في أي معركة يخوضها الإنسان، سواء مع نفسه، أو في تدبير حياته وشؤونها، أو مع عدوّ ظلمه وأذله، واغتصب حقوقه وقهره، قد يضعف هذا الإنسان وقد يقوى، فيفكر ويخطط ليقوي موقفه أو ليتجاوز ضعفه، وهذه طبيعته وفطرته التي فطره الله عليها، حيث جعل سبحانه لكل شيء سببا، وعلق النتائج بالمقدمات، سنّة في خلقه، وناموسا من نواميس كونه، لكن مما يدعو للتأمل، ويشد العقل للتفكر، أن تُحَقق نتائج مبهرة مع قلة الحيلة والضعف والإمكانات البسيطة، وأن يكون الفشل ذريعا مع أسباب وإمكانات في قمّة الفاعلية والقوة والحداثة، شيء قد يقف عليه كثير من النّاس من خلال تجارب في حياتهم أو محيطهم، أو حتى على مستوى أكبر من تاريخ الأمم والدول، إن كان لهم مع التاريخ جولات في ممراته، وجلسات للعبرة والعظة والتفكر.
فلنسائل أنفسنا ما السر في ذلك، ما سرّ الانهزام مع الإمكانات الهائلة، وما سرّ الانتصار مع قلّتها، ونحن مسلمون مؤمنون بأنّ للكون ربّا يتصرف فيه بإرادة كاملة كمالا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وحكمة بالغة مقصودة من أفعاله سبحانه، حكمة قد يبيّن لنا بعضها وقد يستر عنّا الكثير منها، اختبارا لعبوديتنا وتسليمنا له في الأمر كله.
إنّ أمّة الإسلام اليوم تعيش أحلك عصورها من تدنّ حضاري، وانهزام نفسي، وتخلّف علمي، وتموضع في آخر القائمة على مستويات عدّة لا تكاد تحصى، مما جعل أعداءها يستبيحون حرماتها ودماءها وخيراتها غير آبهين بعددها وعدّتها، متكالبين عليها بما آتاهم الله من علم وقوّة حين جدّوا واجتهدوا في نيل كل مقدّرات القوّة الماديّة.
وضع يدمي قلب كل شريف غيور على أمته، لكنها سنّة الله في الكون التي لا تحابي أحدا، فتجعل لكل مجتهد مجدّ طالب عامل آخذ بأسباب القوة مَجْدا وسلطانا ولو كان كافرا، ولكل منهزمٍ متخاذلٍ خنوعٍ مثبطٍ خائنٍ لله ولرسوله ضعيفٍ لاهٍ لاعبٍ ذلا وهوانا ولو كان مسلما، عدل إلاهي، وجزاء من جنس العمل.
ومع العدل الإلهي الذي يعطي لمن حقق الأسباب واتبع السنن، هناك إحسان إلهي، ووعد لا يتخلف منه سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين الصالحين، بالتمكين والنصر لمن حقق شروط الإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وأخذ بالأسباب كلها وإن تخلفت عنهم أسباب القوة والكثرة، عباد يتميزون بإيمان صادق، لا يرد عليه شك ولا ارتياب، ويقين في الله لا يتزحزح ولا يضطرب، إيمان ويقين يدفعهم لتحقيق مقتضياته في واقع حياتهم، فلا يبقى عندهم فرق بين الصورة الإيمانية في حسهم والصورة الواقعية من حولهم، وقد وصفهم الله تعالى في قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (الأنفال: 2- 4) فمع الإيمان وحسن التوكل على الله، هناك الصلاة والإنفاق الذي جعلهم مؤمنين حقا تُرفع درجاتهم عند ربّهم ويُغفر لهم ويُرزقون رزقا كريما.
هذه الفئة المؤمنة الإيمان الحق بالله تعالى، المعتزة به، المسلّمة له، التي تتعلق به مسبّبا للأسباب لا بالأسباب وإن اجتهدت في الأخذ بها، جعل الله لها مكانة خاصّة، ووعدها وعودا لا تتخلف لأنه سبحانه لا يخلف الميعاد.
وعد الله للمؤمنين
وردت في كتاب الله تعالى وعود كثيرة منه سبحانه وتعالى للمؤمنين، فوعدهم بالأمن: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (الأنعام: 82) حين أخلصوا إيمانهم لله كان الوعد بالأمن والهداية، ووعدهم بالنجاة ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِين يونس: 103، فكان حقا على الله نجاة المؤمنين من كل كرب وضيق، كما وعد سبحانه وتعالى الفئة المؤمنة بالاستخلاف والتمكين، قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا (النور:55) فبالإيمان الذي يستغرق الإنسان كله، روحه وجسمه وفطرته وسلوكه مع ربه والناس، يتحقق هذا التمكين وهذا الاستخلاف، يقيمون به إرادة الله في خلقه، وعمارة الأرض بأمره، كما أوجب الله تعالى على نفسه نصر المؤمنين وجعله حقا لهم فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ بل اقتضت حكمته سبحانه أن لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (النساء: 141).
معيّة الله للمؤمنين
وقد نقف في كتاب الله تعالى وعبر التاريخ على نماذج ومواقف تحقق فيها النصر والتمكين رغم قلة العدد والعدة، لأن الله وعد ولن يخلف وعده، ولأن من وُعِدوا أخذوا بتلابيب أنفسهم فجعلوها لله وبما في أيديهم من أسباب فحققوها وأنجزوها، ثم أحسنوا التوكل عليه سبحانه، ووثقوا بما في أيدي الله على ما في أيديهم، وكان يقينهم راسخا ثابتا بأن الله لن يخذلهم، وأنه لن يجعل للكافرين عليهم سبيلا.
يقول الحق سبحانه: قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (البقرة 250)، في تفسير ابن كثير: كانت الفئة التي مع طالوت قد استقلّت نفسها أمام جيوش جالوت فأخبرهم علماؤهم، أنّ النصر من عند الله وليس بكثرة العدد والعدّة لأنهم علموا أن وعد الله حق، حينها طلبوا الثبات والنصر من الله فتحقق وعد الله لهم بالنصر رغم قلتهم فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ (البقرة 252)، قتل داوود جالوت في قلّة من جيشه وفي ضعف من عُدّته، هذه سنّة الله في خلقه، من حقق شرط الإيمان وحسن التوكل على الله وأخذ بما في يده من أسباب وكان يقينه فيه سبحانه، كان حقا على الله نصره.
سنّة الله ماضية عبر الأزمان
عبّرت قصص القرآن عن كثير من المواقف والأحداث التي مضت فيها سنّة الله في نصر المؤمنين وإمدادهم بجنود من عنده كما كان الأمر في غزوة بدر التي أخبر المولى عزّ وجل عن نصره للمؤمنين وهم أذلّة: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (آل عمران 123)، فهل كان نصر الله مرتبطا بزمن دون آخر، أو بفئة دون أخرى، أو بأرض دون غيرها، كلّا إنما هو وعد الله الذي يتحقق في كل زمان وكل مكان ومع جميع النّاس عندما تتحقق الشروط المنوطة به، وعبر التاريخ كانت معارك قوية انتصر فيها المسلمون بقليل من العدّة والعتاد، كغزوة اليرموك بين المسلمين والإمبراطورية البيزنطية، وغزوة مؤتة بين المسلمين والروم، والقادسية بين المسلمين والفرس، وحطين بين المسلمين والصلبيين، كل هذه المعارك على سبيل المثال لا الحصر، انتصر فيها المسلمون نصرا مؤزرا، واعتبر بعضها من أهم المعارك في تاريخ العالم.
أي عبرة وموعظة
إن في كتاب الله المقروء والمنظور كونا وزمنا لعِبَرا وآيات، على المؤمن أن يعيها بقلبه قبل عقله، وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (النور 34)، موعظة للمتقين الذين يقرؤون كتاب الله بعين القلب الخاشع المستحضر لمعيّته سبحانه في الأمر كله، وأنّ ما يجري في كونه هو على عينه وبصره وتحت سمعه، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن حكمته جرت وعلت على الأفهام، فاقتضت التسليم له، ومهما بغى أهل الأرض وطغوا فإنهم لن يخرجوا عن طوعه وإرادته، وأنّ الله بالغ أمره، وأمره بين الكاف والنون إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون، وعد سبحانه وهو لا يخلف وعده فقال عز من قائل: وكان حقا علينا نصر المؤمنين (الروم 47) وقال سبحانه قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد (آل عمران 12)، صورة نصر المؤمنين وعدا على الله حقا تقابلها صورة دحض وحشر الكافرين إلى جهنم.
يقينا في الله تعالى أن كل معركة لا بد أن تتقابل فيها الصورتان مشرقتين واضحتين على محك صدق وإيمان المؤمنين وكفر وتكذيب الكافرين، ولنا في غزة العزة عبرة بل عبرا كثيرة، قد جعل الله منها دليلا واضحا على أن معركة الكفر والإيمان لا تحكمها القوى المادية فقط وإنما يحكمها حال الذين يخوضونها توحيدا لله وايمانا به وتوكلا عليه وتسليما له، مع الأخذ بكل أسباب القوة التي بأيديهم تحقيقا لمراد الله في كونه، فبدت الصورة واضحة مشرقة، لا ينكرها إلا مكابر أو خائن، غيرت المعركة الكثير من المفاهيم والرؤى والأوضاع والحسابات، رغم الدمار الشامل والتضحيات العظيمة لشعبنا في غزة، فحجم التغيير الذي أحدثته هذه المعركة لا بد له من ثمن، ولنا في الله ظن ويقين أنه سبحانه وتعالى لن يخذلهم ، وسيجزيهم الجزاء الأوفى في الدنيا قبل الآخرة، وسيجعل لهم عزا وودا وسؤددا، لكنني أريد أن أهمس في أذن كل مسلم غيور على أمته، هل ننتظر نصرا عميما للأمة بما قدّمت غزة ونحن على حالنا نصبح كما نمسي، لا نراجع أحوالنا ولا نسائل أنفسنا والله سبحانه وتعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ضرب الله لنا مثلا بغزة العزة لننهض وننفض عنا غبار الغفلة ونتوب إليه توبة نصوحا، منيبين أوابين أواهين، ولتكون لنا في بطولات أهل غزة وتضحياتهم دروس تنعكس على واقعنا بوضوح، فنقف على أحوالنا كبيرها وصغيرها، حال صلاتنا ومعاملاتنا وصدقنا، حالنا في تحري الحلال والبعد عن الحرام مهما كانت حاجتنا إليه من معاملات ربوية وغيرها، من حرص على استحضار معية الله في الخلوات والجلوات، من إحياء لسنّة المصطفى صلى الله عليه وسلم في واقع حياتنا، من عدل في تقسيم الأرزاق، ونصرة المظلوم والضعيف، ومن إقامة لشرع الله في الأمر كله، فلا نسيء الأدب مع الله ونرجو ما لم نقدم ثمنه بل بعض ثمنه، ونحن على حال لا تستوجب لا النصر ولا المدد من غفلة واختلاط وظلم وأكل حقوق الناس وجهر بالمعاصي وتعد على حدود الله، فلن تخرق السنن، ولن تنصر الأمة نصرا عميما مؤزرا إلا بالرجوع إلى الله وإلى شرع الله، وما كانت غزة إلا موعظة وعظنا الله بها فهل نتعظ لنقوم أم هل نمني النفس ونبقى على ما نحن عليه.