إضاءة على سيرة صحابية جليلة.. أم ورقة بنت نوفل الأنصارية الشهيدة

Cover Image for إضاءة على سيرة صحابية جليلة.. أم ورقة بنت نوفل الأنصارية الشهيدة
نشر بتاريخ

كثيرات طواهن الزمن ولم يعد يذكرهن التاريخ بحيث لا تترك بصماتهن عليه أثرا حتى يهيئ الله لهن من ينشو سيرتهن، فيزيل عنهن غبار الأيام وتوالي السنين فتبدو صورهن مضيئة مشرقة. وسواء أكانت المرأة معلومة أم مجهولة، فهي حاضرة إلى جنب الرجل دائما؛ تحثه وتعينه وتشد أزره وتسير معه رحلة الحياة، يدا بيد وكتفا إلى كتف. والأمثلة على ذلك كثيرة نسمع عنها ونراها بأعيننا أحيانا. وأم ورقة واحدة من هؤلاء النسوة اللواتي طواهن التاريخ في أغواره السحيقة، لذلك دعونا ننفض الغبار عن ذكرى هذه المرأة لنقتدي بها ولنأخذ العبرة من حياتها. فمن هي أم ورقة؟

عرفت بكنيتها، ولم تذكر جميع كتب الصحابة اسمها، لقبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهيدة، واتفقت جميع كتب الصحابة والسيرة على سبب تلقيب الرسول لها بالشهيدة.

نسبها

هي أم ورقة بن الحارث بن عويمر بن نوفل، نسبت إلى جدها الأعلى ابن نوفل، لم يعرف بالتحديد عام ولادتها ولا عام وفاتها، ولكن المتفق عليه هو أنها توفيت في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مما يجعلنا نستنتج أنها عاشت في حياة الرسول صلى الله عله وسلم وعاصرت خلافة أبي بكر الصديق وبعض من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وأنها استشهدت حوالي عام 22 للهجرة.     

إسلامها

كانت أم ورقة امرأة من الأنصار آمنت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت من أوائل النساء اللواتي بايعن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة، وقد حسن إسلامها وتعمقت في معرفة دين الله؛ فقرأت القرآن وحفظت منه الكثير، وفي رواية أنها جمعته؛ إن لم يكن كله فأكثره، فهي واعية حافظة مؤمنة متمكنة من أمور دينها. ويكفيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزورها، فهي من النساء المعدودات اللواتي حظين بزيارته عليه الصلاة والسلام، وهو لم يقدرها لمالها ولم يزرها لتمركزها العظيم في المجتمع بل كان يزورها لإيمانها بالله وعقيدتها الراسخة وتمكنها من أمور دينها.

أم ورقه في بدر

في العام الثاني للهجرة، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغزو المشركين في بدر، ووصل النبأ لأم ورقة بنت نوفل، فأبت إلا أن تشارك في الغزو، ولم تمنعها مسؤولياتها في دارها وواجباتها في رعاية أولادها من أن تتحمل واجبا آخر؛ هو واجب الجهاد في سبيل الله. انطلقت أم ورقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنت في أن تشارك في هذه الغزوة، فتضمد جراح المقاتلين وتداوي مرضاهم وتؤمن لهم حاجاتهم وتلبي طلباتهم أثناء المعركة، جاء في الإصابة أنها قالت: يا رسول الله لو أذنت لي فغزوت معكم فمرضت مريضكم وداويت جريحكم فلعل الله أن يرزقني الشهادة، قال عليه السلام: يا أم ورقة اقعدي في بيتك فإن الله سيهدي لك شهادة في بيتك. ومنذ ذلك اليوم لقبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهيدة، ولنلاحظ التوكيد في قوله إن الله والتنكير بقوله شهادة ولم يقل الشهادة. وكان يزورها بين فتره وأخرى ويقول: انطلقوا بنا نزور الشهيدة. 

المرأة السابقة

سابقة في أمور عديدة؛ فهي أول امرأة في الإسلام يؤذن في دارها، وهي أول امرأة تؤم النساء في الصلاة، وأم ورقة تعد السابقة في المدينة، وهي أول امرأة في الإسلام لقبت بالشهيدة، وهي أول امرأة يصلب بسببها عبد وجارية.

يؤذن في دارها

استأذنت أم ورقة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتخذ في دارها مصلى ينادي فيه مؤذن للصلاة، فأذن لها وخصص في دارها مؤذنا لها ولغيرها عند كل صلاة، واستمر هذا الأمر حتى وفاتها، فكانت أم ورقة أول امرأة حظيت بهذا الشرف العظيم. 

ويعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تتمتع به أم ورقة من ذكاء نادر وحافظة قوية ومعرفة بأمور الدين، فأمرها عليه الصلاة والسلام أن تؤم أهل دارها ففعلت، وكانت تؤم نساء بيتها ومن يجاورها بعد أن يؤذن مؤذنها للصلاة، وبقيت تلك حالها حتى وفاتها أيام خلافة عمر بن الخطاب، فهي أول امرأة اتخذت من دارها مسجدا للنساء.

سبب استشهادها

أسنت أم ورقة وكبر أولادها فتفرقوا عنها، وتزوجت بناتها فذهبن لبيوت أزواجهن فأوشك بيتها أن يفرغ من أهلها، وكانت قد اتخذت لنفسها عبدا وجارية يقومان بخدمتها وتصريف شؤونها، ولطيبة قلبها كانت قد دبرتهما، أي وعدتهما بالعتق في حال وفاتها، ووثقت بهما وأحسنت إليهما ما شاء الله لها من الإحسان، لكن الأمر قد طال بالغلام والجارية، ولم تمت أم ورقة سريعا كما كانا يأملان، فتآمرا على قتلها في غفلة من أهلها وخلو دارها ليحظيا بالعتق، فتناولا ثوبا من قطيفة وتعاونا على خنقها وغمها تحت ذلك الثوب حتى ماتت، وفرا آملين بالحرية. وأصبح عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما وكان يسمع من قبل صوت مؤذنها وحركة صلاتها بالنساء تؤمهن، فقال: والله ما سمعت قراءة خالتي أم ورقة منذ البارحة، فأرسل من يستطلع الأمر، لكنه عاد دون أن يأتيه بخبر لأن بيتها كان مقفلا، فشك عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الأمر وذهب بنفسه يبحث عن السبب، دخل الدار فإذا هي مسجاة على الأرض وقد لفت في قطيفة، فقال: الله أكبر لقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث لقبها بالشهيدة. ثم صعد عمر رضي الله عنه المنبر وأعلن في الناس استشهاد أم ورقة، وقال: إن أم ورقة قد غمها غلامها وجاريتها فقتلاها، وأنهما هاربين، وأمر بتعقبهما واقتفاء آثارهما وإحضارهما لينالا عقابهما، فتجند الناس جميعا للبحث عنهما فعثروا عليهما هاربين، ثم جيء بهما إلى عمر بن الخطاب فاستجوبهما فأنكرا بادئ الأمر ثم اعترفا بأنهما اللذان قتلاها، فأكد سيدنا عمر ما قاله عن صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان يقول: انطلقوا بنا نزور الشهيدة.

أم ورقة قدوة وعبرة

قدوة للنساء المسلمات في حسن تعمقها في الدين وتعليمه للنساء حولها سواء كن أهلها أو جيرانها، قدوة في اندفاعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تضيف إلى أمجادها مجدا جديدا هو المشاركة في المعركة آملة بالشهادة. 

وبعد فإن هذه المرأة روت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنها أحفادها، كما روى عنها غيرهم. 

رضي الله عن الصحابية الجليلة وجمعنا بها تحت لواء سيد المرسلين مع الصحابة والأبرار والصالحين. آمين.