الأبوة العادلة والأمومة الحانية

Cover Image for الأبوة العادلة والأمومة الحانية
نشر بتاريخ

الأبناء يرون الدنيا من خلال آبائهم فهم أعين أبنائهم ورمز الفضيلة والشرف والعدل والرحمة والحنان فإن وجد الفتى ما يناقض ذلك في سلوكيات أبويه، كان ذلك مبتدأ لأول شرخ يشرخ في الحوار النفسي. وأول ما يلتفت اليه الأبناء من هذا السلوك هو ما يتعلق بهم مباشرة كما لو فاضل الآباء بينهم في المعاملة وإذا ما تعمق هذا الشعور في النفس كانت له آثاره السيئة التي لا تتحملها الطفولة البريئة. فيصاب بأدواء النفس التي تبدأ بالانزواء. وقد تصل إلى العدوانية وربما الجريمة.

أما الأثر الظاهر لهذا التفضيل فينعكس في معاملاتهم مع بعضهم البعض ومعاملاتهم مع آبائهم، ومن أكثر أنواع التفضيل المعروفة شيوعا تفضيل الذكور على الإناث، أو من كان به داء للعطف والشفقة كالمريض والصغير. ومن المؤكد أن هذه التفرقة تتنافى مع حسن الرعاية، وتورث الكراهية والنفور، وتستدعي العقوق، وتخل بالمقصود من عمارة الدنيا بالحب والصفاء، لهذا جاءت توجيهات الشريعة في وجوب العدل والمساواة بينهم ملزمة يقول تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى سورة النحل من الآية 90.

والعدل مع الأبناء أولى بالاتباع لما له من أثر في الولد والمجتمع، ويؤيد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم” البخاري ج5 ص 914.

أما إن كان منشأ التفضيل سببا ظاهرا من عجز ومرض أو صغر أو طلب علم فجائز ولا إثم فيه.

كما أوصت السنة المطهرة بإكرام البنات والحنو عليهن وعدم التفرقة بين الأبناء بسبب النوع يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من ابتلى من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار “أورده السيوطي في الجامع ويقول كذلك “من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو هكذا وضم أصابعه “رواه مسلم.

ولا شك أن الأبوين يستحقان هذه الصفة من حيث أنهما مسؤولان عن الرعاية للأولاد وهم من عملهما الصالح، وإذا كان الأب تشغله شواغل الكد والجد والتكسب أكثر وما ينبغي أن تجعله يغفل عن واجب التربية والاحتضان، فإن الأم ذلك النبع الثرار الذي لا ينضب أبدا، وهي عين العطاء وقلبه وها هو ذا الجنين وقد تعلق في رحم أمه وامتدت إليه شراينها وأوداجها وأحاطت به من كل متجه لتحتفظه بين سواتر الشحوم وكهوف العظام وشلالات الدم، وهي بعد ذلك تتحسسه بقلبها فترقب حركاته في أحشائها ليصبح كيانا منفصلا، لم تسلم بهذا الفصل، بل أعدت له مهادا بين صدرها وراحتيها تضيئه كل حين بومضات نورانية من عبق الأمومة فصدرها مدينته، ووجهها قمره، وهدهداتها شفرة تدريب له على لقاء الكون الرحب الفسيح على سعته، يقول الله تعالى: يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا سورة النساء.

ومنذ أن نكتب للولد حياة على الأرض نجد مهادا ربانيا ييسر له سبل الحياة فيها، وذلك من خلال فيوضات المحبة الخالصة من عليائها ممثلة في الأبوة المفعمة بالرحمة والخوف والشفقة.

فسبحان الذي جعل رعاية سائر المخلوقات لما تضعه لا تمتد لأكثر من أشهر أو أسابيع بينما جعل رعاية الإنسان لأبنائه طويلة ممتدة، وما ذلك إلا أنه المخلوق الذي منحه الله حق خلافته وجعل له العقل ليميز به الخبيث من الطيب وترك له مقاليد عمارة الأرض وتسخير كائناتها.

لذلك جعل التشريع الاسلامي وجوب الحضانة للأم وجوبا شرعيا يستمد الوجوب من هذه الكينونة الطبيعية والفطرية: فطرة الله التي خلق عليها الكائنات وكل شيء خلقناه بقدر.

إلا أن غياب الأم عن هذا الواجب بالعمل أو المرض أو الموت أو عدم الاكتراث فيه يقول الشاعر:

ليس اليتيم من انتهى أبواه من

هم الحياة وخلفاه ذليلا
فأصاب بالدنيا الحكيمة منهما

ويحسن تربية الزمان بديلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له

أم تخلت أو أبا مشغولا