الأيام العشر من شهر ذي الحجة.. فضلها، خصائصها، الدروس التربوية المستفادة منها (2/2)

Cover Image for الأيام العشر من شهر ذي الحجة.. فضلها، خصائصها، الدروس التربوية المستفادة منها (2/2)
نشر بتاريخ

بعض العبادات والطاعات المشروعة في الأيام العشر

مما لاشك فيه أن عبادة الله تعالى والتقرب إليه بالطاعات القولية أو الفعلية من الأمور الواجبة والمطلوبة من الإنسان المسلم في كل وقت وحين؛ إلا أنها تتأكد في بعض الأوقات والمناسبات التي منها هذه الأيام العشرة من شهر ذي الحجة، حيث أشارت بعض آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية إلى بعض تلك العبادات على سبيل الاستحباب، ومن ذلك ما يلي:

الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى ودعائه وتلاوة القرآن الكريم

لقوله تبارك وتعالى: ويذكروا اسم الله في أيام معلومات (سورة الحج: الآية 28).

ولما حث عليه الهدي النبوي من الإكثار من ذكر الله تعالى في هذه الأيام على وجه الخصوص؛ فقد روي عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التكبير، والتهليل، والتحميد” 1 .

وهنا تجدر الإشارة إلى أن بعض السلف كانوا يخرجون إلى الأسواق في هذه الأيام العشر، فيكبرون ويكبر الناس بتكبيرهم، ومما يستحب أن ترتفع الأصوات به التكبير وذكر الله تعالى سواء عقب الصلوات، أو في الأسواق والدور والطرقات ونحوها.

كما يستحب الإكثار من الدعاء الصالح في هذه الأيام اغتناما لفضيلتها، وطمعا في تحقق الإجابة فيها.

الإكثار من صلاة النوافل

لكونها من أفضل القربات إلى الله تعالى، إذ إن النوافل تجبر ما نقص من الفرائض، وهي من أسباب محبة الله لعبده وإجابة دعائه، ومن أسباب رفع الدرجات ومحو السيئات وزيادة الحسنات) 2 .

وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الإكثار منها قولا وعملا، وهو ما يؤكده الحديث الذي روي عن ثوبان رضي الله عنه أنه قال: “سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “عليك بكثرة السجود لله؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة”” 3 .

ذبح الأضاحي

لأنها من العبادات المشروعة التي يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى في يوم النحر أو خلال أيام التشريق، عندما يذبح القربان من الغنم أو البقر أو الإبل، ثم يأكل من أضحيته ويهدي ويتصدق، وفي ذلك كثير من معاني البذل والتضحية والفداء، والاقتداء بهدي النبوة المبارك.

الإكثار من الصدقات المادية والمعنوية

لما فيها من التقرب إلى الله تعالى وابتغاء الأجر والثواب منه سبحانه عن طريق البذل والعطاء والإحسان للآخرين، قال تعالى: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم 4 ، ولما يترتب على ذلك من تأكيد الروابط الاجتماعية في المجتمع المسلم من خلال تفقد أحوال الفقراء والمساكين واليتامى والمحتاجين وسد حاجتهم، ثم لأن في الصدقة أجر عظيم وإن كانت معنوية وغير مادية فقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “”على كل مسلم صدقة”. فقالوا: يا نبي الله! فمن لم يجد؟ قال: “يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق”. قالوا: فإن لم يجد؟ قال: “يعين ذا الحاجة الملهوف”. قالوا: فإن لم يجد؟ قال: “فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة”” 5 .

الصيام

لكونه من أفضل العبادات الصالحة التي على المسلم أن يحرص عليها لعظيم أجرها وجزيل ثوابها، ولما روي عن صيام النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأيام المباركة؛ فقد روي عن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، أول اثنين من الشهر والخميس” 6 .

وليس هذا فحسب فالصيام من العبادات التي يتقرب بها العباد إلى الله تعالى والتي لها أجر عظيم فقد روي عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة فقال: “يكفر السنة الماضية والباقية” 7 .

قيام الليل

لكونه من العبادات التي حث النبي صلى الله عليه وسلم على المحافظة عليها من غير إيجاب، ولأنها من العبادات التي تستثمر في المناسبات على وجه الخصوص كليالي شهر رمضان المبارك، وليالي الأيام العشر ونحوها. ثم لأن قيام الليل من صفات عباد الرحمن الذين قال فيهم الحق سبحانه: والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما 8 . لأنهم يستثمرون ليلهم في التفرغ لعبادة الله تعالى مصلين متهجدين ذاكرين مستغفرين يسألون الله تعالى من فضله، ويستعيذونه من عذابه.

أداء العمرة

لما لها من الأجر العظيم ولاسيما في أشهر الحج حيث إن عمرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت في أشهر الحج، ولما ورد في الحث على الإكثار منها والمتابعة بينها فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما” 9 .

زيارة المسجد النبوي في المدينة المنورة

وهي من الأعمال الصالحة المستحبة للمسلم لعظيم أجر الصلاة في المسجد النبوي الذي ورد أن الصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “صلاة في مسجدي هذا، خير من ألف صلاة في غيره من المساجد؛ إلا المسجد الحرام” 10 . ولما يترتب على زيارة المسلم للمسجد النبوي من فرصة زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما والسلام عليهم وما في ذلك من الأجر والثواب.

التوبة والإنابة إلى الله تعالى

إذ إن مما يشرع في هذه الأيام المباركة أن يسارع الإنسان إلى التوبة الصادقة وطلب المغفرة من الله تعالى، وأن يقلع عن الذنوب والمعاصي والآثام، ويتوب إلى الله تعالى منها طمعا فيما عند الله سبحانه وتحقيقا لقوله تعالى: وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون 11 .

ولأن التوبة الصادقة تعمل على تكفير السيئات ودخول الجنة بإذن الله تعالى لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.

بعض الدروس التربوية المستفادة من أحاديث فضل الأيام العشر

1) التنبيه النبوي التربوي إلى أن العمل الصالح في هذه الأيام العشرة من شهر ذي الحجة أفضل وأحب إلى الله تعالى منه في غيرها، وفي ذلك تربية للنفس الإنسانية المسلمة على الاهتمام بهذه المناسبة السنوية التي لا تحصل في العام إلا مرة واحدة، وضرورة اغتنامها في عمل الطاعات القولية والفعلية، لما فيها من فرص التقرب إلى الله تعالى، وتزويد النفس البشرية بالغذاء الروحي الذي يرفع من الجوانب المعنوية عند الإنسان، فتعينه بذلك على مواجهة الحياة.

2) التوجيه النبوي التربوي إلى أن في حياة الإنسان المسلم بعض المناسبات التي عليه أن يتفاعل معها تفاعلا إيجابيا يمكن تحقيقه بتغيير نمط حياته، وكسر روتينها المعتاد بما صلح من القول والعمل، ومن هذه المناسبات السنوية هذه الأيام المباركات التي تتنوع فيها أنماط العبادة لتشمل مختلف الجوانب والأبعاد الإنسانية.

3) استمرارية تواصل الإنسان المسلم طيلة حياته مع خالقه العظيم من خلال أنواع العبادة المختلفة لتحقيق معناها الحق من خلال الطاعة الصادقة، والامتثال الخالص. وفي هذا تأكيد على أن حياة الإنسان المسلم كلها طاعة لله تعالى من المهد إلى اللحد، وفي هذا الشأن يقول أحد الباحثين: فالعبادة بمعناها النفسي التربوي في التربية الإسلامية فترة رجوع سريعة من حين لآخر إلى المصدر الروحي ليظل الفرد الإنساني على صلة دائمة بخالقه، فهي خلوة نفسية قصيرة يتفقد فيها المرء نفسيته صفاء وسلامة) 12 .

4) شمولية العمل الصالح المتقرب به إلى الله عز وجل لكل ما يقصد به وجه الله تعالى وابتغاء مرضاته، سواء أكان ذلك قولا أم فعلا، وهو ما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: “العمل الصالح”؛ ففي التعريف بـ”أل” الجنسية عمومية وعدم تخصيص؛ وفي هذا تربية على الإكثار من الأعمال الصالحة، كما أن فيه بعدا تربويا لا ينبغي إغفاله يتمثل في أن تعدد العبادات وتنوعها يغذي جميع جوانب النمو الرئيسة (الجسمية والروحية والعقلية) وما يتبعها من جوانب أخرى عند الإنسان المسلم.

5) حرص التربية الإسلامية على فتح باب التنافس في الطاعات حتى يقبل كل إنسان على ما يستطيعه من عمل الخير كالعبادات المفروضة، والطاعات المطلوبة من حج وعمرة، وصلاة وصيام، وصدقة وذكر ودعاء… الخ. وفي ذلك توجيه تربوي لإطلاق استعدادات الفرد وطاقاته لبلوغ غاية ما يصبو إليه من الفوائد والمنافع والغايات الأخروية المتمثلة في الفوز بالجنة، والنجاة من النار.

6) تكريم الإسلام وتعظيمه لأحد أركان الإسلام العظيمة وهو الحج كنسك عظيم ذي مضامين تربوية عديدة تبرز في تجرد الفرد المسلم من أهوائه ودوافعه المادية، وتخلصه من المظاهر الدنيوية، وإشباعه للجانب الروحي الذي يتطلب تهيئة عامة، وإعدادا خاصا تنهض به الأعمال الصالحات التي أشاد بها المصطفى صلى الله عليه وسلم في أحاديث مختلفة، لما فيها من حسن التمهيد لاستقبال أعمال الحج، والدافع القوي لأدائها بشكل يتلاءم ومنـزلة الحج التي -لا شك –أنها منـزلة سامية عظيمة القدر.

7) تربية الإنسان المسلم على أهمية إحياء مختلف السنن والشعائر الدينية المختلفة طيلة حياته؛ لاسيما وأن باب العمل الصالح مفتوح لا يغلق منذ أن يولد الإنسان وحتى يموت انطلاقا من توجيهات النبوة التي حثت على ذلك ودعت إليه.

وليس هذا فحسب؛ فهذه الأيام العظيمة زاخرة بكثير من الدروس والمضامين التربوية، التي علينا جميعا أن نفيد منها في كل جزئية من جزئيات حياتنا، وأن نستلهمها في كل شأن من شؤونها، والله نسأل التوفيق والسداد، والهداية والرشاد، والحمد لله رب العباد.

المراجع

– القرآن الكريم.

– أبو الفداء إسماعيل بن كثير. (1414هـ / 1993م). تفسير القرآن العظيم. ط (2). دمشق. دار الخير.

– أحمد بن حنبل الشيباني. (د. ت). مسند الإمام أحمد. مصر: مؤسسة قرطبة.

– أحمد بن نافع المورعي الحربي. (د. ت). فضل الأيام العشر الأول من ذي الحجة ويليها نظرات في خطبة حجة الوداع وصفة الحج والعمرة. مكة المكرمة: رابطة العالم الإسلامي: هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، مكتب مكة المكرمة.

– سليمان بن الأشعث السجستاني. (د. ت). سنن أبي داود. حكم على أحاديثه وعلق عليه/ محمد ناصر الدين الألباني. الرياض: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع.

– عبد الحميد الهاشمي. (1405هـ / 1985م). الرسول العربي المربي. ط (2). الرياض: دار الهدى للنشر والتوزيع.

– عبد الله بن جار الله بن إبراهيم آل جار الله. ( 1410هـ / 1990م ). بهجة الناظرين فيما يصلح الدنيا والدين. ط ( 4 ). جدة: مكتبة السوادي للتوزيع.

– عبد الله بن عبد الرحمن أبو محمد الدارمي. (1407هـ). سنن الدارمي. تحقيق/ فواز أحمد زمرلي وخالد السبع العلمي. بيروت: دار الكتاب العربي.

– علي بن أبي بكر الهيثمي. (1407هـ). مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. القاهرة، بيروت: دار الريان للتراث و دار الكتاب العربي.

– محمد بن إسماعيل البخاري. (1417هـ / 1997م). صحيح البخاري. الرياض: دار السلام.

– محمد بن جرير الطبري. (1415هـ / 1994م). تفسير الطبري من كتابه جامع البيان عن تأويل آي القرآن. هذبه وحققه بشار عواد معروف و عصام فارس الحرشاني. بيروت: مؤسسة الرسالة.

– محمد بن حبان بن أحمد التميمي البستي. (1414هـ / 1993م). صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان. تحقيق / شعيب الأرناؤوط. ط (2). بيروت: مؤسسة الرسالة.

– محمد بن عيسى بن سورة الترمذي. (د. ت). سنن الترمذي. تعليق العلامة المحدث / محمد ناصر الدين الألباني. الرياض: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع.

– مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري. (1419هـ / 1998م). صحيح مسلم. الرياض: دار السلام للنشر والتوزيع.


[1] أحمد، مج 2، ص 131، الحديث رقم 6154.\
[2] عبد الله بن جار الله، 1410هـ، ص 181.\
[3] رواه مسلم، الحديث رقم 1093، ص 202.\
[4] سورة الحديد: الآية 11.\
[5] رواه البخاري، الحديث رقم 1445، ص 233.\
[6] رواه أبو داود، الحديث رقم 2437، ص 370.\
[7] رواه مسلم، الحديث رقم 2747، ص 477.\
[8] سورة الفرقان: الآية 64.\
[9] رواه البخاري، الحديث رقم 1773، ص 285.\
[10] رواه مسلم، الحديث رقم 3375، ص 583.\
[11] سورة النور: من الآية 31.\
[12] عبد الحميد الهاشمي، 1405هـ، ص 466.\