اغتصاب البراءة

Cover Image for اغتصاب البراءة
نشر بتاريخ

من وأد الدهر وقتل العصر زواج القصر.

قد يقف ناعق ويدعي أن الأمر ظاهر، في الزمن الغابر، به عُمل فنجح، حتى إن أمهاتنا زوجن في سن مبكرة لا تزال الواحدة فينا فيها تلعب مع أولاد الجيران والإخوان والخلان، فعشن الوداد والأمان، وخلفن الصبية والصبيان.

ويؤصل ثان بزواج سيد الأنام بأمنا عائشة بنت الصديق رضي الله عنها فيخطئ خطأ فادحا في دعواه ويتحدث إفكا بقياسه للفارق الواضح شكلا ومضمونا وثبوتا.

تتحدث الإحصائيات عن نسب عالية من الفتيات اللواتي تغتصب طفولتهن مبكرا ويغادرن معها فصول التحصيل من أجل زواج يكون أحيانا غطاء مفروضا للتستر على انتهاك الأعراض والاغتصاب. وضع يشيع بقوة في بعض المناطق لانتشار الفقر والأمية واحتقار المرأة، وانتقاص المرأة نفسها لذاتها وقصور سقف طموحها في تحصيل ذَكر، لأنها أُوهمت أنها لا تصلح إلا للخدمة والفراش وتفريخ الذرية.

في توصيف الواقع:

تدل الإحصائيات أن ثلاثا وثلاثين ألفا ومائتين وثلاثا وخمسين (33253) قاصرا زُوجت سنة 2009 بنسبة تفوق السنة التي قبلها بحوالي ثلاث آلاف زيجة، وأن نسبة القاصرات تمثل عشرة في المائة من مجموع الزيجات، وأن تسعين في المائة من طلبات التزويج للقاصرات تقبل بلا جدال.

حددت مدونة الأسرة الزواج في الثامنة عشرة ونفضت الدولة يدها من القضية، عاث الناس فسادا في التزوير والتحايل على البند 16 من المدونة.

من أحلى المر أن تقَدم الصبية بما يصطلح عليه ب “الفاتحة” للزوج من أجل إتمام الزواج، وإلا فقد أصبحت الأعراض تنتهك ويعبث بها وتضيع مقابل ما يسمى بزواج “الكونترة” أو “المتعة” أو “الرهن”! نعم الرهن؟!

الرهن “ما يؤخذ توثقا به في دين لازم أو صائر إلى اللزوم”. اعتاد الناس أن يرهنوا الأشياء، وليت العقد دائما بما يبيحه الشرع. يهرب أناس من واقع اقتصادي متأزم ولو نحو المحرم، جهلا بالأحكام أو تحايلا، فيقعون في محظور التوجيه النبوي الشريف: “كل قرض جر منفعة فهو ربا”.

هذه المرة متعلق الرهن فتيات في عمر الزهور، يرمى بهن في أحضان رجل مجهول، موسر في الغالب، مقابل بضعة ملايين، على أن يرد الرهن إليه بعد إدراك المعقود عليها سنا يوثَّق فيه زواجها أو يلقى بها في سلة العدم والنكران والهجر كما مهملا، فتمضي فترات ليست بالهينة من عمرها الفتي بين ردهات المحاكم لإثبات نسب أرادوا له أن ينبت في غير بيئة تحميه وتذوذ عنه، أو تجد نفسها عرضة للتشرد والضياع، أو مقهورة مغلوبة فارة من وسط عائلي ظلمها، نحو المجهول أو لمعانقة أوكار الدعارة والفساد في دنيا مكتظة بالمظالم وضرورات المعاش، مما يخل بنسيج مجتمعي مهترئ أصلا بسبب كثرة المآسي التي تؤثث مجاله.

ما الأسباب الكامنة وراء هذا التردي؟

جفت الأمانة عند البعض، ومرجت العهود، وساءت الذمم، وأضحى بعض الناس عبدة للدرهم والدينار، والقطيفة والريال، لا يهمهم إن تاجروا في الأعراض وباعوها في سوق الذكور مقابل المال.

هذا سبب يلقي بظلاله الكالحة على هذا الواقع البائس، تنضاف إليه أسباب أخرى قمينة بالاعتبار، منها تجدر بعض التقاليد البالية في بعض المناطق التي تعيب على ذات الستة عشر ربيعا التي لم يتزاحم على بابها الخطاب، وتعتبرها وصمة عار على الأسرة، وقد ترمى بالعنوسة وأشنع الصفات، لفوات قطار الزواج محطتها دون أن تحجز لنفسها فيه مكانا! قطار يفوت في سن البراءة والطفولة! فماذا عن تلك التي تجاوزت العقدين من عمرها أو الثلاث! لا شك أنها تعاني الأمرين من ألسنة حداد أشحة على الخير.

ثم إن ضعف تقدير الذات وتنقيصها، وقصور الطموح، والخوف من تداعيات المراهقة والانفلات الأخلاقي، كما تدني المستويات المادية، وشيوع الظلم، وغياب العدل في قسمة الأرزاق… جميعها أسباب تدفع البعض إلى تسريع وتيرة الزواج طمعا في المهور، ورهبا من مسؤولية البنات وثقل إعالتهن.

تداعيات الوضع:

أي مستقبل يرجى من زواج محكوم بأعراف بالية، نابع عن جهالة وأمية، يسيجه البؤس الاجتماعي والإشكالات الاقتصادية.

أية نتائج ترجى من صفقات زيجات اغتيلت فيها البراءة وزُج فيها بزهرات يانعات وصبيات بريئات إلى عالم الكبيرات، ليجبرن على مغادرة عالم الأحلام، ليتحملن مسؤولية أسرة ممتدة أحيانا، ورعاية أزواج وأطفال، ويجبرن في كل ذلك على علاقات حميمية يجهلن عنها أبسط التفاصيل، بل وينظرن إليها على أنها همجية ووحشية واغتصاب واستغلال جنسي فاضح لطفولتهن البريئة.

معاناة نفسية عميقة تنضاف إليها أخرى جسدية غائرة، تؤثر على صبيات في إطار زواج غير متكافئ.

بُنيات لم يهيأن بعد جسديا ولا نفسيا ولا عاطفيا لواقع جديد، يرمى بهن في سوق نخاسة لتأخذهن اليد التي تدفع أكثر، فيعشن الحرمان العاطفي ولا يقوين على إدارة العلاقات الاجتماعية ولا رعاية الأسرة، ويتأثرن صحيا، إذ ترتفع عندهن الأمراض المتنوعة من اضطراب في الدورة الشهرية إلى إمكانية تمزق المهبل والإجهاض المتكرر أو النزيف المهبلي أو الولادات المبكرة وتشوهات العمود الفقري بسبب الحمل المبكر، كما يعدد ذلك وغيره أصحاب الاختصاص، ينضاف إلى ذلك الهدر المدرسي وانتشار ظاهرة الطلاق.

وجه كالح من أوجه البؤس الاجتماعي يحمل الآباء إلى عقد هذه الصفقات مقابل عرض الدنيا الزائل، فتنقشع أيام الزوجية الأولى عن أدواء تنزل على القاصر شؤما وسوءا لتجد نفسها أمام ذرية لا تقدر على رعايتها ومسؤولية أسرة لا تقدر على إدارتها أو على فراق نزل عليها وهي بعد لم تكمل عقدها الثاني.

أين يكمن الحل؟

تفعيل القوانين الزجرية وتجريم الفاعل لا يكفيان للقضاء على ظاهرة لا تعد بالهينة في أوطاننا، إذ لابد معهما من بث الوعي، ورفع الأمية عن الأمة والفقر المذل الذي كاد أن يكون كفرا، لابد من إحكام ميزان العدل، وإحقاق النصفة في قسمة الأرزاق، حتى لا يضطر الناس إلى بيع أعراضهم. لابد من تحريك الوعي الاجتماعي، والتحسيس لتغيير بعض القناعات الاجتماعية المتجذرة، وإعادة صياغة تربية الأمة وفق النموذج الشرعي المتكامل. لابد من إعادة الاعتبار لمؤسسة الزواج باعتبارها مستقرا للسكن والتواد بين زوجين متكافئين على كل الأصعدة. لابد من تمحيص الفهم للدين وإبعاد التنزيلات الشخصية والقناعات الذاتية التي لا تتجانس وصفاء الشريعة.

ما بعث النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، إلا من أجل أن يتم مكارم الأخلاق، ويرفع المظالم، ويحق الحق، ويجلب مصالح المكلفين ويدرأ المفاسد عنهم، ولما ثبت أن زواج القاصر ضرر في الغالب، فما جاءت الشريعة إلا من أجل رفعه لأن “الضرر يزال شرعا”.

لعل متدبرا في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم يعي رفض رسول الله عليه السلام تزويج ابنته الزهراء رضي الله عنها لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما قائلا: “”إنها صغيرة” وعندما خطبها علي كرم الله وجهه زوجها منه” 1 تصرف منوط بالمصلحة ومراعاة التكافؤ.

قد يقول قائل فما بال أمنا عائشة رضي الله عنها تزوجت لتسع…؟ إن الأمر محل خلاف بين ثلة من العلماء الذين تكلم بعضهم ناقدا سند الروايات، بينما استقرأ بعضهم الآخر روايات متفرقة أثبتوا من خلالها أن سن أمنا عائشة رضي الله عنها يستحيل أن يكون عند الهجرة أقل من سبعة عشر سنة.

روايات متضافرة ترجح هذا منها حديث نزول قول الله تعالى: سيهزم الجمع ويولون الدبر 2 و ما أوردته كتب التراجم والطبقات 3 من أن أسماء بنت الصديق رضي الله عنها وُلدت لسبع وعشرين قبل التاريخ أي قبل الهجرة وانها أسن من أختها عائشة رضي الله عنها بعشر…

ومع هذا وغيره، فإن هناك خصوصيات متعلقة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن تعليل النبي صلى الله عليه وسلم: “إنها صغيرة” نبراس ينبغي أن يهتدى به في واقع أضحت الماديات والبعد عن القيم وفساد الذمم وفشل العلاقات من سماته البارزة.

أما بعد،

فإن من العطايا المشكورة والمنن المنظورة والآيات المذكورة، نعمة الزوجية وعطاء التناغم والتواد بين الزوجين في إطار مؤسسة جعلها الله الوهاب مستقرا للسكن والاستقرار، وسببا للاستمرار وسبيلا للألفة والاستيطان، دفعا للغربة والوحشة وجلبا للألفة والأنس والرحمة، في متعة دنيوية موصولة بالله تعالى وزاد سفر في السير إلى الله المنان: زواج المرأة تمام رشدها، وبيت الزوجية حصنها وبرجها، إن خرجت من حرمة آدابه، أو هجمت على الزواج وهي جاهلة بما لها وعليها من جانبي الشرع والطبع، من جانبي الأخلاق والتخلق… وإن هي أساءت اختيار الزوج، أوتنمس لها قبل الزواج ثم أذاقها بعده من الجور ما لا يحتمل، تحول بيتها إلى سجن وعذاب، لا استقرار فيه ولا استمرار ) 4

ثم إن أحكام الدين التي يقام عليها الزواج وغيره من المعاملات ليست جزرا منفصلة لا واصل بينها، بل إن أحكامه مرتبطة ارتباطا وثيقا يصب أحدها في الآخر لتشكل جميعها قوة لتدبير علاقات الأفراد بينهم، وعلاقاتهم بخالقهم سبحانه الفرد الأحد. ما أحكام الشريعة إلا خادمة لمقاصد الشريعة ومحققة لها، ولا جرم أن زواج الفتاة منوط بمصلحتها قروية كانت أم من الحضر، وحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله.


[1] رواه النسائي رحمه الله بإسناد صحيح
[2] الرواية عند البخاري رحمه الله.
[3] منها الإصابة لابن حجر العسقلاني.
[4] ذ عبد السلام ياسين رحمه الله، تنوير المؤمنات 2/146.