الأثافي الثلاثة للدعوة والتواصل (1): الداعية

Cover Image for الأثافي الثلاثة للدعوة والتواصل (1): الداعية
نشر بتاريخ

الدعوة إلى الإسلام، أو إلى سبيل الله كما جاء في الآية: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ، لها ثلاثة أثافي، إن اختلَّ أحدهما انكفأَ قدرها، ولم يتحقق المراد منها. وهذه الأثافي هي: الداعية والدعوة (أي مضمون الدعوة) والمدعو.

فما هي الشروط الأساسية للداعية كي تنجح دعوته؟

شروط الداعية

إن مما يناط به نجاح الداعية في دعوته إلى الله تعالى ومعرفته ومعرفة الدين الذي ارتضاه عز وجل خاتما وجامعا للبشرية، أن تخرج من قلبه لا من لسانه وكتبه وقلمه فقط، من معناه لا من صورته. وهذه بعض الشروط التي من شأنها إنجاح عملية الدعوة والتي تخص الداعي إلى الله كي يكون عمله على بصيرة.

1) إدراك محورية شخصية الداعية في نجاح الدعوة

إن الله الخبير بطبيعة خلقه لم يكتف بأن يُرسلَ إلى الناس كتبا وصحفًا يأمرهم بتطبيق ما تتضمنه من مبادئ وأحكام، بل أرسل مع الكتب والصحف نماذج بشرية، تقول بالفعل والعمل.  لأن “النصوص وحدها لا تصنع شيئا، وإن المصحف وحده لا يعمل حتى يكون رجلا، وإن المبادئ وحدها لا تعيش إلا أن تكون سلوكًا” 1. فدور الشخص الذي يحوِّل المبادئ إلى سلوك هو دور محوري في الدعوة والتواصل.

2) الصدق واليقين بأن الهادي هو الله

إن الذي مهَّد الطريق لنجاح دعوة رسول الله ﷺ في البداية هي الصفة التي عُرِف بها قبل البعثة: (الصادق الأمين)، وصدق الماضي يرجح الثقة بوعود المستقبل رغم الجحود في كثير من الأحيان؛ قال الله تعالى: فَإِنَّهُمۡ لَا یُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّـٰلِمِینَ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ یَجۡحَدُونَ 2. ولكن هناك فرق كبير بين أن يجحد الناس وهم يوقنون بصدق الداعية، وبين أن يجحدوا وهم يشكون في صدقه، وتعليق الجحود في الآية بوصف الظلم حقيقة لها تأثير على نفسية المدعو.

فالكلمة الصادقة لها مفعول سحري، ولذلك وُصِف كل الأنبياء بالسحر، قال الله تعالى: كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ 3. ومنشأ هذه الكلمة من القلب الذي تبرز منه؛ فـ”كل كلام يبرز وعليه كسوة القلب الذي برز منه” 4، وكل إناء بالذي فيه ينضح،  والصدق إن لم يلزم الداعية لن يتعداه.

أما حقيقة أن الله تعالى هو الهادي، مصداقا للحديث: “فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ” 5. فدورها بعد التوكل على الله والتجرد من الحول والقوة، هو أن يتعلق الداعية بالأخذ بالأسباب ولا تؤثر فيه النتائج حين يكون أمر الله القدري مخالفا لما يقتضيه أمره الشرعي من حرصٍ على استجابة المدعو.

3) الحضور الإيجابي بين الناس

إن الناس لا يتبعون المبادئ والقضايا النبيلة في البداية، بل إنهم “يتبعون القادة الأكفاء الذين يؤيدون قضايا يمكنهم الإيمان بها، الناس يقتنعون بالقائد أولًا ، ثم برؤية القائد” 6،  لهذا فإن دور الداعية هو أن يقدم تطبيقا عمليا لما يدعو إليه من أفكار ومبادئ، إسوة برسول الله ﷺ  الذي كان سلوكه كله ترجمة عملية لما يدعو إليه، فقد “كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآن” 7، كما وصفته عائشة رضي الله عنها.

وبناء على هذه الحقيقة، على الداعية أن يعلم، بل أن يوقن، أن المواقف الإيجابية تفعل ما لا تفعله المواعظ والخطب؛ فأن تقنع فيلسوفا شيوعيا فرنسيا في أوج الشيوعية والغطرسة الفرنسية، فهذا أمر يقترب من المستحيل. لكن هذا الحكم المسبق لا يكون صحيحا إلا عندما تكون وسيلة الاقناع هي الكلام والمناظرة، أو الموعظة والمحاضرة، أما حين تكون وسيلة الإقناع هي الأفعال والأحوال المرفقة ببرهان الصدق فإن للقلوب منطقها الخاص حين تعقل ما لا تعقله العقول. لذلك نجد موقفا واحدا من جندي أمي فعل في الفيلسوف جارودي ما لم تفعله عشر سنوات من الدراسة في السربون؛ قال جارودي “كانت المفاجأة عندما رفض هؤلاء تنفيذ إطلاق النار، ولم أفهم السبب لأول وهلة؛ لأنني لا أعرف اللغة العربية، وبعد ذلك علمت من مساعد جزائري بالجيش الفرنسي كان يعمل في المعسكر أن شرف المحارب المسلم يمنعه من أن يطلق النار على إنسان أعزل،  كانت هذه أول مرة أتعرف فيها على الإسلام من خلال هذا الحدث المهم في حياتي، وقد علمني أكثر من دراسة عشر سنوات في السربون” 8.

4) بث وصناعة الأمل

الأمل هو توقع حدوث الشيء الطيب في المستقبل، لذا فهو قوة دافعة، تشرح الصدر للعمل وتبعث النشاط في النفس والبدن، وأكبر شيء يمكن أن يأمله الإنسان هو صلاح دينه ودنياه، وصلاح حاله وحال أمته، لهذا على الداعية أن يبث في روع المدعو أنه مهما كانت ظروفه فإن استقامة حاله مع الله ممكنة، ومهما كان تشتت وضعف الأمة فإن نهوضها ممكن.

وليعلم أن المنعطفات الحاسمة في تاريخ الأفراد والأمم هي تلك اللحظات التي يولد فيها الأمل، وتنتقل فيها أمة من الناس من اليأس والتخبط إلى الإيمان بمشروع مستقبلي. ومن النماذج القريبة تاريخيا وجغرافيا؛ عبد الله بن ياسين مؤسس دولة المرابطين، والذي كان نموذجاً في بثِّ الأمل في أصحابه، فحين أُخرِج من مسكنه وهُدِم بيتُه لم ييأس، بل كان يُحدِّث أصحابه بفتح العالم، وهذا الطموح الذي لا حدَّ له، مع الأخذ بالأسباب، هو سر من أسرار نجاح دعوته وانبعاث دولة المرابطين.

فمن أسرار نجاح الداعية وجود طموح لا يحدُّه إلا شرع الله؛ أصله بشارة رسول الله ﷺ: “إنَّ اللَّهَ زَوَى لي الأرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها، وإنَّ أُمَّتي سَيَبْلُغُ مُلْكُها ما زُوِيَ لي مِنْها” 9 وبرنامجه ما عبَّر عنه ربعي بن عامر في تفاوضه مع رستم حين قال له: “الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام” 10.

5) الحرص على اتباع الحق لا رغبات المدعوين

 من سنة الله تعاقب الليل والنهار، ولو دام النهار لفسدت الحياة، وجاء في الحكم العطائية: (بَسَطَكَ كي لا يبقيك مع القبض، وقَبَضَك كي لا يتركك مع البسط، وأخرجك عنهما كي لا تكون لشيء دونه)، والبسط فرح يعتري القلوب أو الأرواح، والقبض حزن وضيق يعتري القلب، ومن توازن الدعوة الجمع بين البسط والقبض، وبين البشارة والنذارة، وبين الترغيب والترهيب، وبين الرجاء والخوف، لذا لا ينبغي أن يكون بث الأمل بلا حدود، والحرص على أسباب البسط سمة غالبة على الدعوة، لأن هذا يؤدي إلى عدة منزلقات منها ما سماه الإمام عبد السلام رحمه الله سقوط الداعية في قبضة الجماهير، والذي أصبحت له عدة تجليات كالسقوط في أسر عدد المشاهدات أو (الإعجابات..)، والحرص على العلاقات أكثر من الحرص على الحق، والحرص على ما يريده المدعو أكثر من الحرص على ما تمليه الدعوة وضرورة البناء، قال السيوطي: (ولكن كان أهل العلم يخافون على أنفسهم ويحمون أعراضهم، فيسكتون عن العامة. وكثير منهم كان يصوبهم مداراة لهم. وهذه الدسيسة هي الموجبة لاضطهاد علماء… وتسلط العامة عليهم وخمول ذكرهم وسقوط مراتبهم، لأنهم يكتمون الحق. فإذا تكلم واحد منهم وثارت عليه العامة صانعوهم وداهنوهم وأوهموهم أنهم على الصواب… ولو تكلموا بالصواب، أو نصروا من يتكلم به، أو عرفوا العامة إذا سألوهم الحق وزجروهم عن الاشتغال بما ليس من شأنهم، لكانوا يدا واحدة على الحق، ولم يستطع العامة، ومن يلتحق بهم من جهلة، المتفقهة إثارة شيء من الفتن” 11.

والحمد لله رب العالمين.


[1] قطب، سيد: الدراسات الإسلامية، دار الشرق، الطبعة 11، 1427 ه/ 2006 م. ص 27.
[2] سورة النعام: الآية 33.
[3] سورة الذاريات: الآية 52.
[4] من حكم أحمد بن عطاء الله السكندري.
[5] رواه البخاري في صحيحه.
[6] ماكسويل، جون سي (JOHN C. MAXWELL) : 21 قانونًا لا يقبل الجدل في القيادة، الترجمة العربية والنشر والتوزيع: مكتبة جرير، السعودية، الطبعة الثالثة، 2012. ص 171.
[7] ابن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (ت: 241 ه): مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421 ه- 2001 م، الحديث 25303 ، ج 42، ص 183.
[8] انظر القاضي، أحمد بن عبد الرحمان بن عثمان: دعوة التقريب بين الأديان دراسة نقدية في ضوء العقيدة الإسلامية، رسائل جامعية (20)، دار ابن الجوزي، رسالة لنيل الدكتوراه، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، نقشت بتاريخ 17 / 08 / 1421. ص 842.
[9] رواه مسلم في صحيحه.
[10] الطبري، محمد بن جرير: تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، ج 3، ص 520.
[11] السيوطي جلال الدين: البدر الطالع، ج 1، ص: 233- 234. نقلا عن ياسين، عبد السلام: الإحسان، ج1، ص58.