“الأسرة الإيمانية” والمدخل إلى التغيير 1/2

Cover Image for “الأسرة الإيمانية” والمدخل إلى التغيير 1/2
نشر بتاريخ

1. الجوهر والشكل

الجوهر والشكل أو الروح والجسد أو اللب والقشر أو القلب والقالب أو المعنى والمبنى متقابلات لخصت مشكلة إنسانية وكونية قديمة-حديثة يغدو فيها السلوك الإنساني ويروح حائرا، تارة مع الإطلاقية المثالية، وتارة مع الأشكال والمباني والمتغيرات النسبية، وإن كان التاريخ الإنساني يسجل دائما الغلبة للشكل على الجوهر باعتباره يتغير مع تغير زمان الناس ومكانهم، وباعتبارهم ميالون بطبعهم إلى تقديس الشكل والمحافظة عليه أكثر من اهتمامهم بالجوهر وعنايتهم به.

وقد جعل الله عز وجل الجوهر واللب محور ومدار سنته التي لا تبديل لها ولا تحويل، فالفطرة الإيمانية والروح الإنسانية والنفس البشرية، والقلب الإنساني والمشاعر وأهواء الناس ونزعاتهم ونزغاتهم هي هي لم تتبدل ولم تتغير – ولن تتغير – منذ أن خلق الله عز وجل آدم عليه السلام.

وكما جعل الجوهر مرتبطا بالمعاني الروحية السامية، جعل الأشكال مرتبطة بالقضايا المادية والظروف المعيشية وكلما تعقدت حياتهم وحضارتهم تعقدت أشكالهم وكلما ازدادت مشاكلهم وتعقيداتهم كثرت فهومهم وتشعبت ذات اليمين وذات الشمال حتى لا تكاد تجد بينها رابطا. ولقد أرسل الله عز وجل أنبياءه ورسله تترى ليردوا الناس إلى اللب والجوهر بعد إيغالهم في تقديس الشكل وتعظيمه وليجددوا لهم معنى إنسانيتهم ومعنى وجودهم كلما تقادم عليهم الزمان وأنساهم التشكيل والتنميط مبدأهم وغايتهم وبالتالي معادهم. ولذلك كانت رسالة الله ووصيته واحدة منذ الأزل لثبات المعاني والجوهر الذي خلق الله عليه الكون شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه 1 ، وإنما يرسل الرسول بعد الرسول بلسان قومه عارفا بقضاياهم وأشكالهم وأنماط تفكيرهم وحياتهم ليحررهم من الشكل ويعيدهم إلى الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله. ولما كانت رسالة النبي الكريم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام هي خاتمة الرسالات وجامعتها والمهيمنة عليها لما هيأ الله لها من أسباب الخلود والحفظ، أناط سبحانه وتعالى مهمة تجديد المعاني بالمجددين ورثة النبي عليه الصلاة والسلام وعليهم رضوان الله أجمعين من مضى منهم ومن بقي.

والناظر إلى حال البشرية المعاصرة يرى أن تعظيم الشكل وتقديسه وعبادته بلغ مداه، بحيث كثرت الأشكال واندرست المعاني والقيم، وتشعبت مناحي الحياة وتجزأت، وكثرت العلوم واختفى العلم. ولا يخفى ما يهتف به ذوو البصائر من أهل الأرض أنه لا بد من نظرة جامعة ومن علم كلي ومن سيادة المعاني والقيم وقبل ذلك من وقفة تأمل ومراجعة.

والحال أن ما وصلت إليه البشرية من شتات وحيرة فيه حكمة ربانية جلية تنبه إلى حاجة الإنسانية إلى مرجعية كبرى تعيد الناس إلى المعنى والمغزى وإيذان واضح بظهور رسالة المجدد والمصلح الذي يرد الناس إلى منبع النبوة؛ فجلت قدرته يهيئ أسبابا وأحداثا مما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بأس الذي صنعت أيديهم حتى إذا ضاقت بهم السبل وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه بعث عبادا له على أيديهم ينزل قدره رحمة بخلقه، وهؤلاء العباد مأمورون بالسير في الناس بالحسنى والصلاح، أخذا بأسباب التمكين والنصر وإعدادا لمظاهر القوة حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ 2 .

ترى أين حال أهل الإسلام من هذا الأمل الذي تعقده عليهم الإنسانية ويهيئهم له قدر الله؟

هذه الصحوة الإسلامية بدأت بالأسرة الإيمانية، بدأت بجلسات الذكر والتربية الإيمانية ثم ما لبث أن خاضت في أشكال الناس وطرقت أبوابا كانت موصدة دونها من قبيل المشاركة السياسية والتصدي للشأن العام فاستبدلت مجالس المساجد وحلق الذكر باجتماعات المقرات والمؤتمرات والبرلمانات وما إلى ذلك من عالم الناس، فمالت حيث مالوا، وكلما أوغلت في شكل نقص من جوهرها وروحها، حتى غلب منطق الساحة السياسية على منطق الدعوة والهداية؛ ومع الربيع العربي وما بعده سيفتح الله لها آفاقا أخرى تخاطب فيها الجماهير عن بعد بدل الجلسات الحميمية القربية بين إخوة متحابين متصاحبين يعرف بعضهم بعضا ويزور بعضهم بعضا، لا تفوت أحدهم صغيرة ولا كبيرة إلا شاركه فيها أخ أو إخوة له.

والمطلوب ليس هو الزهد في أشكال الناس ومقاطعتها والانزواء عنها بل المطلوب المرغوب هو كيف ننفذ من الشكل إلى الروح؟ كيف يكون الشكل طريقا إلى معرفة الله عز وجل والإيمان به والترقي في مراقي الإيمان والإحسان؟ كيف ننتقل من برودة العلاقات الإنسانية إلى دفئها، من الغلظة والجفاء والفردانية إلى الرحمة والحياء والجماعية؟

جوهر “الأسرة الإيمانية” هو: تعال نؤمن بربنا ساعة) 3 ، جوهرها وروحها ولبها: “ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله أو يتدارسونه فيما بينهم إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده” 4 ، جوهرها هو واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا 5 .

أما شكلها: اجتماع جمع من المؤمنين في بيت من بيوت الله أو في بيوت أحدهم أو في أي مكان آخر بين الفينة والأخرى بحسب وقتهم وظروفهم والأولى بهم أن يبادروا بذلك وأن يجعلوه أسبق همهم وآكد شغلهم، وأضعف الإيمان: جلسة واحدة في الأسبوع.

تلك هي الخلية الأولى التي تباشر العملية التربوية الدعوية، فيها تتغير النفوس وتطمئن القلوب بذكر الله وتلاوة القرآن وتدارسه وحفظه والصلاة على الحبيب والاستغفار والتناصح والتدرب على خصال الخير ونفع الخلق وإحياء معاني الفطرة والرحمة والأخوة الإنسانية، ثم تدبير يومي وعن قرب لقضايا الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحسنى والرفق.

هذه هي الضمانة الوحيدة لتجدد معاني النبوة والحفاظ على الجوهر ورد الحركة الإسلامية كلما أوغلت في الشكل السياسي إلى المنبع الصافي الذي من أجله قامت. يتخوف الناس من الحركة الإسلامية ويخوفون منها، وفي جزء من تخوفهم حقيقة! لما يرون من انصرافها إلى الاهتمام بالشكل السياسي وبشكل عالم الناس بصفة عامة أكثر من حرصها على جوهر الرسالة ومضمونها وكلمتها.

2. قبس من الإسم

والأُسْرَةُ، بالضم: الدِّرْعُ الحَصينَةُ، والأسرة من الرَّجُلِ: الرَّهْطُ الأَدْنَوْنَ. (القاموس المحيط) وأُسْرَةُ الرّجُل رَهْطه، لأنّه يتقوَّى بهم.

انظر – رحمك الله – إلى هذا التوافق بين الاستنباط اللغوي والمعنى الواقعي الاجتماعي، فالأسرة هي الحصن الحصين والدرع المتين التي تقي سهام فتن التشتت والفرقة والشيطنة الجنية والإنسية والهوان على الناس، فالرجل يحتمي بأسرته وينتمي إليها، وبرهطه يتقوى ويشتد عوده ويستمر نسله وأثره. وما تعيشه الإنسانية جمعاء من فتن ومشاكل اجتماعية وأثرة في المال وفقر وغياب عدالة وفقدان هوية إلا لضياع هذه النواة، وما تبقى في هذه الإنسانية من علاقات دفء ومودة وأثر من خير فمرده إلى ما تبقى من تماسك في هذه النواة – على قلته-!

الأسرة أول خلية اجتماعية تضم الأب والأم والأبناء، جعلها الله عز وجل محضن المودة والرحمة، والوقار والاستقرار، والحياء والوفاء والتضامن والمواساة والمسؤولية. كما جعلها حاضنة الفطرة. وكذلك الأسرة الإيمانية تتجسد فيها معاني الأخوة التي توجد في الأسرة الطبيعية: فيها آصرة الانتساب والقرب، وآصرة المحبة وآصرة الصحبة وآصرة التماثل في الطباع، وآصرة الارتياح وترك التكلف) 6 ، وانظر –رحمك الله– إلى هذا الاقتباس العجيب للعلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: ولذلك كانت (أي الأخوة) آنس للنفس من نسبة البنوة والأبوة اللتين هما أقوى منها، إذ تمتاز عليهما بما في الأخوة من التجرد عن كلفة التوقير والمهابة والطاعة، فصلة الأخوة شبيهة بالميل المجعول اختيارا، ويظهر هذا التمايز بينهن بأنك ترى المرء في مقام استمداد البر والطاعة يقول لمن يستمد منه: يا ولدي، وهو في مقام استمداد العطف والسماحة يقول: يا أخي!) 7 . وكذلك معاني الأبوة والأمومة تتجسد في الأسرة الإيمانية كما في قوله تعالى: النبيء أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم 8 . فالأخ النقيب المربي يجسد معنى الأبوة تارة بما هي رعاية واحتضان ومسؤولية وحزم، وتارة معنى الأمومة بما هي رحمة وحنان وعطف وحسن استماع وذكاء مشاعر، وتارة أخرى يجسد معنى الأخوة بما هي ألفة وتماثل وارتياح وصداقة وترك للتكلف؛ كل ذلك بحسب ما يقتضيه سياق الموقف.

3. فرحة الشيطان

في دين الشيطان مقاصد مرتبة بحسب الأولويات وبحسب خطورة الإفساد وشموليته، فأعلى مقاصده وأسماها ما قابل القضاء على أعلى مقاصد الإسلام وأسماها، وتتدحرج مقاصده كلما تدحرجت مقاصد الشرع، الأدنى فالأدنى. ولما كانت الفطرة هي أعلى مقاصد الدين، وكان كل سبب إلى حفظها وصونها يوازي مرتبتها في الأهمية فإن إفسادها وإفساد ما يحفظها هو أعلى مقاصد إبليس وأولى أولوياته. لذلك فالأسرة – التي هي حاضنة الفطرة – بمقتضى “فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” تكون هدف العملية الشيطانية برمتها وأسمى مقصد في دين الشيطان وملته كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن إبليس ينصب عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه في الناس، فأقربهم منه منزلة أعظمهم فتنة، فيقول أحدهم: ما زلت به حتى زنى! فيقول: يتوب! فيقول الآخر: ما زلت به حتى فرقت بينه وبين أهله! فيقول: نعم أنت! نعم أنت!”.

لاشك أن أعظم فرحة الشيطان هي أن يرى الأسرة مشتتة ممزقة، فما بالك به – رحمك الله – إن رأى شتات الأسرة الإيمانية وهي أعظم وسيلة لاستقرار البيت واسترجاع دوره في حفظ الفطرة وتوجيهها!! وكم عالجت مجالس الإيمان من مشاكل عويصة كادت تعصف بالبيوت وردت إليها الدفء والالتحام!! ولهذا دلائل لا تعد ولا تحصى من تاريخ هذه الصحوة المباركة.


[1] سورة الشورى، الآية 11.\
[2] سورة يوسف الآية 110.\
[3] قول مأثورمروي عن عبد الله بن رواحة ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما.\
[4] الحديث رواه مسلم عن ابي هريرة رضي الله عنه.\
[5] سورة الكهف الآية 28.\
[6] أصول النظام الاجتماعي في الاسلام. العلامة الطاهر بن عاشور ص 121.\
[7] المصدر نفسه ص 121.\
[8] سورة الأحزاب الآية 6.\