إلى من تكلني؟

Cover Image for إلى من تكلني؟
نشر بتاريخ

بسم الله الكريم المتفضل بالإنعام، واهب المنح جابر القلوب الممد بالعطاء والإكرام، الواسع العليم ذي الفضل العظيم، جل جلالك مولاي، تقدست أسماؤك وتنزهت صفاتك، احتار في حبك المحبون فأدهشتهم بالكرم وعجائب النعم، وتاه في بحر علمك العارفون فما زدتهم إلا يقينا تاما  بك وشوقا حارقا إليك، يمدون قلوبهم إلى السماء فتصب عليها من حكمتك ما يسقي العطاش ويروي ظمأ الأرواح، تنظر إلى قلوبهم فتلتهب من شدة الوجد تكاد تنزعها أنوار محبتك فتطير من غير جناح، طوبى لمن عرفك فما التفت عنك وطوبى لمن أحبك فانبرى يدل عليك لا يهمه إلا الوصول إليك.

وأصلي على الحبيب المصطفى البدر المنير عريس الحضرة بهي النظرة، جميل المحيا بالكمال تزيا، دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى. من فرحت السماء بمقدمه، فأعلنت الفرح والحبور، وتزينت بأبهى حلل الحضور، وانفتقت بأمر الله ترحب به وهو الضيف العظيم المجلل بالحب المعظم من حضرة القدوس السلام.

اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، والصلاة والسلام عليك يا حبيبي يا رسول الله.

سيدي رسول الله؛ كأني في كل عام أشد الرحال بقلبي إليك، أتقفى أثر رحلة الإسراء والمعراج، فيتطاول على المعاني قلبي السقيم، لعله يتلقى بعض خيرات السفر العظيم، فيأذن له المولى الكريم بمغتسل يبيضه من نكت الطين، بركات من رب السماء وفيض عطاء وجمال تنعيم.

أما بعد؛ فإن للرحلة أدبا يليق بحضرة المحبوب، زاد من الحب وشراب من الصدق ووقود من أسرار الصلاة على الحبيب، ومن أدلج بلغ ونال الفضل والتقريب.

هناك، على مشارف الطائف وحيث تجمعت الآلام والأحزان تجلس سيدي رسول الله تحت جدار تسند به تعبا، وتداوي عنده جروحا أدمت قدميك الشريفتين، تحمل كفيك إلى رب السماء تستعطف جنابه المعظم، وتدعو بكلمات تامات هن العتاد والعماد لكل من ورث نصيبه من الابتلاء.

“اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك” 1.

تطل عليك نفحات الجبر من عنب عداس الذي مسح على الجرح وهو النصراني العبد المملوك لسيده، انكفأ يقبل جراحك لعلها تطيب ثم تدرك برحمتك أن حديثا مع من يؤخره القوم كفيل بأن يشعل أول فتائل النور.

إلى من تكلني؟

هذا كان مرمى الحب إذ وكلك الخالق البارئ إليه وهو الذي سمى نفسه الجبار هو أرحم الراحمين ورب المستضعفين. لبى نداءك في الحين ثم جاءك الملك يستأذنك في أن يطبق عليهم الأخشبين.

كأني بك سيدي رسول الله قد اهتز عرش الرحمان لكلماتك، فكانت إشارة منك كافية لتقلب سافلها عاليها، فدعوت بقلب الأب الرحيم عسى أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله.

عام حزين فقدت فيه الحبيب القريب، وإلى رفقة الدرب غلبك الحنين، وتتابع عليك الخذلان، ورغم جراحك دفنت الأنين.

إلى من تكلني؟

يا جبر الله اشمل حضرة حبيبك وامسح عنه ألم الموجوعين.

 يا جبر الله هذا قلب نبيك ومجتباك، فلا تغادرنه إلا وقد فاض بالأمل حتى منتهاه.

ثم ها أنت سيدي؛ يُشَق صدرك من جديد فقد حان موعد لا كالمواعيد، ويعلن في الملإ الأعلى أنك للعلياء قادم، من زمن الاختبار إلى زمن الطهر والأنوار، ضيفا على الحضرة الجبار، خالق الليل والنهار .

بسم الله.

ربك الكريم إذا تجلى أدهشك.

سبحان الذي أسرى بعبده ليلا.

ما بين البيت الحرام والمسجد الأقصى لا يحده البصر، لكنه يطوى بخطوة البراق والبراق أشواق لا تحتمل الصبر ولا تطاق، كيف كنت تشعر سيدي رسول الله وأنت تعلم أنك ذاهب إلى ربك. كم تسارعت دقات قلبك الشريف، في كل خفقة كم كانت تتحرك في داخلك محارق الشوق. سبحان ربي الأعلى الذي خلق البراق لأجل سفرك البرَّاق.

إلى من تكلني؟

وكلك إلى الكريم الذي إذا بدأ أتم وكشف عن قلبك الغطاء وأدخلك في الرحاب منة منه وفضل عطاء.

في المعراج خطوت خطوتك العلوية منبهرا بكرم المولى، مسبحا فرحا مناجيا متأدبا بالحمد لذي الجلال والإكرام.

سبع سماوات كأنها سبع مقامات علية؛ سيدنا آدم عليه السلام، أب البشرية، أول من استقبلك في الملإ الأعلى، أول من ابتلي بالطين، في سمائه هناك تتوالى عليه كل الأسماء وقد علَّمها له ربه من قبل، كأنما يستقبلك حنو قلبه وهو الذي ذاق ما ذاق بعد أن استوحش بعد فراق أمنا حواء وهو يهبط إلى أمر الله، كانت له ملاذا فلما أذن لهما باللقاء كابدا معا حتى اكتمل لهما السير وتسلمت ذريتهما مشعل الدعوة والبناء. كانت أمنا حواء لأبينا آدم كما كانت لك أمنا خديجة، جنة الله في الأرض، تسير إليها بكل أثقالك فتواسيك وتثبتك وتشد عزيمتك. يعلمنا سيدنا آدم أن الطريق مهما طال لابد له من انتهاء.

سلام على سيدنا آدم وعلى أمنا حواء في العالمين.

تحل بك الخطوات في سماء سيدنا يحيى وسيدنا عيسى عليهما السلام، كأنما أراد ربنا الحبيب أن يخبرك بحجم معاناة سيدنا زكرياء الذي بشر بالولد على كبر سنه، شاب فتي هو قرة العين، ثم يقطع رأسه فتقطع معها أوصال الأب الرحيم وغصة الفقد لا يمحوها إلا يقين عظيم في رب العالمين، وسيدنا عيسى الذي عاش بالحب يداوي أسقاما ويحيي قلوبا مواتا، وهو الذي نالت في طريق ولادته الكاملة مريم ما نالت من سطوة اللسان وهي العفيفة الطاهرة خادمة المحراب، كأنما هي وصفة من وصفات الطريق يواسي بها الله الكبير المتعال قلبك الشريف.

ثم تَحُلُّ بحضرة الجمال اليوسفي وتذكر الفراق الطويل ولوعة الشوق عند سيدي يعقوب عليه السلام. فلذة الكبد ترمى في الجب، زهد فيه إخوته حسدا من عند أنفسهم، يستخرجه من باعه بثمن بخس، يكبر في قصر العزيز ويبتلى بالسجن فرارا إلى قدر الله، ثم يقدر الله اللقاء بعد أن جبره بالتكريم والتعظيم ووضع عليه تاج الملوك وأسجد له أبويه ومعهما ظالميه، كأنما الرسالة الصبرَ الصبرَ يا حبيب الله، الصبر الصبر .. لا يحزنك ما يقولون، اقترب موعد اللقاء، ولك في الله أجمل العوض.

إلى من تكلني؟

وكلك إلى الذي رفع إدريس مكانا عليا يخرق له الزمان والمكان في سماء هي الرابعة في تعداد السماوات، احتار ملك الموت المأمور كيف يقبض روحه، فإذا به قد سار إلى حتفه بمنتهى إرادته، يرجو طول عمر لصلاح عمل، وما كان يدري سيدنا إدريس بأي أرض نفس تموت.

سيدنا هارون على بعد زمن لا كالأزمان يستقبلك فصيحًا مفوها، وهو السند والمدد لنبي اختار الله أن يكون كليمه، لا تأخذ بلحيتي؛ يغضب سيدنا موسى من السامري الذي عبَّد قومه عجلا من ذهب فيعاتب أخاه قابضا على لحيته، كأنما تهممه بأمر أمته التي ضيعت العهد كشف عن حسرة وألم شديدين. سيدنا موسى عليه السلام ألقته أمه في اليم وهو رضيع وما أشد الفراغ الذي أبدت به، تلقفته الكاملة آسية تدبيرا من الملك الوهاب الذي رده إلى أمه لكي تقر عينها به، يتربى في قصر الظالم نفسه ليَخْبَر عقلية فرعون الذي بنى له هامان صرحا يطلع فيه من حيث لا يحتسب إلى نهايته. سيدنا موسى التمس من الكريم عون أخيه ليشد به أزره دعوة باللين وذكرا لله. أوتي العصا معجزة وتاب على يديه سحرة الزمان وأغرق الله فرعون بضربة من يقين على بحر يموج بالمعاناة. الصبر الصبر يا حبيب الله.

إلى من تكلني؟

وكلك إلى رب سيدنا إبراهيم عليه السلام إذ كان أمة لوحده، حطم أصناما تُعبد من دون الله وأُلقي في النار فكانت بردا وسلاما، سلط الله على عدوه من يضربه على دماغه ليُسكِن طنينا أفقده الصواب. سيدنا إبراهيم عليه السلام على كبر سن يؤتيه الله إسماعيل، سل المشتاق إلى ولد يخبرك كمَّ الفرح وهو يعد السنوات تلو السنوات حتى أتاه الله من فضله العظيم، يا لفرحة القلب، ثم ها هو أمر الله يرتضيه وهو يتل فلذة كبده للجبين، لم يذبح إبراهيم ابنه وإنما ذبح كل ما يشغله عن الله ويلفته عنه، حتى وإن كان ولدا اشتاق إلى أن يحضنه وتقر به عينه، ساعتها فقط استقامت له الطريق ورفع برفقته قواعد البيت.

الصبر الصبر يا حبيب الله.

إلى من تكلني؟

وكلك إليه وهو يتجلى عليك بالنور الأعظم؛ نور على نور، حتى جبريل الحبيب عليه السلام مؤنس رحلتك، عليك أن تفارقه الآن، فقد حان موعد لا زمن له ولا مكان. عند سدرة المنتهى تحترق أجنحة جبريل وتخترق أنوار الحبيب حجب النور.

أنت في حضرة المولى زج بك إليه والحب يشد أعماقك لترى بيقين لا شك فيه إلى من وكلك.

إلى من تكلني؟

وكلك إلى الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد.

وكلك إلى الذي اختصك بالحب الذي لا يشاركك فيه غيرك.

وكلك إلى الذي جعلك قاسما وهو المعطي.

وكلك إلى مالك الملك ذي العزة والجبروت.

وكلك إلى من تجلى عليك بكامل أحديته، وأدخلك عليه بكامل عبوديتك، لا يفصلك عنه فاصل (سل تعط).

أية مواساة هاته اخترقت بك حجب النور وجعلتك حبيب الله؟

أية كلمات خرجت من فيك الشريف؟ بل أية كلمات سمعتها من رب ليس كمثله شيء؟

أي جلال تجلى وأي دلال حظيت به حضرة جنابك الشريف؟

كيف ارتفعت تسابيح قلبك الهائم بمحبوبك الأجل؟

سيدي يا رسول الله؛ تستحي كلماتي أن تخطو إلى الحمى المجلل بالجلال وتكتب عن الجناب الأقدس، لكنك سيدي قد أوتيت الوسيلة والدرجة الرفيعة فتشفع لمحبيك أن لا يحرم قلب هائم بحضرة المولى أن يرزق النظر منه و إليه إكراما لك يا خير من خلق الله.

والصلاة والسلام عليك يا حبيبي يا رسول الله.

 


[1] رواه الطبراني في “الدعاء” (ص/315) واللفظ له – وعزاه بعض أهل العلم إلى “المعجم الكبير” للطبراني-، ومن طريقه الضياء المقدسي في “المختار” (9/179)، ورواه ابن عدي في “الكامل” (6/111)، ومن طريقه ابن عساكر (49/152)، ورواه الخطيب البغدادي في “الجامع لأخلاق الراوي” (2/275) وغيرهم جميعا من طريق وهب بن جرير بن حازم قال: حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه به.