اختارت ما عند الله

Cover Image for اختارت ما عند الله
نشر بتاريخ

هي القائلة رضي الله عنها وأرضاها: آثرت الله ورسوله على ما سواهما وكرهت أن أعود في الكفر كما يكره المرء أن يقذف في النار. لطالما كانت غربة المكان شديدة على النفس البشرية التي جبلت على محبة الأهل والأسرة والبحث عن الدفء والاستقرار العائلي.. لكن الأشد منها اغترابا؛ غربة الإنسان وهو بين أهله وذويه ومن يحبهم. وغربة الدين والإنسان في عصرنا أصبحت شائعة تحكمها الظروف ومتاهات الحياة ومتطلباتها، لكن العاقل من كانت له إرادة وعزم قويان يبدلان غربته أنسا وسعادة ودفئا، إن هو جعل عبادته تقربا إلى الله، ورضاه بقضائه وقدره غاية، فإن الله تعالى – لامحالة – سيبدل عسره يسرا، ووحشته أنسا، وغربته سلاما، سواء كان بين أهله أو بعيدا عنهم.

والأسوة لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، النموذج الطاهر، وفي سيرته العطرة، توفيقا من الله، ولنا أيضا في أمهات المؤمنين والصحابيات الجليلات الفاضلات أسوة حسنة لا تقل روعة عن سيرة أصحابه صلى الله عليه وسلم، فالصحابية المؤمنة تؤكد بصبرها وعزيمتها وإيمانها القوي النابع من القلب الذي يخلص العبادة لله وحده، أن المرأة شطر الأمة وعمود الأسرة وجسر التواصل الذي يربط الماضي بالحاضر، وأنها الأصل الذي به تقوم الأشياء ويستقيم الميزان رغم الآفاق التي ضيقها أصحاب العقول المريضة، ورغم الاستهتار الذي تدعو له الفضائيات والهوائيات المقعرة التي شيأت المرأة وجعلتها سلعة تباع وتشترى.

حديثنا هذه المرة عن نموذج إيماني شامخ، فقد كانت رملة بنت رأس الكفر في مكة، وكان أبوها أبو سفيان يكن للرسول صلى الله عليه وسلم كل الكره والحقد والبغضاء. فكيف اجتمع الكفر والإيمان في بيت واحد؟ وكيف واجهت المرأة وهي في وضعها ذاك غرور وتسلط وتجبر أحد أعتى قادة قريش؟

صلابة في الحق وقوة إيمانية قوية خارقة تلك التي عانقت قلب سيدتنا رملة بنت أبي سفيان وجعلتها تتشبث بإيمانها تشبث القابضين على الجمر في زمان كان فيه الإسلام غريبا.

لم تجد رملة بنت أبي سفيان من دعم في محنتها إلا من زوجها الذي أسلم، وفي عموم البلوى على الفئة المسلمة آنذاك، ومواساة الوحي لهم. لكن تنكيل كفار قريش بالمؤمنين وجرأتهم عليهم اضطرها وزوجها وابنتهما حبيبة إلى الهجرة إلى الحبشة حيث السند الذي افتقدوه عند أهليهم وذويهم.

أكرم النجاشي وفادتهم خصوصا بعد إسلامه، لكن رحابة العيش لم تدم طويلا لتعيش أم حبيبة ابتلاء أشد من سابقه واختبارا عسيرا، فقد تنصر زوجها وارتد عن إسلامه وخيرها بين التنصر أو الطلاق. وتقاذفتها الخواطر:

ماذا سيكون مصيرها إن هي وافقت على الطلاق من أجل دينها الذي تتمسك به؟

ألن يزيدها ذلك اغترابا في الدين؟

من أين لها القوة لتتحمل اغتراب الدين والأهل والزوج؟

ومع ذلك سرعان ما اختارت ما عند الله. نعم، لقد كان اختيار الطلاق صعبا، لكن رملة المؤمنة الصادقة صبرت وتجلدت فجاءها الفرج من الله ومعه الجزاء بعد حين.

فما الجزاء يا ترى؟

لقد كان جزاء سيدتنا رملة بنت أبي سفيان بعد محنتها الشديدة يوازي اليقين والإيمان الذين يغمر قلبها. أليس يقول الحق سبحانه وتعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر، الآية 11]، لقد كوفئت أم حبيبة بعد فقدان الزوج الذي باع نفسه للشيطان بزوج خير منه وأفضل وأحسن، فقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبها من النجاشي ووكله للعقد عليها وكانت هذه أول وأكبر فرحة لها في حياتها، كما كوفئت على فقدان العيش الرغيد في بيت أبيها بكرم النجاشي الذي عقد قرانها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصره وأمهرها بأربعمائة دينار ذهبية وسهر على إرسالها إلى الحبيب المصطفى معززة مكرمة، وكوفئت أيضا بعودتها إلى مكة حيث أهلها وعشيرتها خصوصا بعد إسلام والدها عند فتح مكة.

إذا كان هذا جزاؤها الدنيوي فقد ادخر لها سبحانه وتعالى في صحبتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكونها من أمهات المؤمنين خيرا آخر أخرويا لا يعلمه إلا الله هل جزاء الإحسان إلا الإحسان بالإضافة إلى جزائها عن إسلام وصيفة النجاشي، يقول المصطفى الأمين عليه أزكى الصلاة والسلام: “لأن يهدي الله بك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس”.

فهنيئا يا ريحانة من رياحين بيت النبوة، وهنيئا لنا لتتلمذنا على سيرتك الطاهرة، فقد أثبتت لنا أن الصبر والثبات على الحق يسموان بصاحبهما إلى أعلى الدرجات وأن الله لا يضيع أجر المحسنين.