فئتان من البشر عانوا الأمرّين عبر التاريخ؛ الأولى فئة العبيد التي كانت تباع وتشترى، وينكل بها كما يشاء الأسياد والساسة، والثانية فئة النساء.. ظلمت تلك المرأة المسكينة عبر التاريخ، وحرمت من حقوقها كإنسانة فقط لكونها الأضعف، فمنهم من اعتبرها جسدا لا روح فيه، ومنهم من قال إنها مخلوق قذر، ومنهم من اعتبرها سببا لكل الشرور والفتن والبلايا، وأنها خلقت لتلبية نزوات الرجل فحسب… ما كانت تقبل منها شكاية، ولا تؤخذ منها شهادة ولا مشورة.
وفي شبه الجزيرة العربية اعتبرها البعض عارا، فلجأ إلى وأدها في مهدها، وإن قدر الله لها الحياة عاشت بلا قيمة تذكر، تورّث إن مات زوجها كبقية الإرث.. حتى جاء الإسلام فقلب الموازين، وأعطى لكل حق حقه؛ وفي مقدمتهم العبيد الذين قال فيهم سيدنا عمر بن الخطاب: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟”، وكُرمت المرأة بنتا وأختا وزوجة وأما.
قد يتساءل البعض عن سر التغيير في التعامل مع المرأة من النقيض إلى النقيض، من الإذلال في الجاهلية إلى التكريم والتشريف في الإسلام، والجواب أن شعار سيدنا رسول الله صلى الله عليه كان “تربية ثم تربية ثم تربية”:
– ربى المصطفى تلك المرأة إلى جانب أخيها الرجل على تزكية الأنفس والسلوك إلى الله تعالى.
– رباهم على أن “النساء شقائق الرجال”.
– رباهم على أن “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي”.
– رباهم على التجاوز والتغافل ونبذ العنف، والشاهد أمنا عائشة رضي الله عنها لما أسقطت آنية الطعام التي أرسلتها ضرتها، أسقطتها من شدة الغيرة والصحابة ينتظرون ردّ فعل المربي الأول، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن قال “غارت أمكم!” ليعلمهم معنى الحلم.
– رباهم على تشريف الزوجة وتعظيم محبتها، فقال عندما سأله القائد خالد بن الوليد عن أحب الناس إليه “عائشة” ثم “أبوها”..
وهذه بعض من المواقف الكثيرة التي تربى الصحابة فيها على تكريم المرأة، مواقف أصبحت المرأة معها أكثر ثقة بنفسها وأكثر نضجا، فانقلب حالها من مجرد كونها مغلوبة مستضعفة لا قيمه لها تذكر، إلى مدرسة تربي القادة وإلى حافظة للدين والعرض، ولنا في تاريخ الإسلام نماذج كثيرة عن قامات عظيمة من النساء؛ فهذه أم المؤمنين عائشة التي تربت في كنف النبوة فأصبحت بصحبتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم المحدثة والفقيهة والعالمة، وهذه أم سلمة ذات العقل الراجح التي أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مشورتها الشهيرة في صلح الحديبية بحلق رأسه صلى الله عليه وسلم أمام الصحابة لتجنب هلاكهم وعصيان أمره، وهذه الشفاء المحاسبة اللبيبة في أسواق المدينة، وأولئك النسوة اللواتي ربين قادة كصلاح الدين والفاتح وغيرهم. وحتى لا نربط تلك النسوة بالماضي السحيق ونجد مبررات لخذلان المرأة، فأمامنا اليوم نساء من زمن النبوة؛ نساء غزة العزة، جبال شامخات، مجاهدات ومربيات لأحرار الأمة، حاضنات لمقاومة أربكت العالم كله.. والسر مرة أخرى في بيئة الإيمان والأمان المجتمعي والأسري لهذه المرأة، رغم الاحتلال الظالم الغاصب..
ما مكامن الخلل اليوم؟
عاشت المرأة عزيزة كريمة زمن عزة المسلمين، ليعاد امتهانها اليوم وإقصائها بشتى الوسائل، تتعرض المسكينة لأصناف من العنف اليومي؛ اجتماعيا كان أو مؤسساتيا أو اقتصاديا.. وقبل ذلك عنف أسري، لتمتهن تلك المرأة في سوق النخاسة مرة أخرى، وتستغل من طرف مستخدميها في العمل أو في الحقول، أو تهاجر تاركة ديارها عبر بحر قد لا تنجو من أمواجه، وحلمها عيش حياة كريمة بعيدا عن الوطن، تحرم أخرى من إرثها، وتُزوج قاصرات لا يعلمن شيئا عن كيفية إنشاء أسرة وتدبير شؤونها، ناهيك عن تربية الأبناء، لتغتصب طفولتها وتحرم من إكمال تعليمها بحجة الحفاظ عليها من فتن المجتمع، عوض تربيتها على القيم الحامية الواقية لها. عنف يمارس باسم الأعراف والتقاليد التي ترسخت عبر عصور ذل المسلمين وهوانهم.
مخلفات تعنيف النساء
آثار العنف على المرأة لا تمسها في شخصها فقط، بل تداعياتها تصل إلى الأسرة والمجتمع برمته، فذلك العنف يؤدي بها إلى تشكيكها في آدميتها وفي غاية وجودها، يؤدي أيضا إلى الحد من فاعليتها وقدرتها على العطاء، يؤدي إلى كبح مشاعرها وقوقعتها داخل المجتمع، فنجد الزوجة والأم المعنفة مهزوزة محبطة، والنتيجة أنها تربي لنا كما مهملا ونشئا غير صالح، غثاء كغثاء السيل يثقل كاهل هذه الأمة المثقلة أصلا…
سبيل الشفاء
لا يمكن أن نتحدث اليوم عن مجتمع صالح قوي بدون الحديث عن أسرة قوية تكون عماد ذلك المجتمع، والمرأة في صلبها، والوسيلة إصلاح نوعي لجميع المجالات، فلا يمكن للقوانين وحدها الحد من تلك الظاهرة المستشرية في المجتمع، بل لابد من بناء تربوي يجعل العلاقة بين الرجل والمرأة داخل الأسرة مبنية على التواد والتراحم والبذل والتكامل في الأدوار.
لابد من التركيز على التربية والمقاربة القيمية وتشبع المجتمع بثقافة الاعتراف بمجهودات المرأة داخله.
وعلى المستوى المجتمعي لابد من تظافر جهود كل الفاعلين ذوي النوايا الحسنة؛ مدرسة وإعلاما ومسجدا وغيرهم.. والأهم أن نصلح منظومة الفساد لتنصلح معها أحوال العباد من رجل وامرأة.
“ألا واستوصُوا بالنساء خيرًا؛ فإنما هنَّ عَوانٍ عندكم”؛ كلمة قالها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع لتكون آخر وصاياه، فلنجعلها شعارا في حياتنا، علها تكون شفاء لبعض أمراض هذه الأمة…