الأمن الأسري بين الشريعة والقانون

Cover Image for الأمن الأسري بين الشريعة والقانون
نشر بتاريخ

يعتبر تشريع القوانين أحد الوسائل الاستراتيجية التي تحدد للأطراف الحقوق والواجبات عبر مجموعة من القواعد والنصوص القانونية المنظمة لعلاقات الناس بعضهم ببعض، سواء كانت هذه العلاقات اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية. ومن العلاقات التي ينظمها القانون العلاقات الأسرية؛ بما فيها الخطبة والزواج والطلاق والميراث والنسب.

وإذا كانت الأسرة كما هو متعارف عليها هي اللبنة الأساس في بناء المجتمعات الإنسانية منذ الأزل، فهي كذلك مبعث لصناعة أجيال صالحة قوية، وحصن متين، وصمام أمان، ومهد لبناء صرح دين الأمة وعمارة الأرض. لذلك اعتنى الإسلام بالأسرة وجعل بناء العلاقات الأسرية يقوم على مجموعة من المبادئ والقيم والحقوق والواجبات التي تعارف عليها الأفراد داخل المجتمع، والتي توكل معظم الحقوق فيها والواجبات إلى ذمة المؤمن وليس إلى القانون؛ كبر الوالدين والإنفاق عليهما وخدمتهما، وتربية الأولاد وتعليمهم، وصلة الأرحام وغيرها.

لكن عندما تغيرت المجتمعات وتطور العصر، ظهرت تيارات مختلفة يدعو كل منها لمواكبة تطورات العصر وتغيير القوانين المنظمة للعلاقات الأسرية. فما هي عقبات تحقيق بناء هذا النسق الاجتماعي بناء قويا متماسكا؟

نطرح السؤال عندما نتحدث عن قائد الأسرة الذي هو الأب: هل قيادة الأب للأسرة هي سلطة تنفيذية تمارس على الزوجة والأولاد، أم هي رعاية رحيمة وحنو وتربية وتعليم وإنفاق وتوجيه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ (…) وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُم” 1. إن لفظ السلطة الأبوية في حد ذاته قد يعبر عن بعض الغلظة والقسوة والتحجر، إلا أننا إذا استبدلنا مصطلح السلطة بالرعاية كما جاء في الحديث النبوي الشريف، نجدها تعني الحرص على مصلحة الأولاد والذود عنهم ومتابعة أحوالهم التعليمية والصحية وغيرها، ولا تعني الاستبداد والطغيان والتسلط والتجبر على الزوجة والأولاد. بل إن الحكمة الإلهية قسمت الرعاية بين الزوج والزوجة في القوامة للزوج والحافظية للمرأة. والحكمة النبوية بينت مجالات حافظية المرأة؛ فجعلتها تشمل المقاصد العليا للشريعة: حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال.

ومن كمالهما الوظيفي يتقاسم الزوجان مسؤولية تربية الأولاد ورعايتهما انطلاقا من مبدإ تقسيم الوظائف، مع مشاركة الأبناء والبنات؛ باستشارتهم وأخذ آرائهم في كل ما يخص الأسرة اقتداء بسنة المصطفى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم في تربية الأبناء وتعليمهم أن المشاركة في صناعة القرار تبدأ من الأسرة، والشورى بما تحققه من ألفة ومحبة بين أفراد الأسرة هي كذلك وسيلة لدحض التسلط والجبر.

من الأمور المستحدثة أيضا المطالبة بحرية الجسد وتحقيق المساواة المطلقة بين الجنسين في الحقوق والحريات والميراث على النموذج الغربي، وبهذا الخصوص نطرح السؤال: هل نجح الغرب في تحقيق الأمن والاستقرار الأسري من خلال نصوص قانونية تكفل الحريات المطلقة للأفراد وتكفل المساواة المطلقة بين الذكر والأنثى؟

رغم التقدم العلمي والتكنولوجي، والرقي الحضاري والحريات المكتسبة التي تنعم بها المجتمعات الغربية، إلا أنها لا تعطينا المثال النموذجي للأسرة، وذلك لسببين: أولهما: اختلافنا حول مفهوم الحرية، وثانيهما: التفكك الأسري الذي تعيشه المجتمعات الغربية، ففي المرجعية الإسلامية الحرية تحمل معنى الشجاعة والمسؤولية، فالفرد المسلم يكون شجاعا في اتخاذ المواقف المناسبة، جريئا في قول الحق لا يخشى في ذلك لومة لائم، وهو مسؤول عن تصرفاته تجاه الآخرين، لا يملك بحريته الحق في الاعتداء على الغير. أما الحرية بالمفهوم الغربي فهي إعطاء الحق للأفراد في إشباع غرائزهم وشهواتهم وملذاتهم حتى أصبحوا عبيدا لها، ونتج عن المساواة المطلقة بين الجنسين فساد الأخلاق والعلاقات الرضائية التي تخلف وراءها قطيعا من اللقطاء عديمي النسب، ومن مظاهر التفكك الأسري عندهم اندفاع الأولاد خارج بيوتهم عند بلوغهم سن الثامنة عشرة، وعند بلوغ الوالدين سن العجز يزج بهم في دور العجزة لرعايتهم، فتنفصم عرى الأسرة كما انفصمت عرى الزوجية.

فلابد إذا من بناء أسري يرتكز على أسس متينة أرساها لنا ديننا الحنيف؛ وهي الأساس التربوي الأخلاقي الإيماني، والأساس الوجداني العاطفي الذي يقوم على المحبة والتعاون والتراحم بين أفراد الأسرة لبناء نسق اجتماعي قوي.

وتكمن مقومات الأمن القانوني في المجتمع الإسلامي في ثلاثة شروط، بينها صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: “مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا” 2.

من أهم مقومات العيش الكريم أن تقوم الدولة الإسلامية بتوفير بيئة صالحة وسكن للمطلقة يكون ملاذا آمنا لها ولأطفالها، ونفقة تضمن لها مستوى لائقا من العيش الكريم لأنها مكلفة بتربية جيل صالح فعال في المجتمع لا قطط مشردة. كما تحفظ الدولة الأمن المادي للأفراد على أنفسهم وأموالهم والأمن المعنوي بتعليمهم وحفظ كرامتهم، وتتكلف بتوفير الأمن الغذائي للعاجزين على توفيره، وتوفير فرص الشغل والعمل لمن له القدرة على الكسب، كما تعمل على توفير الدواء ومقومات التغطية الصحية وحماية المجتمع من الأمراض والفيروسات.

وبذلك تتكامل وظيفة الدولة ووظيفة الأسرة لبناء مجتمع قوي ومتماسك أساسه العدل والاستقرار والأمن.


[1] عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ”) متفق عليه).
[2] رواه البخاري في “الأدب المفرد” (رقم/300) والترمذي في “السنن” (2346) وقال: حسن غريب