استوصوا بالنساء خيرا

Cover Image for       استوصوا بالنساء خيرا
نشر بتاريخ

 تَحلّ بنا ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه الذي أشرق الكون كله بمولده الشريف صلى الله عليه وسلم حسا ومعنى، كما أظلم كذلك بوفاته صلى الله عليه وسلم حسا ومعنى. قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِين(15)يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(16){1}   قال أنس بن مالك رضي الله عنه، فيما رواه أحمد والدرامي: ما رأيت يومًا قَطُّ كان أحسن، ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله وما رأيت يومًا كان أقبح، ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله{2}   وعن خالد بن معدان رضي الله عنه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك. قال : دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصري من أرض الشام{3}.   كيف لا نحتفي بمولده صلى الله عليه وسلم، بل كيف لا يحتفي الكون كله بميلاده، وقد خُلِق لأجله. روى ابن عساكر رحمه الله عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: هبط جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ربك يقول: “إن كنت قد اتخذت إبراهيم خليلا فقد اتخذتك حبيبا، وما خلقت خلقا أكرم منك، ولقد خلقت الدنيا وأهلها لأعرفهم كرامتك ومنزلتك عندي، ولولاك ما خلقت الدنيا’’ .

من أعظم مظاهر الاحتفال بمولده، تجديد محبته واقتفاء أثره وإحياء سنته صلى الله عليه وسلم، بما يقتضيه ذلك منا إجلالا وإكبارا وامتنانا لما أسداه لنا معشر النساء خاصة من تكريم، وما أحاطنا به من فائق عناية وبالغ حدب واهتمام. نقف وقفة تلمذة وتأمل لوصيته صلى الله عليه وسلم بالنساء في خطبته العظيمة في حجة الوداع يوم عرفة من السنة العاشرة من الهجرة النبوية، وسميت كذلك لكونها آخر خطبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في نفس الموقف من نفس السنة، و حضرها جمع غفير من صحابة رسول الله وآل بيته الطاهرين. هذه الخطبة التي أشار فيها صلى الله عليه وسلم إلى مجموعة من الحقوق الزوجية والوصايا، من أهمها حسن معاشرة الزوجة وإكرامها من باب حفظ الأمانة والقيام بواجب الرعاية.

فما هي أهم الدروس والعبر بل الجواهر والدرر، التي نستقيها من وصيته صلى الله عليه وسلم، التي سمتها السنة المطهرة وصية تنفذ تكارما وإيثارا وسماها الناس حقوقا وواجبات. كيف نبني العش ونحافظ عليه، وكيف نتجاوز ما قد يطرأ من خلاف لا قدر الله ثم كيف نقتفي أثر الحبيب من حيث حدبه ورفقه ورحمته صلى الله عليه وسلم بالمرأة؟        

وقد استهل وصيته عليه الصلاة والسلام بحث المسلمين على تقوى الله وحرمة أموال المسلمين ودمائهم وأعراضهم ثم التاكيد علي بعض الحقوق المتبادلة بين الزوجين فقال صلي الله عليه وسلم:
أما بعد أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم عليهن حق. لكم أن لا يواطئن فرشهن غيركم، ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح.
فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيراً – ألا هل بلغت اللهم فاشهد

لما فرغ صلى الله عليه وسلم من خطبته نزل عليه قوله تعالى: ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإسْلاَمَ دِينا [المائدة:3]، وعندما سمعها عمر رضي الله عنه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان. أخرجه البخاري
لقد أوتي الرسول الكريم جوامع الكلم وفصاحة الخطاب وسحر البيان، كيف لا وهو الذي علمه المولى عز وجل وصنعه على عينه. قال تعالى في محكم كتابه علمه شديد القوى[النجم: 5[ وقال عنه تعالى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى[النجم: 4،3].
من بلاغته وحسن بيانه صلى الله عليه وسلم أن كرر لفظ الوصية في خطبته الشريفة تماما كما في أحاديث كثيرة، وقبل ذلك نجدها تتكرر في كتاب الله العزيز.أعظم الوصايا هي وصية الله تعالى عباده بالدِّين والإيمان والتقوى، ووصيته بالوالدين..

نقتصر في هذه العجالة على وصيته صلى الله عليه وسلم بالنساء، في هذه الخطبة العظيمة التي ودع فيها الدنيا وأهلها، لنلحظ أنه افتتحها صلى الله عليه وسلم بحث الزوجة على رعاية حقوق زوجها في إطار مهمة الحافظية التي كلفت بها، فقال صلي الله عليه وسلم: أما بعد أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم عليهن حق. لكم أن لا يواطئن فرشهن غيركم، ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم.
يقول تعالى في محكم كتابه العزيز: الرجال قوامون علي النساء بما فضل الله به بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله والتي تخافون نشوزهن فعضوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فان أطعنكن فلا تبغوا عليهن سبيلا… [سورةالنساء: 34]

فالمرأة إذن مؤتمنة على حفظ مقاصد الشرع الخمسة التي ذكرها الإمام الشاطبي رحمه الله وأحسن إليه وهي حفظ العقل والنسل والمال والدين والعرض.

من حفظها للعرض استئذانها زوجها فيمن يدخل بيتهما، وفي ذلك حفاظ على حبل المودة والمحبة. كما هو بناء للثقة بما يتضمنه من مراعاة لطبع الغيرة التي يتصف بها الأزواج.
في المقابل لها عليه بموجب القوامة التي فرضها الله عليه حق النفقة والرعاية والإكرام.
وقد أشار الرسول صلى الله عليه إلى قضية شائكة وهي ضرب النساء، وجاء ذلك في معرض كلامه في الوصية: ولا يأتين بفاحشة فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح.
فالفاحشة وردت في القرآن العظيم بمعاني متعددة والنشوز من بعض معانيها خصوصا في معرض حديثه صلي الله عليه وسلم في الوصية.
ونورد تعليقا في الموضوع للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: الفاحشة المبيِّنة فُحشٌ بالغ ونشوز فاضح. بلغ سوء التفاهم بين الرجل والمرأة تُخومَ الهلاك، فالضرب حبل نجاة يُدَليه الشارع ليتمسك به غريقان. ما هو تشريع كرامة، إنما هو تشريع إغاثة.
ويقول في معرض شرحه الآية الكريمة وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُن: لا ينبغي أن يأخذها بالظِّنّ ويتهمها بالنشوز بمجرد تحسس وتوجس. بل حتى يظهر له من تصرفها ما به يُعلِم أنها ناشز. وقد فسر العلماء﴿تَخَافُونَ نُشُوزَهُن﴾: تعلمون نشوزهن.عندئذ يَعظ، ثم إذا أعيَى الوعظ يهجرُ ثلاثة أيام لا أكثر، فإنه يحرم على المسلم أن يهجر المسلم فوق ثلاث، فكيف بمن اختارها قرينة حياته. فإذا فشِل الهجْر فالباب مُشْرَع على الكارثة. الضرب كارثة على المرأة المتزنة الرقيقة العاطفية، لا شيء يؤلمها كالهجر، فإن افْتَدح الهجْر بالضرب فقد طفَحَ الكيل.{5}
إذن فالضرب علاج استثنائي لعلاج حالة مرضية استثنائية،خصوصا وأن الشرع الإسلامي أضفى صفة القدسية على العلاقة الزوجية من خلال وصفها بالميثاق الغليظ، وهي معنى قوله صلى الله عليه وسلم في وصيته العظيمة: وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيراً – ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
ويضيف رحمه الله في تفسيره قولَ الله تعالى: وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً:هو ميثاق بين رجل وامرأة يبقيان عليه بشرط المعروف أو ينقضانه بشرط الإحسان. مَا نسب سبحانه الميثاق إلى نفسه، إِذ ميثاقه أبدي ملزم، من نقضه تعرض لغضب الله. وقد ذُكر في القرآن «الميثاق الغليظ» ثلاث مرات، إِحداهن ميثاق الزواج.{6}

وأوصى الرسول صلى الله عليه وسلم الأزواج بالنساء خاصة، ووصفهن صلى الله عليه وسلم أنهن عوان عندهم أي أسيرات وذلك لأن المرأة بزواجها تفقد ملاذا آمنا تفتحت عينها فيه وهي طفلة، ثم ترعرعت فيه وهي شابة، وهي إن فقدت بيت الزوجية فستفقد بذلك وأطفالها الاستقرار والأمان والرعاية. وتتعقبها نظرات الملامة والعتاب على فشلها في لم شمل أسرتها، خصوصا في مجتمع تفككت فيه أوصال المودة والمرحمة وانعدم فيها العدل ومراعاة الحقوق.
ونختم كلامنا عن الوصية بفول للامام عبد السلام ياسين في معرض حديثه عن الوصية النبوية في خطبة الوداع في كتابه التنويري: نتأمل مسؤولية القوامة في دائرة الوصية النبوية النهائية في خطبة الوَداعِ، مرتفعين بتلك المسؤولية من معنى تكفل الرجل بقوته وعضليته وماله ورئاسته إلى معاني طاعة الله وطاعة رسوله ورعاية وصيته. خسِرت الأمة إن أضاع شطرُها حق شطرها، وعق الرجالُ وصية نبيهم إن لم يحفظوهُ في الضعيفة والضعيف.{7}
وينبه رحمه الله للآثار الوخيمة علي الأسرة لغياب المرحمة والألفة والاحترام في العلاقة بين الزوجين: من ذا الذي يرضَى أن تَنسُل له زوجه ذرية ضعيفة مهينةً مريضةً نفسيا، نشأت على اللف والدوران والكذب والحيلة والكيد والمراوغة؟ إذا كانت العشرة الزوجية معتلة فالأمومة مُعَوَّقة والذريَّةُ ترضَع الآلام. من كان من الآباء لا يحب تلك الصفات الرديئة في نسله فليعمل على تلافي أسباب تكونها في بيئته. يفعل ذلك رحمةً بالنسل إن كان دينُه وخوفه من الله لا يحمله على الاستقامة. يظلم الزوج ويضربها لا يحسُبُ حساب الآخرة ولا حساب الدنيا{8}
وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنساء جاءت في وضع طبيعي، تحترم فيه كل الحقوق وتصان الحمى، في مجتمع العمران الأخوي الذي بناه وصلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام. أما وقد انفرط العقد، وفقدت وانحط المجتمع فقد استوجب البناء من جديد. ولعل اللبنة الأولى في بناء المجتمع الأخوي المتراحم هي الاقتداء بسنة الحبيب المصطفى واقتفاء أثره، خصوصا في تلمس أخلاقه الشريفة وحسن معشره.
ولإعادة إرساء المنظومة الأخلاقية المنهارة في المجتمع لابد من إعادة تأهيل الفرد وتربيته وربطه بالنموذج الكريم، بإحياء سنته صلى الله عليه وسلم والتعريف بها. ولا يتأتى ذلك إلا بملازمة بيئة إيمانية مثالها وقدوتها سيرة رسول الله صلي الله عليه وسلم، وآل بيته الطاهرين ومن اهتدى بهديه من بعده، وهم صحابته رضوان الله عليهم ومن تبعهم بإحسان من أئمة وصالحين ومجددين.
ونحن إذ نعرض الوصية النبوية وما نصت عليه من آداب وحقوق تؤطر العلاقة بين الزوجين وتصون حرمة البيوت وتغمرها سعادة ومودة ورحمة ، فإنما نروم إحياء منظومة القيم والبناء عليها من جديد.
فاستقرار بيوتنا مؤشر على استقرار مجتمعاتنا وضمان ليقظة أمتنا وسيرها نحو الريادة.

 

 

{1}قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لهؤلاء الذين خاطبهم من أهل الكتاب: ” قد جاءكم “، يا أهل التوراة والإنجيل “من الله نور” ، يعني بالنور، محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي أنار الله به الحقَّ، وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك، فهو نور لمن استنار به [تفسير القرطبي].
{2} رواه الدارمي. مشكاةالمصابيح 2/ 547.
{3} رواه ابن إسحاق بسنده ( 1/166 سيرة ابن هشام ) ومن طريقه أخرجه الطبري في تفسيره ( 1/566) ، والحاكم في مستدركه ( 2/600) وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي ، وانظر السلسلة الصحيحة (1545).
{4}انظر التفسير الكبير.
{5}كتاب تنوير المومنات ج 2، الفصل الثامن: المؤمنة زوجا وأما، ص 205. 
{6}نفس الفصل من الكتاب، ص 156. 
{7}نفس الفصل من الكتاب، ص 199. 
{8}نفس الفصل من الكتاب، ص 210.