عيدٌ بأيِّ حالٍ عُدتَ يا عيد؟!
ها هو العيد يعود، يطرق أبواب القلوب قبل البيوت، حاملا بشرى المباركين ونفحات السائرين إلى الله عز وجل؛ عيد مبارك في مقصده، حزين في واقعه الحالي. يحمل فداء التضحية الإبراهيمية، ويتضوع بنفحات القرب الرباني، وسجدات العابدين في محراب الطاعة والمحبة. ويُقبل للعام الثاني والأرض التي بارك الله عز وجل فيها تُروى بدماء الأطهار، وتُسقى بقذائف المقاوـمة المزينة بحُداء التكبير؛ مقاومة وحاضنتها تُركوا وحدهم يدافعون بصمود أسطوري عن شرف الأمة وعزتها أمام أعتى أسلحة قوى الاستكبار العالمي.
عيد بين أضحية تُذبح محبة وتقربا إحياء لسنة خليل الله، وأجساد تُباد ظلما دفاعا عن مسرى رسول الله.
فبأي حال عُدت يا عيد؟!
يا عيد، في زمانك هذا، يحتفل الناس في أطراف الأرض، بينما يستمر الكيان الصهيوني في إبادة غزة وسط صرخات الأطفال والثكالى الذين فقدوا كل شيء إلا الصمود.
يا عيد، كيف نضحك ونفرح وقد تحول مصلى العيد بغزة إلى مسرح مجازر؟! كيف نفرح غير آبهين ونُلبس أبناءنا الجديد، وفلذات أكباد فلسطين يُزفّون بالآلاف في الأكفان؟! كيف نهنئ بعضنا بالعيد، ونستمر في ملذات الدنيا وهناك في غزة من لا يجد ماء يروي به ظمأه القديم، ودواء يطهر به جرحه العميق، ولا رغيفا يسد به جوعه الأسود، ولا مأوى ينجو به من نيران العدو المحتل المجنون؟!
يا عيد، جئتنا وأنت شاهد على تخلي الخائفين، وصمت المتواطئين، وتخاذل المتخاذلين، وتطبيع المطبعين، وخيانة القريب قبل البعيد. جئتنا لتفضح قسوة عالم ينظر الدماء تسيل كأنها لا تُرى، ويسمع الاستغاثات وكأنها لا تُسمع. جئتنا لتُذكرنا أن الأضحية ليست أعطية ولا لحما يؤكل ويوزع فقط، بل موقفا يُتّخذ، ووجعا يُحتمل، وكرامة تُسترد، وكلمة حق تُقال، وصرخة غضب، ووقفة بذل ووفاء تُسجّل؛ التضحية اليوم أن نضحي ببعض راحتنا، من أجل من ضحوا بكل شيء، ونقوم بأقل الواجب رفعا للصوت المناصر لهم.
إن ما يعيشه أهل غزة اليوم أعظم محنة من محن الزمان، وامتحان إيماني وأخلاقي؛ امتحان لقيم الأخوة والنخوة والعزة، لصدق “الجسد الواحد” الذي بشّر به المجاهد الأمين سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى» [أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586)]؛ إننا نحفظ الحديث عن ظهر قلب، لكن، من منا سهر؟ ومن منا حُمّ؟ من منا اشتكى؟ ومن منا ناصر وأعلى الصوت؟
إن غزة اختبار مفتوح لمبادئنا، لإنسانيتنا، لضميرنا المعطوب.
في غزة يُكتب المجد، ويُرسم الفجر بآهات الثكالى وأنّات اليتامى، ويُعلن النصر من تحت الركام.
وفي غزة، يُولد العيد بين أنقاض البيوت والمساجد والكنائس، ويُصلَّى على الشهداء بدل أن يُصلَّى بهم.
أيها المجاهدون الصامدون في غزة وكل فلسطين، يا من جعلتم من أرضكم إسراء للحرية ومعراجا للكرامة، يا من علمتمونا أنبل وأشرف معاني العزة، نقولها لكم بقلوب منفطرة وأكباد مكلومة: عيدكم عند الله عز وجل أبرك وأسعد، في الفردوس الأعلى، حيث الأمان والأمن الرباني الخالد، حيث لا جوع ولا خوف ولا ظمأ ولا عطش، هناك تلبسون من سندس وإستبرق، متكئين على أرائك القرب الإلاهي، وتَرِدُون الحوض الشريف، وهناك السعادة والفرحة الأبدية، والحسنى وزيادة…
أما نحن، فواجب وقتنا ألا ننسى، ألا نُطبّع مع الصمت، ولا نركن إلى العجز والعاجزين والظالمين. أن نحمل غزة في دعائنا، وفي قلوبنا، ونغرس هم فلسطين وهموم الأمة والوطن مجتمعة في أفئدة أولادنا، وفي سلم أولويات أجيالنا؛ في دعوة حق نواجه بها هذا العالم المتواطئ. متمثلين قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصْبَحَ وَهَمُّهُ غَيْرُ اللهِ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ، وَمَنْ لَمْ يَهْتَمّ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ» [أخرجه الحاكم في مستدركه، 4/ 354].
اللهم إننا نستودعك غزة وأهلها ومقاومتها، اللهم انصرهم نصرا تُعلي به مجد أهل الحق، وتُخزي به الباطل وأعوانه.
اللهم اجعل عيدهم عيد نصر وتمكين، وعيدنا عيد يقظة وولادة.
اللهم اجعل من آهاتهم وآلامهم فرجا لفجر نصر جديد، ومن جهادهم إنجازا لوعدك الذي لا يُخلف: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئً [النور: 55].