نقرأ الحكمة مفصلة في وصايا عبد من عباد الله، سيدنا لقمان الحكيم تتلى في كتابه عز وجل.
عشر وصايا؛ أولها: عدم الشرك بالله؛ قول لا إله إلا الله يضعنا في مقام العبودية لله وحده، نقبل حاكميته ونرفض حاكمية غيره من طاغوت الهوى والشيطان.
ثانيها: الوصية بالوالدين، ففي كثير من الآيات جاء ذكر حقهما والإحسان إليهما وشكرهما. قال الله عز وجل: وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَريما وَاخْفِض لهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (الإسراء، 23 – 24).
وصية القرآن وسنة رسول الله ﷺ ذكرت إجمالا فريضة الإحسان إلى الوالدين، وخصت الأم ترجيحا لحقها وتقديما، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: “جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ -يعني: صحبتي-، قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك” (متفق عليه). كما أوصت ببر الوالدين ولو كانا مشركين، البر الذي لا ينقطع بعد مماتهما، وذلك بالدعاء لهما ووصل رحمهما، وبسائر الأعمال الصالحة؛ من صوم وحج وصدقة… ولنا في الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص أسوة حسنة، وهو الذي نزلت فيه الآية الكريمة: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفًا (لقمان، 15)، فهو لم يعق والديه لكونهما مشركين، وإنما رفض كفرهما، وأبقى على علاقة الصحبة معهما بالمعروف.
هذا فيما يخص الأبوين المشركين، فما بالك بالأبوين المسلمين، وما بالك أيضا بمن يعقهما أو يعنفهما بالضرب والشتم والحجر، أو يضعهما في دار العجزة فيكسر قلبهما والعياذ بالله. معاملة ليس لها أصل في شريعتنا ولا في الفطرة السليمة، ولكنها للأسف حقيقة وواقع معيش في مجتمعنا. فليحذر الأبناء من الوقوع في كبيرة من الكبائر، وإن فرضنا حالة قد يقع فيها الآباء تجاه أبنائهم في القسوة عليهم صغارا أو الإهمال والتقصير في حقهم، وهذا لا شك ذنب كبير، لكن يبقى العفو والصفح الجميل مطالب به طفل الأمس ورجل وامرأة اليوم، لتظل الصلة مستقاة من شرع الله عز وجل، وهو القائل سبحانه في محكم كتابه: وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (الإسراء، 23 – 24). آية تعتبر نبراسا يضعه الأبناء أمامهم شكرا وعرفانا لمن جادا بزهرة شبابهما وتعبا في تربيتهم وصبرا على أخطائهم وهفواتهم، وكم كان خفضهما لجناحهما عندما كانوا صغارا ضعافا، محبة فيهم ورحمة بهم. ثم إن الإحسان من الأولاد إليهما لا يفي بالقليل من حقهما، يتأدب الابن البار والابنة معهما، وذلك بالوقوف لاستقبالهما وتقبيل أيديهما، والتبسم الدائم لهما، وغض البصر في حضرتهما احتراما وتقديرا، والإنصات مع عدم مقاطعة حديثهما، والإسراع في تنفيذ طلباتهما وقضاء حوائجهما، وبذل الجهد للتفوق في الدراسة لإرضائهما..
هذا فيض من غيض، و ما زال هناك الكثير من السلوكيات والأخلاق التي يجب على الأبناء التحلي بها، مع كثرة الدعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما، والتصدق عليهما. روى مسلم والترمذي وأبو داوود عن بريدة بن الحصين رضي الله عنه قال: “بينما أنا جالس عند رسول الله ﷺ إذ أتت امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت. فقال: وجب أجرك، وردها عليك الميراث، قالت: يا رسول الله إنها كان عليها صوم شهر، فأصوم عنها؟ قال: صومي عنها. قالت: إنها لم تحج، أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها”.
والأمر سيان بالنسبة للأب لا يبخس حقه من هذا البر، فهو الراعي في حمى بيت يعوله ويحتضن أفراده ويبذل في ذلك وسعه متفانيا في غير ظهور، ولنا في رسول الله ﷺ أسوة حسنة، نسارع في الامتثال به قولا وفعلا، ففي حديث مرسل عند أبي داوود أن رسول الله ﷺ كان جالسا فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه من الرضاعة فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه.
ولعل خير ما نختم به، هذه القصة الرائعة المتعلقة بأصحاب الغار؛ روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في صحيح البخاري وصحيح مسلم واللفظ للبخاري:
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: بينما ثلاثة نفر يمشون، أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله فادعوا الله بها لعله يفرجها عنكم.
قال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صِبية صغار كنت أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم حلبت فبدأت بوالدي أسقيهما قبل بني، وإني استأخرت ذات يوم فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما وأكره أن أسقي الصبية، والصبية يتضاغون عند قدمي حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلته ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء، ففرج الله فرأوا السماء.
وقال الآخر اللهم إنها كانت لي بنت عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء، فطلبت منها فأبت علي حتى أتيتها بمائة دينار، فبغيت حتى جمعتها فلما وقعت بين رجليها قالت: يا عبد الله اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه، فقمت، فإن كنت تعلم أني فعلته ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة ففرج.
وقال الثالث اللهم إني استأجرت أجيرا بفرق أرز، فلما قضى عمله قال: أعطني حقي، فعرضت عليه فرغب عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا وراعيها، فجاءني فقال: اتق الله، فقلت: اذهب إلى ذلك البقر ورعاتها فخذ، فقال: اتق الله ولا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فخذ، فأخذه، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج ما بقي، ففرج الله. وفي رواية فخرجوا يمشون.
نستشف من خلال هذه القصة أن الله ينجي عباده بعد رحمته عز وجل، بما كسبوا من أعمال صالحة، وأول هذه الأعمال وأعظمها بر الوالدين.