التقيت صديقتي العزيزة التي كلما جلست معها استمتعت كثيرا بحديثها الجذاب عن الفكر والأدب والحياة الدنيا والآخرة. هذه المرة كان موعدنا بعد طول غياب واشتياق في مكان تطل شرفته على البحر، كيف لا ونحن كنا دائما من عشاق هدوء البحر ونسيمه العليل !
بعد حديث طويل عن الأحوال الشخصية والأسرية، توجهت إليها بالسؤال الاعتيادي؛ عما إن كان هناك من جديد لا أعرفه، فكان جوابها مفاجأة غير متوقعة، قالت: أجل؛ تعلمت اليقين في الله من أهلنا في غزة .
رد أدهشني وأثار استغرابي، ودفعني لسؤالها مرة ثانية: وهل كان ينقصك اليقين في الله تعالى حتى يعلمك إياه طوفان الأقصى؟ قلت ذلك وأنا من يعرفها حق المعرفة، فقد كانت ممن تعلمت منهن حب الله تعالى والخوف منه والرجاء فيه، والحرص على موافقة الشرع في كل الأعمال..
أجابتني بثقة بادية: هذا ما كنت أظنه فعلا، حتى جاءت أحداث غزة، وطال الوقت والعدو الصهيوني يضرب بكل طاقته وأذرعه، ورأيت الناس تزداد صبرا وصمودا كلما ازداد ضغط العدوان، دلني حالهم ومقالهم على إدراكهم لما هم فيه من اختبار وابتلاء يشبه ما وقع للأنبياء والرسل على مر الزمان، فعلموا أن الحل في اتباع طريقهم.
علمتني أمهات غزة الصبر، وهن النموذج والقدوة والمثال، بل هن صحابيات هذا الزمان في مواقفهن، كيف يستشهد فلذات الأكباد بالجملة فيحتسبن، بل ويتمنين لو كان عندهم أكثر ليقدموه في سبيل إعلاء الدين والحفاظ على مقدسات المسلمين ! أي يقين هذا، وأي صبر على البلاء من أهل الفداء والعطاء ! تأكدت اليوم أنهن جنود الله في الدفاع عن العقيدة والدين وعن الأمة جمعاء.
لقد استغرب العالم كله صمود الشيوخ والنساء والأطفال، قبل الرجال، أمام كل هذا الطغيان والجبروت والقتل والدمار والتهجير والحرق.. لدرجة أنكِ – وأنت مسلمة – تتساءلين مع نفسكِ: من أين لهم كل هذا الثبات وهذه الثقة في موعود الله؟! بل ويشكرون الله ويحمدونه على اختياره لهم بالرغم من عظم هذا البلاء !
صمود وصبر وقوة تحمل دفعت الكثير من غير المسلمين عبر العالم للبحث في كنه هذا الدين واعتناقه. تأكدت أن المولى، بأهل غزة، يهيئ للعالم أسباب الإنابة إليه بعدما فرط أغلب المسلمين في القيام بواجباتهم الدينية والدعوية، وانساقوا مع النظام العالمي الفاسد المفسد يوجههم كيفما شاء، ويعبث بالعقول والقلوب والأجساد. اختار عز وجل أفضل خلقه للدلالة عليه، حتى أضحى من اليهود أنفسهم من يستنكر بجرأة وقوة فعل الصهاينة.
ثم استرسلت صديقتي في حديثها قائلة: قرأت مرة أن ياقوت الحموي قال في معجمه عن شرح معنى غزة: غز فلان بفلان واعتز به إذا اختصه من بين أصحابه، والله عز وجل اختص غزة عن باقي بلاد المسلمين لتكون بوابة الصبر والصمود والنور والهدى والرشاد والظهور.
صمود غزة بالقدرات المحدودة التي تملكها معجزة وأسطورة هذا الزمان. أهل غزة تعلموا وفهموا عن الله من خلال ما مروا به من سنوات العيش في أجواء العدوان، وأصبحت أنفسهم تتوق للرفعة والحرية ونيل الشهادة في سبيل الله، لأنهم ربوا أنفسهم على القيم والمبادئ الغالية العالية، والجلَد والصبر.
الشخصية الغزية شخصية مكافحة، وللوصول إلى هذه المرحلة من النضج يحتاج المرء إلى بناء نفسه من الداخل ليصنع شخصية قوية قادرة على التعامل مع أقصى الضغوطات، وترويضها على الصبر والرضا بقدر الله تعالى واليقين في موعوده.
أهل غزة اليوم لا يعيشون حياة الطائر الكسيح، بل بالعكس؛ التقطوا الإشارات عن الله تعالى فصدقوه وأخلصوا له، واشتروا آخرتهم بكل ما يملكون.. ولعمري هذا هو اليقين وهذه ثمرته يراها العالم. فاللهم فرجا قريبا ونصرا مؤزرا.