إعفاء أطر العدل والإحسان: الواقعة والدرس

Cover Image for إعفاء أطر العدل والإحسان: الواقعة والدرس
نشر بتاريخ

نص الواقعة:

حدثتنا التاريخ الصادق عن وسائل الإعلام السمعي والبصري، وأنبأنا الواقع الملموس، وأقوال الناس وأحاديثهم تصدق ذلك وتشهد عليه أن في الإدارة المغربية، خصوصا في وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني، حالة استنفار مكثفة، وشعورا بيقظة واستيقاظ من تدارك وضعية التربية والتكوين وتفعيل مسلسل الإصلاح والتطوير بعد المشاورات الواسعة والترددات الوافية، أن الإصلاح الحقيقي يقتضي تتبع أطر “العدل والإحسان” وإنهاء مهامهم غير المرغوب فيها بشهادة زملائهم ورؤسائهم ومعارفهم، المتجلية في تفانيهم في عملهم ووظائفهم، ونزاهتهم في سلوكهم وتواصلهم، ونقاء جيوبهم من غير عرق جبينهم ونقاء ملفاتهم.

إنه لا حل لإصلاح المنظومة إلا بتجميد هؤلاء وثنيهم عن كل مهمة نجحوا فيها، ولو ضدا على قانون الوظيفة العمومية، ولو ضدا على الأعراف المهنية الشريفة، ولو ضدا ببقاء المناصب شاغرة والمؤسسات فارغة والحقوق ضائعة ولو… ولو…

هؤلاء جاؤونا بصدق وإتقان، وقبول وتفان، وحجة ظاهرة وبرهان، ووضوح وبيان، ولا يقعقع لهم بالشنان… جاؤوا بعدل وإحسان… فمن أين نأتيهم نحن بما يمنعهم من كل شأن؟ 

من أين نأتيهم بما يمنع مصداقيتهم في كل زمان ومكان؟

إنهاء المهام هو الحل؟!

سياقات الواقعة:

لم كل هذا التحامل على جماعة العدل والإحسان؟ وما السياقات المفرزة لهذه الخطوة غير محسوبة العواقب؟ ما الذي أفقد بعض النافذين في دواليب السلطة رشدهم إن كان لديهم رشد؟ ما الذي جعلهم يضحون بخيرة الأطر وأكفئها واصدقها مقابل تضييع أمانة التربية والتعليم الأمانة العظمة بعد عبادة الله تعالى وتوحيده؟ ما الذي أنساهم باقي دروس تعاملهم مع الجماعة خلال سنين خلت، وكثيرة هي فاعتبروا يا أولي الأبصار!  

للإجابة عن هذه التساؤلات؟ ولتنوير أولي الألباب من أبناء الجماعة والمتعاطفين والملاحظين والمتتبعين نقول وعلى الله التكلان.

أولا: طبيعة تعامل النظام مع كل معارضة صادقة:  

تاريخ الاستبداد والفساد في الأرض منذ بدء التاريخ  مضايقة المخالفين ومحاصرتهم، لم يسلم من ذلك حتى أتباع الرسل بعد انتقالهم إلى الرفيق الأعلى وتباعد أجيال من بقي بعدهم إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنها أمة موعودة بعموم نورها ورحمتها في العالمين بالرفق واللين والعزم واليقين… ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.

ثانيا: طبيعة الجماعة: الصدق والوضوح:

منذ النداءات الأولى للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، حين كانت التنظيمات الإسلامية وغير الإسلامية تجعل من السرية عقيدة حركية أعلنها مدوية، نعمل تحت ضوء الشمس حتى لا يجد الخصوم منفذا لتلفيق التهم وتلصيق الجنايات بنا، وشمس الوضوح وماء الصدق، وهواء العزم، وتربة التوكل على الله تونع المروج، وتنضج الثمار، وتبهج الأنظار (كمثل غيث أعجب الزراع).

تربت على هذه القيمة الفضلى أجيال من شباب الأمس رجال اليوم محتضني الأجيال القادمة من أبناء هذا الوطن، ورثوا هذا وورثوه كل من تربطهم به رابطة فضل ومروءة ولو خالفهم المسار، مدرسة صدق ووضوح متنقلة عبر الأجيال. ولله ميراث السماوات والأرض، “فلا نعمل في إطار مغلق على أنفسنا مهما كانت دواعي التستر. ولا نعمل في إطار مغلق عن الشعب، فإن الدعاية الداخلية والخارجية ضدنا تلفق علينا الأباطيل. يجب أن نعرف أننا مع الله ورسوله وبالتالي مع المستضعفين، نريد عدلا للناس كافة، وتقسيم أرزاق، وتقسيم أموال، بعد إنتاج أرزاق وأموال.” المنهاج النبوي ص 98.

ثالثا: مصداقية المشروع:

لم تزد الأيام والسنون والمحن والإحن مشروع الجماعة في التربية والتغيير إلا مصداقية وانتشارا، مشروع يروم التي هي أحسن في التربية على الإسلام والإيمان والإحسان، بالتدرج المطلوب، والعزم الثابت، يبدأ من قلب الإنسان الذي هو محط العناية الربانية، وبه يصلح الأمر كله، مرورا بالعقل المتفكر بأنوار الوحي المبدع في تسخير ما في الأكوان لإنقاذ الإنسانية مما هي فيه، وصولا إلى ضبط الحركة في الأرض بالرفق والحكمة والقوة والعزم والسعي الثابت، رجوعا إلى الدار الآخرة، حتى صار في الكون أفواج من المؤمنين منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولاهم يحزنون، ومن دعائهم الدائم: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما تأمين لمستقبل الحق أن يبقى فوق الأرض منقذا من كل هلاك وضلال “وعلى إحسان المؤمن العامل الصالحات لكل مهماته، وإحسان جند الله في كل الميادين، يتوقف مصير الأمة هنا ومصير المؤمن والمؤمنة عند الله. فعلى الإحسان نربي أجيالنا، وعليه ننظم صفوفنا” المنهاج النبوي ص: 101.

رابعا: سلامة البنيان الداخلي:

بيان مجلس الشورى: في الآونة الأخيرة أعلن مجلس الشورى بيانه السنوي في دورته السابعة عشرة، ودل دلالات واضحة على الحياة الداخلية التي تعيشها الجماعة نقاشا وتداولا، وأخذا وردا، وتقليبا لوجهات النظر فيما ينفع أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينفع هذا الوطن الحبيب.

خامسا: ذكرى الإمام:

لم تمنع برازخ الموت الصلة بين ما أثلته يد الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى  من دعوة للتواصل الجاد، والحوار المتئد مع كل ذي مروءة وفضل ورغبة في الإسهام في البناء المتنوع المتعايش المتعاضد على الحرية والكرامة والعدالة.

تجلى ذلك في الموضوع المقترح في فعاليات الذكرى الرابعة التي كانت تحت عنوان: “الحوار وضرورة البناء المشترك” كتب الله تعالى لها قبولا واسعا وكانت حدثا رائدا بكل ما تحمله الكلمة من معاني الريادة والإفادة والإجادة. ولا تزال ثمارها يانعة ينتفع برحيقها كل من يروم عسلا مصفى، وحوارا مثمرا، وعملا مشتركا بناء.    

سادسا: الإشعاع العالمي:

منذ المؤتمر الأول الذي قدر له أن يكون حدثا عالميا في الشهور القليلة قبل انتقال الإمام المرشد إلى الدار الآخرة، إلى رحمة الله الواسعة الدائمة، وما تبعه من اهتمام عالمي بفكر الإمام ومشروعه، وجماعته وميراثه، وكل من دخل من باب الفكر والبحث، ثم أطل على أجواء القلوب الحاملة للمشروع، والعقول المشتغلة في بثه وتطوير آفاقه، وإرادة الخير للغير… يتساءل المتسائل عن السر وراء  هذا القبول وذاك الإشعاع، فيرى رصيدا تربويا عميقا في أعداد غفيرة من الرجال والنساء والشباب، الكل يشتغل في تفان وتناسق يقف على أرض تربوية متينة ويعمل بجد وإخلاص، ويحصد ميداليات القبول والتيسير أنى اتجه.

سابعا: الفشل في تدبير القضايا الساخنة:

ملف الأطباء والأساتذة المتدربين وأحداث الحسيمة وذكرى 20 فبراير القريبة في نسختها الجديد، ومشاكل التعليم والصحة و…

 كل ذلك جعل بعض الفئات النافذة تريد إطفاء هذا الوهج، وتغطية ذاك الضوء بإنهاء مهام أطر العدل والإحسان، وهيهات هيهات… فقد صار نورها في الآفاق…

هذه النازلة وسوابقها ولواحقها فأين الدرس والعبرة، وأين الثمرة والفائدة؟

كثيرة هي كما عودنا الله تعالى.

أولا: اليقين في الموعود:  

المومن والمومنة في هذا الزمان مكلفان معا بالسعي الدؤوب لتحقيق موعود الله ورسوله صلى الله عليه وسلم  وعدم الشك فيه أو الاستسلام للمشككين والمتشككين. نعم في الطريق عقبات وابتلاءات لكن اليقين الثابت والتصديق الجازم أمران هامان في اقتحام كل العقبات وسلامة سير العبد إلى ربه

ثانيا: البناء الجماعي المرصوص:

هذا دور القيادات التربوية والدعوية والسياسية في الجماعة في كافة ربوع الوطن وغيره، عدم الالتفات للمشوشات والمثبطات. فكما يقول الإمام رحمه الله تعالى: “في الميدان إقبال شديد على الإسلام من قبل هذه الأجيال الصاعدة العائدة إلى ربها، التي تكون بتكاثرها المبارك إن شاء الله مشكلة للحكام والسياسيين. فبالمؤازرة مع العمل الميداني التربوي نتنظم لنكون القوة الفعالة في التغيير، ولن نكون كذلك إلا إن كانت كل خطوة ميدانية تسير بنا على درب العمل الجهادي الكلي. لن نكون كذلك إلا إن تحولت كل شعبة من شعب الإيمان عملا في سلوكنا أفرادا وجماعة، يكون نموذجا مصغرا لحياة الأمة تحت ظل الإسلام. سلوكنا العملي يقول للناس بلسان الحال ماذا يعني الحل الإسلامي بالنسبة لمستقبل الأمة”. المنهاج ص98.

أنتم يا أعضاء العدل والإحسان أمل الأمة بما أثبتم من رحابة صدر، وقوة صبر، لكن، كما تربينا عليه، في الهموم والكروب يتجدد اللجوء إلى الله تعالى والالتفات إلى التقصير الفردي للتوبة والرجوع إلى المولى، الكل يتوب ويجدد التوبة قولا وعملا وحالا، ف: “قبل أن أنادي العالم إلى مأدبة الخير، قبل أن أصرخ بالإنسان حريصا عليه رحيما به، يجب أن أوقظ قومي من سبات، وأجمعهم من شتات، وأحييهم من رفات.

أستغفر الله! فإنما يفعل ذلك ويهدي إليه الله. وأنا العبد السعيد إن استعملني المولى في مهمة الرسل الأصفياء عليهم السلام… لابد من تعبئة الأمة.

وقبل أن أحدث نفسي بتعبئة غيري أكون مختانا لنفسي إن لم أحملها على مكاره التوبة، والعفة، والخلق الحسن، والانضباط بالشريعة.

قبل أن أحدث الناس عن البواعث الإيمانية المعبئة، أكتبها في عناوين المكتوبات، آخذ بخناق نفسي لأسألها منذ متى لم تفتح المصحف، ولم تخشع لتلاوة، ولم تتدبر آية. منذ متى لم تحضر صلاة الجماعة في المسجد.” الاقتصاد ص: 235.

أنتم الملاذ الخلقي والسياسي لهذه الأمة: “ولكي يصبح مشروعنا في التغيير عملا ناجحا يجب أن نصارح الشعب بحقائق الظلم الطبقي، وحقائق التخلف الحضاري والاقتصادي، وحقائق التبعية لشرق الجاهلية وغربها. ثم لا يكفي أن نفضح المسؤولين عن الفتنة ونشير بأصابع الاتهام لماضي الفساد وحاضره. بل علينا أن نصارح أنفسنا ونصارح الشعب بالثمن الواجب دفعه لإصلاح ما أفسدوه. فإنه إن هونا على الشعب ما ينتظره من صبر وبذل (تضحيات)، ووقفنا بلوائح وعودنا إلى جانب عارضي الزور من الأحزاب السياسية، نكون تجار كلام.

إنما يكون تصرفنا تصرفا مسؤولا إن فضلنا الصدق على الكذب” المنهاج النبوي ص101.

ثالثا: التقوى الفردية والجماعية:  

كل واحدة وكل واحد منا له مع الله تعالى صلات وصلات، خلوات في جلوات، فليطرق أبواب الرحموت، وليسع في أسباب النصر والتمكين: عدم انتهاك محارم الله، وتعظيم حراماته، إطابة المطعم  والمشرب وتحري الحلال، التصافي والتسامح بيننا جميعا، الصفح والعفو عن بعضنا وعن الناس، الصدقة وما أدراك ما الصدقة، وليحذر كل منا أن يؤتى البنيان من جهته: “مهمة تغيير ما بنا لا حل لها إن لم نغير ما بأنفسنا. قال الله تعالى: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، فكما خذلنا حين تنكبنا شريعته ينصرنا إن رجعنا إليه. والرجوع إلى الله إنما يكون عن دعوة داع وتربية مرب. وإرجاع الأمة بكاملها إلى الله تعالى قضيتنا… السفينة من داخلها خراب: خراب ضمائر، أجهزة مرصودة لخدمة مصالح المستكبرين الذين احتوشوا المال، وتسلطوا على الحكم، وانتهكوا الأعراض، وأباحوا ما حرم الله، ومالؤوا أعداء الإسلام على الأمة، وتفاوضوا معه لبيع حرية الأمة وخيراتها وأرضها وكرامتها” المنهاج النبوي 100.

رابعا: المشي في الناس بنور بالحال والمقال:   

يقتضي التطور السليم أن تصبح الجماعة حركة مجتمعية واسعة التأثير، ماضية التغيير الإيجابي المنبني على  التربية الذاتية على الإسلام والإيمان والإحسان، المتعدية إلى غيرها: “الوجه الباسم المقبل على مخاطبه، والوجه الطلق الباش تلقى به أخاك صدقة، آصرة مهمة من أواصر الصحبة والجماعة والأخوة….

البشر والاستبشار والكلمة الطيبة. الكلام الواضح الهادئ الوقور. الإقبال على السائل وحسن الاستماع. الانبساط للناس. التبشير لا التنفي، هذه الآداب نزرعها ونتعلمها ونعلمها جند الله. فإن الدعوة أول شيء وجه باش وكلمة طيبة، وشخص نظيف، جذاب بلطفه، وبيان فكرته..” المنهاج النبوي ص: 279.

فارفع رأسك يا فتى العدل والإحسان وارفعي هامتك يا فتاة العدل والإحسان، وليعلم الجميع أن من أهم مقاصد الدين تحرير الناس أجمعين من كل عبودية لغير الله، وتكريمهم بكرامة الاستخلاف الذي لا مذلة فيه، وهداية الإنسان من كل ضلال. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

وأخيرا، النداء موجه إلى كل الأحرار والفضلاء المناضلين، والعلماء والدعاة الصادقين، أن هلموا لنصرة الحق والعدل والكرامة ولا تكونوا من الذين ينتظرون ولا يبادرون، الحقوق تصان بالنضال، والكرامة تنال بالثبات على المبدإ، ومن يهن يسهل الهوان عليه

واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة.