بعد عامين من حرب مدمرة اشتعلت منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى، أعلنت حركة حماس في الساعات الأولى من صباح اليوم، الخميس 09 أكتوبر 2025 عن التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار بين كيان الاحتلال وفصائل المقاومة الفلسطينية برعاية قطر ومصر وتركيا. وعمت الفرحة أرجاء قطاع غزة التي تنفس أهلها الصعداء بعد صمود أسطوري مرفوقة بمرارة وألم وفقد ووجع.
عين على فرحة غزة وأخرى على غدر المحتل
الاتفاق الذي انبنى على خطة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يشمل في المرحلة الأولى وقفا شاملا لإطلاق النار، وتبادلا للأسرى، وانسحابا لجيش الاحتلال من غزة، مع فتح المعابر تدريجيا أمام المساعدات الإنسانية، ورغم الترحيب الدولي الواسع، تبقى المخاوف قائمة من عرقلة الاحتلال لبنود التنفيذ أو التنصل من التزاماته كما حدث في اتفاقات سابقة.
وبينما دعت حماس في بيان إعلان الاتفاق الرئيس ترامب والوسطاء، إلى إلزام حكومة الاحتلال بتنفيذ استحقاقات الاتفاق كاملةً، وعدم السماح لها بالتنصّل أو المماطلة في تطبيق ما اتفِق عليه، برقت بالتحايا للشعب الفلسطيني العظيم في قطاع غزة، وفي القدس والضفة، وداخل الوطن وخارجه.
وقالت حماس إن الشعب الفلسطيني “سجّل مواقف عزٍّ وبطولة وشرف لا نظير لها، وواجه مشاريع الاحتلال الفاشي التي استهدفته وحقوقه الوطنية؛ تلك التضحيات والمواقف العظيمة التي أفشلت مخططات الاحتلال الإسرائيلي في الإخضاع والتهجير”، مؤكدة أن هذه التضحيات “لن تذهب هباء”، وأنا ستبقى على العهد، ولن تتخلى عن حقوقه حتى الحرية والاستقلال وتقرير المصير.
غزة ومقاومتها.. من الصمود إلى إقرار معادلة جديدة
على مدى أكثر من عامين، شن الكيان الصهيوني آلاف الغارات الجوية والبرية، استهدفت الأحياء السكنية والمستشفيات والبنى التحتية، لتتحول غزة إلى أنقاض مفتوحة على المأساة. ومع ذلك، لم تتمكن من تحقيق أهدافها المعلنة، إذ فشلت في القضاء على المقاومة أو في فرض سيطرة ميدانية دائمة.
ورغم الاستهدافات المستمرة والمعارك الكبرى التي شهدها القطاع في كل محاوره وشوارعه ومدنه، من حصار وتجويع وإبادة وتهجير، إلا أن صمود أهل غزة ومقاومتهم رسخ معادلة جديدة في الصراع، هي أن الاحتلال مهما امتلك من قوة نارية، وهما امتلك من دعم دولي وعربي، يبقى عاجزا عن كسر إرادة شعب يقاتل من أجل حريته وكرامته.
فقد أثبتت فصائل المقاومة الفلسطينية خلال هذه الحرب قدرة نوعية على إدارة المعركة بأدوات محدودة وفعالية عالية، جمعت بين التخطيط الميداني المحكم والابتكار في تكتيكات القتال، واعتمدت على سلاحها الاستراتيجي المتمثل في الأنفاق، واستطاعت إفشال كل مخططات العدو في التوغل وتحقيق الأهداف، بل نجحت في استهداف مواقعه العسكرية، كما أسقطت أعدادا هائلة من الطائرات المسيرة وألحقت خسائر فادحة في أرواح جيشه وفي آلياته العسكرية من جرافات ودبابات وناقلات جند.
ومع تزايد الفشل الميداني للاحتلال، تحولت المقاومة من موقع الدفاع إلى موقع الفرض السياسي، إذ لم يعد بالإمكان تجاوزها أو إقصاؤها من أي تسوية مستقبلية تخص غزة أو القضية الفلسطينية عموما.
الاحتلال بين الغطرسة والهزيمة ميدانية وأخلاقيا
منذ الساعات الأولى لهذه الإبادة، تبنت قيادة الاحتلال السياسية والعسكرية خطابا يقوم على الانتقام الشامل الذي يقوم على “القضاء على حماس”، و”تدمير بنية المقاومة”، و”استعادة كل الأسرى بالقوة”، لكنها سرعان ما وجدت نفسها في مواجهة مأزق أخلاقي وإنساني غير مسبوق.
استخدم الاحتلال أقصى درجات القوة، فدمر المستشفيات والمدارس والمخيمات، ومنع وصول الماء والغذاء والدواء، ما أثار إدانات واسعة من كل أحرار العالم ومن الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، وفتح نقاشا عالميا حول “جرائم الحرب”، و”حرب الإبادة”، و”المساءلة الدولية”…
ومع تصاعد الضغط الدولي من كل مستوياته، وجد الكيان الصهيوني نفسه معزولا حتى من أقرب حلفائها، بعدما فشل في تبرير استهداف المدنيين، وظهر أمام الرأي العام العالمي قوة غاشمة تحصد الأزرق واليابس يمنة ويسرة، في تحلل من كل القيود القانونية والقيم الإنسانية والأخلاقية والقرارات الدولية، فتجاوز استباحة غزة والضفة، إلى لبنان وسورية والعراق واليمن وإيران.
المجتمع الدولي عنوان العجز الموجَّه
لأشهر طويلة، اكتفى المجتمع الدولي ببيانات تنديد ودعوات “فضفاضة” للتهدئة، بينما استمرت آلة القتل في حصد الأرواح. ولم يفلح عداد الشهداء ولا حجم الدمار الهائل، ولا الأزمات الإنسانية التي تجاوزت كل حدود، في دفعت الأطراف الدولية إلى تحرك فعلي يستطيع إلجام الآلة الصهيونية.
ورغم أن مصر وقطر قادتا جولات وساطات ماراثونية، بدعم من تركيا والأمم المتحدة، في أكثر من مرة وأزيد من محاولة، إلا أن العجرفة الصهيونية وقيادتها السياسية أفشلت هذه المحاولات بتلكئها وهروبها إلى الأمام من أجل المزيد من الدماء والدمار بعيدا من تحقيق أي أهداف معلنة وراء هذا العدوان.
ووقفت أمريكا بكل صفاقة إلى جانب ربيبتها في هذه الحرب المدمرة بالسلاح والتكنولوجيا والضباط وكل أنواع الدعم، بما في ذلك وقوفها أمام الإرادة الدولية في مجلس الأمن واستخدمت الفيتو ضد وقف إطلاق النار في أكثر من مناسبة، لكنها لما يئست من تحقيق أي هدف عسكري ملموس أرغمت الكيان الصهيوني على توقيع الاتفاق من خلال خطة ترامب.
فجاء هذا التحرك الدبلوماسي بوساطة الدول الثلاثة متأخرا لكنه كان حاسما، ومهد للتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، الذي يعد مكسبا إنسانيا وسياسيا يعيد الأمل، رغم هشاشته، في إمكانية إحياء المسار السياسي الذي كان ينهيه الكيان باستهداف القيادة السياسية لحركة حماس في الدوحة بعد شهور من الإبادة الجماعية المتواصلة.
آفاق تنفيذ الاتفاق ومستقبل القضية
ينص الاتفاق كما أعلنت حماس على وقف شامل للعمليات العسكرية، والانسحاب من غزة، وفتح المعابر لإدخال المساعدات الإنسانية دون قيود، والشروع في تبادل فوري للأسرى، كما يتضمن إنشاء لجنة مشتركة من الوسطاء لمتابعة التنفيذ وضمان الالتزام ببنوده، على أن تُستأنف المفاوضات بعد شهر لبحث ملفات إعادة الإعمار وترتيبات حكم غزة.
ورغم أن البنود تبين انتصارا واضحا للمقاومة وهزيمة للكيان الذي لم يحقق أهدافه المعلنة، إلا أن التجارب السابقة تجعل التفاؤل حذرا، خصوصا مع استمرار بعض الأصوات داخل حكومة الاحتلال في المطالبة بمواصلة العمليات حتى القضاء الكامل على المقاومة، وهي الأهداف التي بين الميدان أنه مستحيل التحقق في ظل الصمود القوية للشعب الفلسطيني ومقاومته.
ومهما كانت مآلات الاتفاق، فإن هذه الجولة أعادت رسم معالم الصراع، وأثبتت أن إرادة الشعوب لا تُقهر مهما طال الزمن. فقد خرجت المقاومة منتصرة رغم حجم تضحياتها الجسام، بينما خرج الاحتلال مثقلا بالأزمات الداخلية والخارجية والانقسامات السياسي، وبرحت القضية الفلسطينية رهانها بالعودة إلى طاولة العالم وإنهاء مسار التطبيع والعجرفة الصهيونية