الأسرة نعمة والزواج عبادة.. شذرات ونظرات في الأسس والدعامات

Cover Image for الأسرة نعمة والزواج عبادة.. شذرات ونظرات في الأسس والدعامات
نشر بتاريخ

فاتحة

تعيش الأسرة المسلمة المعاصرة حالة من الاضطراب في زمن تتجاذبها فيه سياقات ومسارات متناقضة، تيارات تدعو إلى الانخراط في تحديث ثقافي عابر للحدود والثقافات، وتيارات تلزم المجتمع ببعض المرجعيات الدينية التقليدية والثقافات والعادات المحلية. وقد أنتج هذا الوضع صراعات على مستوى القيم والأخلاق داخل الأسر المسلمة، مما جعل الأسرة المغربية المعاصرة في مأزق لا تحسد عليه.

ولقد آن الأوان لدق الجرس والتنبيه على الخطر الداهم الذي يهدد النواة الأساسية في المجتمع المغربي وفي كل مجتمع مسلم، والتذكير بالحاجة الماسة لمعالجة مستويات التأثير التي تعبر عن المأزق الأسري المعاصر. كما وجب علينا التساؤل عن الدور الأسري في استيعاب القيم الإسلامية والمحافظة عليها لتحقيق حياة زوجية طيبة وبناء أسرة سعيدة.

من نافلة القول، وقبل الخوض في الموضوع، نذكر أن الزواج ليس مؤسسة أو شركة لتحقيق الأحلام وبناء الأوهام، كما يعتقد من لا يفهم حكمة الزواج ومقصد بناء الأسرة. وفي الوقت نفسه، نعتقد أن الحياة الزوجية ليست ساحة معركة يدخلها الطرفان بنية الربح أو الانتصار والطغيان، مثل ما هو حال الكثير من الأسر في هذا الزمان. لكن في المقابل، يجب القول والاعتقاد الجازم أن الزواج عبادة توجب الشكر والامتنان، والأسرة نعمة من الله وجب على المؤمن والمؤمنة شكرها بالحفاظ على أركانها المتمثلة في الرجل الصالح والمرأة الصالحة والعمل الصالح. قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُم أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم: 21).

هذه شذرات سريعة في ثلاثة أسس منيعة، ونظرات بصيرة لسبع دعامات قصيرة؛ تلك عشرة كاملة لمن أراد أن يتم مقومات أسرة مسلمة ناجحة تروم النجاة من سهام الفتنة المعاصرة.

أولا- شذرات في الأسس

1- التقوى؛ وهي الأساس الإيماني والركن الأول المتين في كل بيت ثابت ومستقر، وبفقدانه يسقط على ما فيه. إن بناء الأسرة المسلمة على تقوى من الله لهو الأساس العقدي التربوي التعبدي والحافز الديني الذي تقوم عليه كل علاقة زوجية ناجحة تروم الاستقرار والاستمرار. الأسرة تستقر بالنية الحسنة وإقامة الصلاة والصيام الجماعي والاجتماع على الذكر، وتستمر بحفظ وتلاوة القرآن والتحصين بالأذكار والصدقة والدعاء؛ هي أعمال جوهرية فاعلة في تأليف قلوب العباد -والزوجان من العباد-. قال تعالى: أَفَمَنْ أُسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أُسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (التوبة: 109). فمن أقام أساس بنيان بيته على طلب التقوى ورضا الله تعالى وقاه ونجاه من الانجراف والانحراف والانهيار الأسري. ومعلوم لدينا أن اعتماد الأسرة على التقوى والإيمان لا يعصمها من المشاكل والخصومات وبعض الاضطرابات الناتجة عن الاحتكاكات اليومية، ولنا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وعلاقاته مع زوجاته في المنشط والمكره خير مثال، وهو خير الأزواج الناجحين في تاريخ البشرية جمعاء، وبسيرته نقتدي وبنهجه ومنهاجه نهتدي.

2- الحب في الله؛ وهو الأساس العاطفي والركن الثاني في بناء كل بيت زوجية مستقر ومستمر على هدى من الله، هو الطريق الأسلم والأقصر والأوضح في توطيد الأواصر الأسرية واستكمال الحياة الزوجية السعيدة الطيبة التي تقوم على نبل العواطف وسماحة المواقف قبل الحقوق والواجبات. والحب أمر قلبي ورزق وعطاء من الله سبحانه استنادا لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن عائشة “إني رزقت حبها”، وفيه شيء من الافتخار بحب الزوجة وجب إظهاره والبوح به. والحب إذا كان لله كان من أوثق عرى الإيمان كما في الحديث، ويكون بذلك الإيمان والحب ركنين أساسيين لا غنى للبيت المسلم عنهما، حيث يقوم أحدهما على الآخر ويكمل بعضهما البعض. والحب العاطفي يجب أن يتجدد ويتقوى ويرقى حتى يصير حبا لله.

3- حسن الخلق؛ وهو ثالثة الأثافي، وهو الأساس السلوكي الأخلاقي، يقوم على الإحسان بما هو كف للأذى، وإحسان للتبعل، وتحكيم للعقل، واللباقة، والكفاءة. أساس يقوم على العدل في كل شيء، في المعاملة والنفقة والعطاء والخدمة. أساس يقوم على التعاون في فعل الخير، والإشراك في الرأي، والمشاركة في الهم والقرار والأهداف. أساسه أن يسعى الزوج -الزوج المرأة والزوج الرجل- من أجل إسعاد زوجه مما يقوي الذات الزوجية ويوحد القصد العبادي منها ويرسخ الانتماء للبيت المسلم. وهذا من كمالات الركن الأول ومقومات الركن الثاني؛ فقد جاء في الحديث الشريف الذي رواه أحمد في المسند: “أكمل الناس إيمانا أحسنهم أخلاقا”، وفي حديث آخر عند الترمذي: “خيركم خيركم لأهله”، وقد أعطانا صلى الله عليه وسلم المثال بنفسه فقال: “وأنا خيركم لأهلي” (الترمذي).

فهذه ثلاثة أسس لا بد لكل بيت زوجية مسلم أن يقوم عليها، لكن لا بد لهذه الأسس الكبرى من دعامات مقومة وداعمة.

ثانيا: نظرات في سبع دعامات

1- المودة والألفة: لكل بيت سقف؛ والمودة بين الزوجين سقف الأسرة والغطاء الذي يحميها من كل برودة أو حرارة. فالبيوت الزوجية إما جنة خضراء على وجه الأرض تسر الساكنين والناظرين، أو صحراء قاحلة لا طير يطير ولا حشرة تسير ولا ماء يشفي الغليل. فلا تجعلوا من بيوتكم أرضا قاحلة تعاني من الجفاف العاطفي لا زرع فيه ولا تمر. ومن سلوكات المودة التي تورث المحبة والألفة بين الزوجين؛ التواضع والخدمة والتطيب والحديث على الوسادة وتوحيد الفراش والغطاء والاغتسال الجماعي والهدية… هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ (البقرة، 187).

2- الرحمة والشفقة: يعتبر الرفق مدار الأمر كله في العلاقة الزوجية، ومصدر الرقة والحنان والجمال، فإذا كنت الزوج الذي تفضل الزين وترفض الشين فعليك بالرحمة والشفقة واللطف في كل شيء حسا ومعنى. ومن تمام رحمته تعالى ببني آدم أن جعل أزواجهم من جنسهم، وجعل بينهم رحمة ورأفة، فهما يستمران ويمسكان ببعضهما بالمحبة أو الرحمة أو بهما معا. فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما كان العنف في شيء إلا شانه، وإن الله رفيق يحب الرفق، والحديث عند أحمد في المسند من رواية أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

3- الاحترام والتقدير: اعلم -رعاك الله- أن العلاقة الزوجية لا تعرف تملكا مطلقا ولا تركا على الحبل مطلقا. والذكر ليس كالأنثى، ولذلك تحتاج الأسرة تفهما واحتراما للخصوصيات وتعايشا وقبولا بالآخر كما هو لا كما أنت. إن تقدير الجهود المبذولة من الطرفين وتعزيز التفاهم والاحترام بين الزوجين يسهم في بناء الثقة ويشعر بالدعم ويحسن العلاقة فتصبح الأسرة أكثر قوة واستقرارا.

4- التحفيز والتشجيع: النفس البشرية بطبيعتها تحتاج إلى من يشجعها وينوه بأعمالها حتى تستمر على نهجها وتثمر وتتطور. الثناء الحسن والكلمة الطيبة صدقة، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، كما في الحديث عند الترمذي، وأقرب الناس وأعزهم وأقربهم لديك زوجك وشريك حياتك. فوجب على الزوجين تعلم فلسفة الاعتراف والشكر والتحفيز والرفع من شأن شريكه وتجنب ما يناقض ذلك. فالتشجيع والتحفيز بين الزوجين ذوق جميل وسلوك تربوي راق وصدقة جارية لها ما بعدها من استمرار العلاقة واستقرارها.

5- الحوار والتواصل: اعلم حفظك الله أيها الزوج -المرأة والرجل- أن الحياة الزوجية فن وصناعة لا يتقنها إلا الماهرون، ومفتاح فن هذه الصنعة حسن التواصل بما هو حوار وفن استماع وتجنب العناد القاتل. فالمطلوب من الزوجين الاتصاف بسعة الصدر والتحلي بالصبر وضبط النفس وعدم الاستعلاء والاستفزاز والتعصب. الجدال سم قاتل، وتقديم العقل قبل العاطفة من الزوج لا يضر، وتحكيم العاطفة قبل العقل من الزوج لا يغر، وحسن الاستماع وقبول الرأي والرأي الآخر هو الحل الحر.

6- الثقة وحسن الظن: يمكن المجازفة بالقول إن أقوى دعامة في استقرار الحياة الأسرية واستمرارها يكمن في حسن الظن بين الزوجين، فهو يعزز الثقة ويحقق السعادة. فإذا غابت الثقة في العلاقة الزوجية وغلب سوء الظن وتجاوزت الغيرة حدودها المشروعة فاعلم أنك تفتل في حبل هلاك الأسرة وانهيارها.

7- التماس الأعذار والدعاء: دعامتان في واحدة؛ التمس لزوجك الأعذار وأحسن له الدعاء، دعامة وجودها أساس لما قبلها، وغيابها حالقة لها ولغيرها وقاسمة لظهر العلاقة الزوجية. فكل أسرة مسلمة ناجحة ومستمرة ومستقرة؛ اعلم أن فن المداراة حاذيها، وتوظيف النوايا الحسنة وغض الطرف عن الهفوات مقويها، والدعاء ثم الدعاء ثم الدعاء يباركها ويزكيها.

هذه سبع حاجيات مكملة داعمة لما قبلها من أسس ضروريات في بناء بيت الزوجية، ولمن أراد أن يتم ويجمل البيت فعليه بعشر أخرى، هي محسنات لهذه العلاقة الزوجية الطيبة السعيدة.

ثالثا: أنصحك أيها الزوج الفاضل، أيتها الزوجة الكريمة بالمحسنات العشرة الآتية:

1- ابتسموا، ثم ابتسموا، ثم ابتسموا: فالابتسامة الدائمة المصدر الأول للبهجة والسعادة، والابتسامة في وجه زوجك صدقة، والابتسامة صدقة وعبادة.

2- تعلموا مفاتيح الحب السبعة: النية والصدق والسلام والعناق والقبلة واللمسة والرسالة، فإذا عرفت فالزم.

3- إياكم والإهمال، فهو مرض قاتل، وعليكم بالاهتمام والتزين والتغنج والاحتواء؛ فهو الترياق والدواء.

4- أوصيكم بالمرونة والتدرج وتقدير الرغبات؛ التوافق يحتاج رحمة قلبية وحكمة عقلية.

5- احذروا النسيان وطول الغيبة؛ تفكروا بعضكم أينما حللتم وارتحلتم، الوصال الدائم والرسالة الرقيقة سلوك رومانسي متجدد.

6- اطردوا الجفاء والملل واليأس، بالاجتهاد والتجديد والتفنن في طرق وأساليب التحبب وعبارات الغزل وكل ما يحبب ويقرب، ولكل فترة من عمر الزوجية أسلوبها وعباراتها.

7- عليكم بالفسحة، ولتعلم أيها الزوج أن في ديننا فسحة، بما هي خرجة أسرية ورحلة زوجية ونزهة عائلية. ولا تغيب عن علاقتكم الضحكة الصادقة والمزحة الجميلة والنكتة المسلية، فالترويح عن النفس وعن الزوج والأسرة عبادة.

8- الهدية؛ هي المفتاح السحري للمحبة، تهادوا تحابوا. الهدية بعد السفر والغيبة، هدية الأعياد والمناسبات، هدية الولادة والميلاد، هدية التودد والتصالح والمدح والثناء والشكر… هدية.

9- التغافل وما أدراك ما التغافل؛ التغابي الزوجي فن من أذكى الفنون، تغافل أيها الزوج ولا تنبش ولا تفتش واستر العورات وتغاضى عن الهفوات، تغابى من أجل الإصلاح ودوام العشرة، والعفو والصفح عبادة.

10- التهمم بالدعوة والمصير، الدعوة إلى الله والاشتغال بالمصير والآخرة منجيات من المهلكات، لا تنشغل بالتفاهات، اجعل نفسك ومالك وزوجك وبيتك لله وحده لا شريك له.

خاتمة

اعلم -حفظك الله- أيها الزوج الفاضل أيتها الزوجة الكريمة، أن السعادة الزوجية تبنى على لبنات سلوكية أساسها طلب وجه الله تعالى، ولبنات عاطفية ترتكز على الحب والمعاشرة بالمعروف، ولبنات ذوقية تقوم على الصدق والتغافل، ولبنات اجتماعية قواها الإحسان والعدل في كل شيء، ولبنات نفسية سرها الصبر والمصابرة. واعلم أن نهاية كل علاقة زوجية وانهيارها سببه خلل في هذه المقومات، وأن سر الحفاظ على هذا البنيان قائما شامخا أمام كل عواصف الدهر يكمن في ثلاثية: الصبر ثم الصبر ثم الصبر.

والحمد لله رب العالمين.