إشارات تخص المدونة

Cover Image for إشارات تخص المدونة
نشر بتاريخ

تمهيد

الناظر في مواد مدونة الأسرة بتدقيق وتفحص، والبصير بواقع الناس ومستجداته وما أحدثوه وما أحدث لهم، والخبير بتنزيل المدونة وآلياتها ووسائلها، والمطلع على قضاء الأسرة وفضائه واجتهاد القضاة وحدوده، والمستوعب لما يقع في دهاليز محكمة الأسرة وسردابه… يدرك يقينا أن مواد مدونة الأسرة وهي تواكب موجة التعديل وجلبته لا تنفك عن ثلاثة أمور.

·        قسم ينبغي اعتماده والتثبت به ولا مجال للنظر فيه.

·       قسم هو محل نظر وتقدير.

·       قسم تدعو الحاجة إلى تعديله.

وقبل التفصيل فيما هو محل نظر وتقدير، وما ينبغي تعديله وجب استحضار عدد من الصوى والأمارات المساعدة في سلوك طريق تعديل المدونة وتعبيده، وقد أسميتها إشارات فهي منبهة ودالة كما تنبه وتدل إشارات المرور وقد جعلتها خمسا:

الإشارة الأولى: تعديل القوانين وحدها لا يكفي لإصلاح الأسرة والمجتمع

ينصرف ذهن كثير من الناس ومنهم أهل مروءة وعلم وفكر إلى أن اعتماد نصوص قانونية بديلة عن الحالية يفضي إلى تغيير وضعية الأسرة والمجتمع نحو الأفضل والأصلح، ولطالما استبشر الناس خيرا باستبدال قوانين بأخرى منتظرين رؤية أثر هذا التغيير في واقعهم الملموس، لكنهم أصيبوا بخيبة أمل بمرور الوقت، والخلل ليس في القوانين وصياغتها حتما، فهي مهما بلغت من الجودة والإتقان وانتهت إليه من الدقة والكمال، فلن تغير وحدها الواقع وتحقق المنشود، ولم يثبت قط أن شعبا من الشعوب أو أمة من الأمم ازدهرت وتقدمت وارتقت أعلى المراتب بمجرد سن قوانين جديدة تُستبدل بالتي قبلها، فلا بد من إصلاح وتعديل منظومة متكاملة تشمل وجوبا السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي التعليمي…فحين يحرم أحد أفراد العائلة غيره من حقه في الإرث بالتحايل والتسويف والمماطلة، هل مرد ذلك إلى الصيغ القانونية للمدونة؟ وحين تُشرد الأسرة بسبب وفاة الزوج أو الطلاق والتطليق، هل ننسب ذلك إلى مدونة الأسرة وموادها؟ وهل يمكن أن نسم المدونة بالقصور إذا اعتاد الناس في مناطق معينة أن يحرموا المرأة من نصيبها في الميراث؟

إنها ولا ريب مسؤولية الدولة التي تكفل للمواطنين حقهم في الأمن الغذائي والأمن الصحي والأمن التربوي التعليمي قبل حقهم في الأمن البدني والروحي.

الإشارة الثانية: الدين أصل مسائل مدونة الأسرة وقضاياها

لا ريب أن مواد مدونة الأسرة وأبوابها وأقسامها ترتبط ارتباطا وثيقا بمسائل الأسرة والطفل وقضاياهما كالزواج والطلاق والنفقة والحضانة والولاية الشرعية والإرث والوصية… وهذه المسائل من دين الناس ومرجعيتهم، نص عليها الكتاب والسنة، منها القطعي المجمع عليه ومنها المختلف فيه، وقوانين الأحوال الشخصية هي بعض ما بقي من الأحكام الشرعية التي ما زال الناس يتمسكون بها ويتشبثون بها وسط تدافع شديد بين مرجعيات أخرى، أما مجالات المعاملات وأمور الشأن العام فقد أُحل الحرام وحُرم الحلال.

والاتفاق على المرجعية وسموها مما يسرع الخطى نحو المقصود، ويضيق دائرة الخلاف ويساعد على وضوح الرؤية، فالمرجعية وسموها ليس مجالا للمساومة والتنازل، ولا يتصور بحال إلغاؤها أو تعطيلها أو تجميع بعض الأقوال الشاذة هنا وهناك واعتبار ذلك من المختلف فيه.

والمرجعية إسلام شامل لا يستقيم اختزالها في أحكام ونصوص وقوانين بمعزل عن روح الشريعة ومقاصدها، ولا يستسيغ أن نفصلها عن حياة الناس وما تستلزمه من قيم العدل والحقوق والكرامة والرحمة والتعاون، فالمرجعية مبادئ وأسس يُرى جدواها وأثرها في حياة الناس وواقعهم، وهي بذلك لا تغفل زمانهم ومكانهم وأحوالهم ومآل أفعالهم، وهي متجددة تستلهم الحكمة البشرية شريطة التقيد بالقطعي من النصوص بناء على قاعدة الثابت والمتحول.

الإشارة الثالثة: مفهوم الكثرة في تعديل المدونة

ارتبط سياق تعديل مدونة الأسرة باحتدام النقاش بين المرجعيات المختلفة وأحيانا داخل المرجعية الواحدة، ويسعى بعضهم لتعزيز رؤيته ومذهبه بمفهوم العدد والكثرة، فسمعنا فيما مضى عن العرائض والمسيرات المليونية، ونقرأ اليوم عن الائتلافات بين عشرات الجمعيات والمنظمات، كما استحدثت تحالفات وجبهات، ومؤخرا بدأنا نسمع عن المذكرات وكثرتها وتناسلها… وارتباطا بمفهوم المرجعية التي نعتبرها منطلقا أساسيا لأي حوار راشد، واعتبارا لأهمية الأسرة ودورها في المحافظة على الفطرة وغرس القيم وسط المجتمع، ونظرا لمصلحة الأسرة العليا ومصلحة الطفل الفضلى، نرى أن اعتبار مفهوم الكثرة والأغلبية لا يستقيم في هذا الموضوع خاصة، ولا يمنع ذلك من حوار مجتمعي مسؤول وشفاف يشهد عليه الجميع ودون إقصاء أحد.

الإشارة الرابعة: رسالة العلماء

أُخذ على أهل العلم أن يبينوا للناس ما نزل إليهم من ربهم، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا، وألا يخافوا فيه لومة لائم، ومن هذا المنطلق فمسؤوليتهم جسيمة خاصة وقد وجد من الناس من يدعو إلى إلغاء معلوم من الدين بالضرورة باسم الحرية والحداثة والكونية، وقد سخرت لهم وسائل وإمكانيات كبيرة: مؤسسات ومراكز بحثية وجمعيات وفيدراليات وإعلام متنوع.

فسكوت العلماء ليس حيادا وكلامهم ليس اختيارا، فهم أولى من غيرهم بالحديث في موضوع المدونة: الزواج الطلاق النفقة الإرث… فرسالة العلماء تقتضي أن تكون لهم الأولوية في تدبير ملف المدونة، وأن تكون لهم رؤية تجديدية بما يوافق أحوال الناس وزمانهم ومكانهم دون التعارض مع ما هو قطعي من النصوص، وأن يكونوا وسط الأمة في الأسواق والمنتديات بصيرين بزمانهم كما هم بصيرون بالنصوص وفهمها وتنزيلها، ولن تكون رسالة العلماء تامة وكاملة حتى يحققوا الاستقلالية المادية والمؤسساتية وهذا معدوم حاليا، وقد أسند لهم دور غير مناسب في تدبير المدونة، ونسجل إقصاء عدد من العلماء خارج الدائرة الرسمية المشهود لهم بالكفاءة والعلم والفضل.

الإشارة الخامسة: هل هناك دواعٍ حقيقية غير مباشرة لتعديل المدونة؟

 تعديل القوانين بعد فترة زمنية مطلوب، خاصة متى ظهر موجب ذلك، بتغير الزمان والمكان والأحوال والعادات والأحوال والأشخاص، وهذه قاعدة معتبرة، فكتب الفقه مليئة بالمسائل الجزئية التفصيلية التي نجد للفقيه الواحد فيها أكثر من قول، فيقولون مثلا: له قولان الأول والثاني، أو أفتى في البلاد الفلانية بكذا وفي البلاد الأخرى بقول مخالف. وثبت أن عددا من الصحابة والتابعين قالوا برأي ثم عدلوا عنه إلى غيره لموجب قد يذكرونه وقد لا يذكرونه. ولعل فقه عمر رضي الله عنه غني بالأمثلة، من ذلك منعه المؤلفة قلوبهم من الزكاة مع أن الآية نصت عليهم في الأصناف الثمانية، وينبغي التنصيص أن هذا التغيير لا يشمل ما هو قطعي مجمع عليه، فمراعاة الثابت والمتحول أمر أساسي.

والمدونة الحاليا لها عدد من الموجبات والدواعي تقتضي النظر فيها وتعديلها، فمنها السياسي والمتمثل في ملاءمتها مع الوثيقة الدستورية وهناك الشق العملي القانوني المرتبط بالاختلالات في التنزيل وفي المساطر وتعقيداتها وكذا الموارد الشرية وتأهيلها، وأيضا المرتبط باجتهاد القضاة في عدد من المواد واختلافهم في التقدير والأحكام.

ومن الدواعي الحقيقية: المواثيق الدولية والإملاءات الأجنبية حيث دعت “لجنة وضع المرأة التابع للأمم المتحدة” المغرب إلى ضرورة سحب المغرب لتحفظاته على بعض البنود وكذا الدعوة إلى ملاءمة تشريعية خالية من أشكال التمييز ضد النساء.

ورصدت اللجنة مطالب بعينها ارتبطت بزواج القاصر وتعدد الزوجات وقسمة الأموال المكتسبة أثناء الزواج وأحكام الطلاق والحضانة والإرث. في نفس السياق نجد التقرير الذي أصدره الكونجرس الأمريكي في دجنبر 2021، والمرتبط بقضايا المرأة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والذي رصد حسب تعبيره اختلالات بارزة وجب على المغرب معالجتها، والمتمثلة في وجود قوانين تمييزية بين الجنسين، وارتفاع نسب العنف الزوجي، والزواج المبكر.

والمواثيق الدولية التي تراعي مصلحة الأسرة ولا تتعارض مع المرجعية الإسلامية تقبل ويؤخذ بها.

خاتمة:

1        إصلاح مدونة الأسرة مطلوب لدواعٍ علمية واقعية، مع التنصيص على أهمية سمو المرجعية الإسلامية وثوابت الدين الإسلامي، والاجتهاد فيما يقبل الاجتهاد وفق مقاصد الشريعة وكلياتها.

2        التعديل لا ينبغي أن تحكمه الضغوطات الأجنبية والإملاءات الخارجية.

3        لا بد أن يسبق إصلاح المدونة إصلاح واسع في جميع المستويات يقطع مع الفساد.

4        التربية والأخلاق والقيم من المداخل الأساسية تمس عمق الإنسان وكيانه قبل تعديل سلوكه نحو الخير والصلاح.