنطق الشعوب حرية، كرامة، عدالة اجتماعية، فتحرير فلسطين مرتبط بتحرير الأوطان.

إن معركة طوفان الأقصى عبرت بوضوح عن ما تحمله الشعوب العربية والإسلامية في قلوبها من تعطش للحرية والكرامة، تعطش للدفاع عن القدس الشريف مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعائق الوحيد أمامها هو هذه الأنظمة الفاسدة المستبدة، التي تنفق ميزانيات ضخمة على شراء الأسلحة وتجهيز الجيوش، من أجل قمع الشعوب والدفاع عن عروشها، وليس من أجل تحرير الأقصى والوقوف في وجه أعداء الأمة.

إن معركة طوفان الأقصى المباركة جعلت القضية الفلسطينية تنبعث من جديد لتصبح قضية الإنسانية جمعاء وليست قضية شعب أعزل يفعل به المحتل ما يشاء، جعلت ضمير الإنسانية يتألم ويستشعر حجم التناقض الذي يقع فيه، ويرى نفسه في مرآة معاناة أهل غزة العزة. إن دماء شهداء أهل غزة الزكية أحيت الرغبة في التحرر والانعتاق من ربقة الاحتلال والغزو الحضاري في قلوب وعقول الكثير من شعوب العالم. إن تدمير مباني غزة وتهديم شوارعها، هو بمثابة بناء لإرادة شباب هذه الأمة من أجل بناء دولة قوية تصنع سلاحها، وغذاءها، ودواءها، بسواعد أبنائها وليس بالاعتماد على الخارج.

إن معركة طوفان الأقصى وسيلة وأداة لهذه الأمة الإسلامية، حتى تتعلم اليقين التام في الله والثقة الكاملة في نصره وتمكينه، حتى تتعلم حسن التوكل على الله مع سنة الأخذ بالأسباب وإتقانها، حيث تنظيم الجهود، ورص الصفوف، وتوحيد الأهداف، حيث التعاون والتكافل والتكامل، حيث تجاوز الفرقة والتشتت، فعدو الأمة واحد هو الكيان الغاصب الذي يدنس باحات الأقصى المبارك، هو الظلم والاستبداد الذي يستنزف خيرات الأمة وثرواتها، هو التخلف والتقهقر والتقليد الذي جعل الأمة تتسول غذاءها ودواءها وسلاحها من الغرب المنافق.

 


[1] رواه الإمام مسلم.