الأسرة الإيمانية والانقلاب الكوني
قد تبدو الصورة مبالغا فيها، لكن هذه هي الحقيقة من حيثيات عدة:
أ. سلعة العنف
يسود عالمنا اليوم سلوك يصنع العنف ويبيعه ويصدره مستكبرو العالم عديمو الضمير على شكل سلع عنيفة تأتي على الأخضر واليابس من أخلاق الناس وأرزاقهم، عنف على الإنسان وعلى الطبيعة على حد سواء. عنف سمم العلاقات وأشعل فتيل العداوات.
عنف يمارسه الأقوياء على الضعفاء فيبادر هؤلاء في ردة فعل صبيانية عنيفة تستخف بقيم الكرامة الآدمية، وتكون النتائج كارثية بكل المقاييس من كلا الطرفين.
ب. وهم السرعة
لكي تنمو سلعة العنف يعمد مصدروه إلى إيهام البشرية بضرورة التقدم إلى الأمام وبسرعة. وهذا الوهم هو أن حيازة التكنولوجيا المتطورة -التي تتسارع بسرعة البرق – أشياء ضرورية في الحياة،وإذا لم يأخذ الإنسان منها حظه سيتخلف بآلاف السنين. وهم يوحي إلى الضعفاء أن قيمة الإنسان هي ما يملك من أشياء! وهم تغذيه آلتهم الإعلامية ويسخر له تكلفة لو سخرت للفقر لما بقي فقير واحد في العالم!
ت. إلهاء التكاثر
الإلهاء الصرف إلى اللهو. واللهو الانصراف إلى ما يدعو إليه الهوى، ومعلوم أن الانصراف إلى الشيء يقتضي الإعراض عن غيره، فلهذا قال أهل اللغة: ألهاني فلان عن كذا أي أنساني وشغلني). هم الناس -في أي زمان- تكثير المال والأشياء وكثرة التملك والسيطرة وعبادتهم للأشكال والمظاهر، همهم هذا يصرفهم ويشغلهم عن المعنى واللب والجوهر الذي هو عبادة الله عز وجل وذكره والتقرب إليه استعدادا للحياة الحقيقية الأبدية. ثم همهم الثاني بعد الكثرة والتكثير هو التكاثر فيما بينهم أي المباهاة والتفاخر فيما بينهم إرضاء لنزوات نفسية أو استجلابا لمصالح شخصية أو إستقواء على رقاب ومصائر الضعفاء.
وقد يبلغ التكاثر والكثرة مداه مع رواج العنف وعجلة التقدم التقني وسرعته بحيث يؤدي إلى نتائج وخيمة على الانسان والطبيعة في الدنيا ولخسارة الآخرة أشد حسرة وندامة!
ولعل التكاثر الذي تعيشه الإنسانية اليوم بلغ مبلغا خطيرا جدا، حيث تجاوز التكاثر من الكثرة العددية الواقعية إلى الكثرة الافتراضية الخائلية، فالعالم الخيالي الافتراضي أصبح أكثر قوة من العالم الحقيقي الواقعي.
والقرآن الكريم يسرد حالة واحدة في التاريخ الانساني،كان فيها التكثير والتكاثر محمودين، حيث يقص علينا نبأ سليمان عليه السلام وما أعطاه الله من كثرة في المال والجيش والسلاح ووسائل التقدم حيث استعمل عليه السلام التكاثر في المعاني والقيم التي حباه الله بها في المقام الأول فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ ٱللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ 1 أي: ما أتاه الله من النبوة والحكمة والكتاب خير من المال الذي آتاهم،ثم استطرد بالتكاثر بالمال والجند في المقام الثاني بعدما وضحت الفكرة وخلصت النية: ٱرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ 2 .
واستعمل كذلك التكاثر في السرعة (قبل أن تقوم من مقامك) وقوله: (قبل أن يرتد إليك طرفك) مثلان في السرعة والأسرعية، تنافس العفريت من الجن والذي أتاه الله علما من الكتاب على السرعة القياسية، لكنه تنافس محمود يشفع له خلوص النية ونقاوة الهدف وزعامة النبي الهادي الشاكر فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِيۤ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ 3 .
واستعمل التكاثر في التقدم التقني والحضاري قِيلَ لَهَا ٱدْخُلِي ٱلصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ 4 . لكن كل ذلك كان من أجل هدف واحد هو قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ 5 .
ث. أخلاق الكراهية
يقول ربنا عز وجل: وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم 6 ، ليكتمل مربع الخطة الشيطانية، ينزغ الشيطان بين العباد من خلال قولهم “التي هي أسوء” فتكفهر وجوههم وتخبث أخلاقهم وتبرد علاقاتهم فيما بينهم ويضعف تضامنهم ومواساتهم ويجور بعضهم على بعض. وما نراه في عالمنا المعاصر من كراهية وحسد وبغضاء وفردانية وأنانية مستعلية تتمظهر في مظاهر شتى وتتنمط في أنماط جلى من قبيل عنصرية بغيضة أو غنى فاحش أو جريمة منظمة أو … إلا صورة لهذه المعركة الشيطانية تتكرر من عصر لآخر مستغلة أشكال الزمان والمكان فتستفزهم بصوتها وتجلب عليهم بالخيل والرجل وتشاركهم الأموال والأولاد وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً 7 . وانظر -رحمك الله- إلى مفردات القرآن الكريم كيف استعمل: الاستفزاز، الإجلاب، الشراكة والوعد بالنجاح تعبيرا منه على أنها حرب مستمرة وقارن – رحمك الله – بما نعيشه: كيف اقترن التقدم العلمي والتقني بالحرب والعنف وحب السيطرة ؛وما تمظهرات هذا الاستفزاز الشيطاني إلا الحملات الإعلامية وثقافة الاستهلاك وتسويق الوهم،وأما الإجلاب فتمظهراته السرعة في الانتاج الحربي وترويج العنف وإيهام الناس أنه لا مجال للتردد أو التوقف، ولا يخفى أن أس ذلك هو الشراكة الرأسمالية التي عمادها الربا والربح وعبادة العجل الذهبي ثم تغرير بالنجاح ووعد به مكذوب، بناء على بيانات مضللة ووقائع مشوهة ومشبوهة.
يبدو أنني كدت أن أنسى ما هممت بإيضاحه، واستهواني الإسهاب في الشكل، ألم تر كيف نحن ميالون للحديث عن الشكل دائما ونحسن التعبير عنه رغم انتقادنا له!؟
ما دور “الأسرة الإيمانية” في مواجهة هذه الخطة الشيطانية؟ وما تأثيرها على تغيير وجه الكون؟
الأسرة الإيمانية هي مدرسة للتؤدة والرزانة وعدم الاستعجال، وبالتالي فإستراتيجيتها تبدأ في الاتجاه المعاكس للشيطنة، تنمي وتزكي خلال الرفق والحلم وحسن الخلق ودفء العلاقات الانسانية. وهي مدرسة التربية والتدرج والتعهد، تعمل على رأب الصدع وعلى تنمية خصال التضامن والمواساة .هي مدرسة لتخريج المتحابين في الله،المتباذلين فيه، المتناصحين فيه، المتواصلين فيه الذي حقت لهم محبة الله “حقت محبتي للمتحابين في وحقت محبتي للمتواصلين في وحقت محبتي للمتناصحين في وحق محبتي للمتزاورين في وحقت محبتي للمتباذلين في، المتحابون في على منابر من نور يغبطهم بمكانهم النبييون والصديقون والشهداء” 8 . هي مدرسة للتقلل تعلم الناس ببساطة شكلها ونمطها كيف يحددون موقفهم أمام المال والثروة والاستهلاك والإنتاج .هي جلسة إيمانية يخلو فيها الإنسان بمن يشاركونه الهم نفسه ليسائل عن المعنى والمغزى، عن المبدإ والمآل. ثم هي بعد ذلك تزود لحمل النفع للخلق والهداية للعالمين بشارة ونذارة، حكمة ورحمة.
هذا هو الطريق الواضح اللاحب، السهل الممتنع، نتائجه باهرة ومضمونة؛ ولك أن تتصور معي كيف يكون مستقبل العالم إذا انتشرت هذه المجالس الإيمانية في كل مكان؟! كيف يبدو وجهه؟ وتصور معي إذا عمت مجالس الأسرة الإيمانية آفاق العالم – وهي هي – بجلسات الذكر، بقراءة القرآن، بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، بالتآلف والمحبة، ألا يتقلص حكم الشيطان وظله وطغيانه وتتبعثر خطته وتذهب جفاء؟ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض 9 . ألا يعتبر هذا انقلابا كونيا؟
ج. التواصل
لا يخفى أن التواصل هو سمة العالم اليوم،ومن لا يتواصل يبقى خارج التاريخ،” والفكرة التي تقدر على إيصالها ميتة”،لذلك فالأسرة الإيمانية هي أفضل تعبير عن التواصل الحقيقي عبر الزمان والمكان، محضن يستحضر القرب والعلاقات الاجتماعية والتاريخ واللغة والعادات والحيثية الاجتماعية.
ح. التربية على العمق
مثل مغربي يقول (اللي تلف يشد الأرض) أي من ضل الطريق عليه أن يجلس في مكانه حتى يستطيع التفكير في الحل! هذا هو حال العالم اليوم: يعيش فوضى مطلقة، في الفكر، في السلوك، في السياسة،في الاقتصاد،في الفن والثقافة. فهو يعيش حالة التلف والضياع إذ لا غاية محددة واضحة المعالم ولا أهداف مبرمجة؛ رحا تطحن الناس وتدور بهم لا يدرون متى تقف وإلى أين تسير!
ومجلس الأسرة الإيمانية هو إيقاف لهذه الرحا، هو إيقاف لهذه العجلة،ليحدد الإنسان غايته ومبتغاه ويراجع سيرته ويتحكم في الزمن ويمتلك زمام المبادرة. فمجالس الإيمان هي مجالس العمق الفكري والتربوي-السلوكي.