أيها المحبون…حل عيدكمǃ

Cover Image for أيها المحبون…حل عيدكمǃ
نشر بتاريخ

تتوالى علينا الأخبار مسترسلة عبر وسائل الإعلام، والرسائل النصية عبر هواتفنا النقالة، مذكرة بعيد الحب ومقترحة هدايا ترقى إلى مستوى مناسبة تفرح العشاق وتلهمهم.

ما أجملها من كلمة إن لم يكن الباعث عليها النزوة العابرة بل حاذيها المشاعر الصادقة التي تنمو في ظل مؤسسة الزواج.

ما أجملها من كلمة لو صدقت بها القلوب، ونطقت بها الألسن في بيئات لا تجد للحرام سبيلا، ولا تعرف لطرق الغواية دليلا، تعف وترقى بالسلوك الإنساني، وتسمو بالعلاقات إلى علياء قول الله الرحيم: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا 1 .

تتزيى الشوارع بلباس أحمر دام وكأنا في حلبة صراع يستشيط فيها المتصارعان غضبا، فيزف أحدهما للآخر بضربات قاضية تصبغ المكان بلون الدم القاني. يتبادل المحبون الورود الحمراء المذكرة بما يعتلج الفؤاد من لواعج العشق والهيام. وينخرطون انخراطا جادا في إحياء العيد وأي عيد؟ العيد الوثني بامتياز، التي تتعدد روايات أسطورته، لكنها تكاد كلها تسند إلى القديس “فالنتان” شفيع العشاق وراعيهم.

تتناسل الاستفهامات في مثل الموقف مستنطقة الألباب، حول حقيقة العلاقة التي من المفروض أن تربط بين ذكر وأنثى؟ وأين ومتى وكيف وما ضماناتها؟

نستمع إلى الوحي الإلهي الكريم ممتنا على بني البشر: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة 2 ،الزوجية عطاء رباني امتن الله به على خلقه.

لنحرر المصطلحات، فما الحب؟ من أجمل ما عرف به، ما ذكره القاضي عياض رحمه الله تعالى في شرح لصحيح الإمام مسلم: وبالجملة أصل المحبة الميل إلى ما يوافق المحب، ثم الميل قد يكون لما يستلذه الإنسان، ويستحسنه كحسن الصورة والصوت والطعام ونحوها، وقد يستلذه بعقله للمعاني الباطنة كمحبة الصالحين والعلماء وأهل الفضل مطلقا، وقد يكون، لإحسانه إليه ، ودفعه المضار والمكاره عنه).

يتحكم عند الأخصائيين النفسيين في النفس البشرية عواطف ثلاث: عواطف دافعة تدفعه إلى الإنتاج وتحقيق الذات، وعواطف رادعة تمنعه من القيام بأشياء مثل عاطفة الخوف، وعواطف التقديس، وهي أعظمها، متمثلة في الحب، إلا أنه الحب بمفهومه الشامل، حب الله تعالى الذي يدفع لطاعته وامتثال أمره، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم الذي يدفع إلى تعظيمه وتوقيره واتباعه، وحب العبادات التي ينهض إليها بنشاط وهمة وتفاعل لا كسل وتثاقل، وحب الوالدين الذي يدفع إلى برهما والإحسان إليهما وطاعتهما في المعروف، وحب الأهل الذي ببعث على إكرامهم وإحسان معاشرتهم…

تقزّم المفهوم في الأذهان حتى صار في الغالب الأعم، مرتبطا بعلاقات العشق والهيام التي تروج لها مسلسلات المائة حلقة ونيف، فانحسرت معاني الحب الراقية الجامعة الشاملة الراقية العالية، لتتحول إلى لذة تسترق عبر محادثات مشبوهة، أو من خلال لقاءات الأخدان في الخلوات المقيتة، من أجل أن يحتفى بها في كل عام اتباعا لنحلة الغالب، وتقليدا لغير المسلمين يحمل على اقتفاء آثارهم شبرا شبرا ونعلا بنعل. هو اغترار بما عندهم وذوبان في طقوسهم بكل انهزامية ونكران لما تأصل في عمق ديننا الحنيف، دين المحبة والسلام.

لا ينكر الدين المشاعر النبيلة، ويعترف بالميل الفطري بين الذكر والأنثى، ولكنه لا يدعهما يعيشان في مستنقعات العشق الحرام بين الأزقة وفي دروب الخيانة استراقا للذة عابرة قد تورث ندامة عُمْر. سما بها إلى قمم العفة والأدب، وأحاطها بسياج من الأخلاقيات، حتى لا يقع المحظور، شجع على المحبة الصافية التي تنمو تحت ظلال المساكنة المباحة.

مطاوعة نزوات العشق وإبعاد العقل من المعادلة، تجعل منه قفزة عاطفية وخيمة العواقب، إن توجت بالزواج فالطلاق الكارثة مآله في الغالب، لأن العاطفة تحكمت في بناء أركانه، فلم تصمد لما لم يتحكم العقل، فهفت النفوس إلى طلاء المظهر وغفلت عن الجوهر. تتبخر أوهام الأفلام وقصص الأحلام، وتجرف أمواج الواقع علاقة حالمة. أما إن كانت خارج حدود الزواج فالتخبط في مكائد الشيطان، ونيل مقت الرحمن، وسوء الختام، تنكشف سحابة العشق الممنوع عن قيس متنمس وليلى ضائعة، وتتحول الأحلام إلى أوهام، وتسفك العفة على نصب زبد الليل الذي تذيبه شمس النهار.

من الحب حتما ما ليس نزوة عابرة ولا طيشا متحكما، منه ما يتجدر في صفاء في قلوب المحبين، يسوسه العقل ويدبر لواعجه الخشية من الله الرقيب، ويسيجه التريث لنضمن حسن الاختيار. روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله، في حجري يتيمة قد خطبها رجل موسر ورجل معدم. فنحن نحب الموسر وهي تحب المعدم. فقال صلى الله عليه وسلم، لم ير للمتحابين مثل النكاح” 3 .

أهمس في آذان المحبين غير المسافحين ولا المتخذي أخدان، أن احرصوا على صيانة المحبة بالكلمة الرقيقة، واللمسة الرفيقة، والنِحلة المعبرة وإن بالوردة الحمراء لونها التي تسر الناظرين، لا تنتظروا يوما في السنة لتعبروا عما يختلج في صدوركم من معاني المحبة الراقية والعاطفة الجياشة، واغرفوا من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم بالمكيال الأوفى، فإنه كان يهيم مودة بمحبوبته عائشة التي أوتي حبها، تلك الحميراء رضي الله عنها التي كانت تبادله حبا بحب، وتسائله بكل رقي عن قوة حبه صلى الله وسلم لها فيقول مطمئنا: “مثل عقدة الحبل” وتذكره: “كيف حال العقدة؟” فيجيب عليه السلام بثقة المحب: “هي على حالها”.

المشاعر الإنسانية السامية تنمو حينما تتعهد بالصيانة والرعاية، ويزيدها الله الوهاب تثبيتا حينما تكون خالصة له سبحانه.

ألا إن باستقرار العواطف تستقر الأسر، ولا تزال الدعوة بخير ما كان الاستقرار الأسري قائما. أما أولئك الجفاة الغلاظ، فأنى لقصور مشاعرهم أن تلامس هذا السمو النبوي والهدي المحمدي.

دمتم سعداء ودامت محبتكم.


[1] سورةالإسراء الآية 32.
[2] سورة الروم، الآية 21.
[3] أخرجه الحاكم والطبراني والبيهقي وغيرهم رحمهم الله.