مقدمة
الأسرة القوية الصالحة لبنة الأساس في هذه الأمة، والأسرة الصالحة؛ أب صالح، وأم صالحة، وولد صالح. وليكون هذا البناء على أساس لابد للأبوين من تربية هذا الولد وتنشئته منذ صغره على حسن الأخلاق والعادات.
يقول الشاعر:
إن الغصونَ إذا قوَّمتها اعتدلت
ولن تلين إذا قومتها الخشبُ
يشبه الطفل في صغره بالغصن الطري، الذي يسهل توجيهه وتقويمه، أما إذا ترك على هواه حتى اشتد عوده وترسخت عاداته، صار تقويمه أشبه بمحاولة تعديل الخشب اليابس الذي لا ينحني إلا أن ينكسر.
وفي هذا إشارة عميقة إلى كل مرب لاغتنام الطفولة فهي المرحلة التي يكون فيها التأثير أعمق، والتوجيه أيسر. قال أحد الحكماء: “التعليم في الصغر كالنقش على الحجر”. فالتربية في الصغر ليست مسؤولية، بل فرصة عظيمة لصناعة النفوس الطيبة.
1. مفهوم التربية
التربية لغة مشتقة من ربى أي نمى وزاد. واصطلاحا: هي رعاية شاملة لشخصية الإنسان في جوانبها كلها: الروحية، والعقلية، والنفسية، والخلقية. هي غرس للقيم وتهذيب للسلوك.
وقد كان الأنبياء عليهم السلام مربين قبل أن يكونوا مبلغين. قال تعالى: وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة: 130].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما مِن مولودٍ إلَّا يُولدُ على الفِطرَة، فأبواهُ يُهودانِه أو يُنصِّرانهِ أو يُمجِّسانِه، كما تُنْتَجُ البهيمةُ بهيمةً جَمْعَاءَ، هل تُحِسُّونَ فيها مِن جَدْعاءَ؟”. ثم يقولُ: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ [الروم: 30]. 1.
2. صلاح الأبناء من صلاح الوالدين
لن يصلح الغصن إن كان الأصل فاسدا، ولن يستقيم الولد ما لم ير الاستقامة في بيته. قال تعالى: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ [الكهف: 82]؛ أي “ولما كان أبوهما صالحا فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما. فأراد أن يكبرا وهما قادرين على حمايته” 2. وفي الآية الكريمة دليل على أن بركة الصلاح تمتد إلى الذرية.
قال الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “الأم المريدة وجه ربها، الخائفة منه، المتشوقة إلى لقائه، الواثقة بوعده، المتعلمة، العالمة بما لها وما عليها مما رسمته لها شريعته، العاملة على ذلك، هي الأس، ومنها البناء”عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ج 2، ص 203..
3. أسس التربية الناجحة
لكي تكون التربية ناجحة لابد أن تبنى على أسس ثابتة من أهمها:
– القدوة الحسنة: الابن مرآة والديه، وتعليمه بالقدوة والحال أبلغ من تعليمه بالمقال وكثرة الأوامر، فالأبناء لا ينتفعون بما يسمعون بآذانهم فقط، بل ما يرون بعيونهم ويحسون بقلوبهم. وما يعاينون من سلوك الأبوين أبلغ عندهم من آلاف الكلمات. فهم يتعلمون منا الصدق والإيثار والإحسان والصبر والرحمة ومعظم الخصال والأخلاق. فلا يجب أن يخالف الحال المقال.
– الاحتضان العاطفي: الحضن الحنون الدافئ والكلمة الطيبة واللمسة الحنونة والنظرة المليئة بالحب هي أساس تربية الأبناء؛ تربية متوازنة، سليمة، بعيدة عن العنف، فتكون لديهم الثقة في النفس، مما ينعكس إيجابا على صفاتهم وقدراتهم وتقييمهم للأمور.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل أمامة بنت زينب – ابنته – وهو يصلي، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها.
وروى ابن حبان عن أسامة بن زيد: كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأخُذُني فيُقعِدُني على فخِذِه ويُقعِدُ الحسَنَ بنَ علِيٍّ على فخِذِه الأخرى ثمَّ يقولُ: (اللَّهمَّ إنِّي أرحَمُهما فارحَمْهما) 3.
– الصحبة الصالحة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل” 4. فعلى الأم أن تكون أول صحبة وخير صديق صالح لأبنائها وكذا الأب، وأن يحرصا على أن يعلماه اختيار الأصدقاء. فالجليس السوء قد يحرق ثيابه، عن أَبي موسى الأَشعَرِيِّ رضي الله عنه أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “إِنَّما مثَلُ الجلِيس الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ: كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحًا طيِّبةً، ونَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَن يَحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا مُنْتِنَةً” 5.
– حسن الرعاية: الرعاية قرب واهتمام وتوفير الحاجيات حسب القدرة والطاقة؛ من لباس وأكل وترفيه وكل ما يتعلق بالبناء الخارجي حتى لا يشعر بالنقص.
– الدعاء: الدعاء سلاح المربي الأول. التربية جهد وتوكل وتضرع لله تعالى. وقد كان هذا منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. قال تعالى: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [إبراهيم: 40]، وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران، 36].
بل وعلمنا الحبيب المصطفى الدعاء للذرية قبل مجيئهم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو أنَّ أحَدَكم إذا أراد أن يأتيَ أهلَهُ قال: بسمِ اللهِ، اللَّهمَّ جنِّبْنا الشَّيطانَ، وجنِّبِ الشَّيطانَ ما رزَقْتَنا، ثمَّ قُدِّرَ أن يكونَ بينهما ولَدٌ في ذلك لم يضُرَّهُ شيطانٌ أبدًا” 6.
4. استحضار الغاية الاستخلافية
أبناؤنا أمانة، نعدهم لحمل الرسالة، نعلمهم العلم النافع، والعمل الصالح، نرضعهم هم الآخرة. نربيهم على أنهم خلفاء الله في الأرض. نعلمهم أن النجاح ليس في الدراسة فقط، بل الغاية العظمى هي النجاح الأخروي، هو رضى الله عز وجل، هو إرادة وجه الله تعالى.
من الأمهات اللائي كان لديهم هذا البعد الإحساني:
– أم الإمام الشافعي؛ تولت تربيته بنفسها بعد وفاة والده. هاجرت به من غزة إلى مكة قصد توفير البيئة العلمية، فصار فقيها بارعا في اللغة والفقه وأصول الدين…
– أسماء بنت أبي بكر الصديق، ذات النطاقين، ربت ابنها عبد الله بن الزبير على الحق والثبات على المبدأ. وحين اشتد عليه الحجاج بن يوسف الثقفي وأراد قتله، دخل عليها يستشيرها، فقالت له: “يا بني، إن كنت على الحق فاثبت، فإن الموت أهون من العار.” وقد مات شهيدا شامخ الرأس، لم يذل ولم يركع.
خاتمة
قال الإمام المجدد رحمه الله تعالى: “إن اصطفى المولى عز وجل المؤمنة كانت منبِتاً وأصْلا. تكون أصلا للبذور الطيبة، ومنبتا للشجر الطيب إن كان لها في سماء الإيمان والإحسان مطلع، ومن أرض العبودية لله وحده لا شريك له مَشْرَعٌ. اكتملت فيها التربية فهي منها فائضة كالنبع الكريم يَجود. اكتمل فيها الوعي وتكامل بين وظيفتها الأمومية، وجهادِها الحركي، وإعدادها القوة للتغيير التاريخي الطويل النفَس” 7.
أبناؤنا ربيع القلب وأوتاد خيمة الأسرة، شرط أن يكونوا راسخين في أرض الاستقامة، وإلا عصفت بخيمة الأسرة رياح هوج.