كنت في الحي الذي أقطن فيه وكل جاراتي نتفق على إهداء كل واحدة منا كلما حلت عندها مناسبة (زواج، ولادة، مأتم…) ترسيخا لعادة اجتماعية طيبة وتأليفا للقلوب وإحياء لمعاني الأخوة والتكافل الاجتماعي وحسن الجوار الذي أوصى به الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولكني لاحظت أن إحدى الجارات تتجنب دائما مشاركتنا هذا الأمر، فهمني أمرها وتساءلت عن سبب امتناعها، وقلت في نفسي ربما لا تدرك هذه السيدة فضل هذا الأمر، فقررت أن أخصها بزيارة أقدم لها من النصح ما رأيته واجبا علي، ولكني وجدت مفاجأة لم تكن في الحسبان..
وجدتها بعد التحدث إليها من أطيب خلق الله، وشعرت بحرجها الشديد حين أثرت الموضوع معها، كدت أتراجع عما بدأت فلعل في الأمر ما لا يروى، لكنها بادرتني بقولها: أصارحك جارتي العزيزة لما أعهده عندك من أمانة المجالس أنني أعاني معاناة شديدة مع زوجي في مسألة النفقة، فهو يعتبر نفسه القيم على البيت بما فيه أنا، وحدود واجباته في النفقة الأكل والشرب، بل إن حاجياتي الخاصة وحتى حاجيات الأطفال هو من يقتنيها وبذوقه ومتى رأى هو ضرورة ذلك، ولا حق لي في مناقشة الأمور المادية للأسرة، ولا أعرف عنها أي شيء، ومع هذا الفهم فهو لا يمنحني ما أستطيع أن أتدبر به شأني وحاجياتي الخاصة بدعوى أنه يقوم بالواجب ولا حاجة لي فوق ما ينفق. وهذا هو العائق الأساس في امتناعي عن مشاركتكن ما تقمن به، فمن أين لي بالمال لذلك؟
ذهلت في بداية الأمر لما سمعته ولكن رجعت إلى نفسي لأتذكر أن هذه المعاناة تعم كثيرا من البيوت، وقلت لنفسي إن هذا الزوج – وأمثاله – لا ينقصه بالتأكيد حسن الخلق، وليس الدافع لبخله مع زوجته عدم حبه لها، ولكنها غلبة العادة وثقل الأعراف والجهل بالسنة النبوية الرحيمة الرفيقة التي تعلمنا حسن المعاشرة واللين مع الأهل.. والذوق الرفيع في أبهى تجلياته.
1- فضل النفقة على الأهل
عن أَبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّه ﷺ: “دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في سبيلِ اللَّه، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في رقَبَةٍ، ودِينَارٌ تصدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ علَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذي أَنْفَقْتَهُ علَى أَهْلِكَ” (رواه مسلم).
ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: “إن نفقتك من مالك لك صدقة، وإن نفقتك على عيالك لك صدقة، وإن نفقتك على أهلك لك صدقة، وإنك أن تدع أهلك بعيش – أو قال بخير – خير من أن تدعهم يتكففون الناس” (1).
وعن حمد بن أبي حميد عن المطلب بن عبد الله المخزومي قال: “دخلت على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا بني ألا أحدثك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت بلى يا أمه، قالت: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” من أنفق على ابنتين، أو أختين، أو ذواتي قرابة، يحتسب النفقة عليهما، حتى يغنيهما الله من فضله عز وجل، أو يكفيهما، كانتا له سترا من النار “ (2).
وعن حكيم بن خزام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنى” (متّفقٌ عليه).
فما أجمل أن تتقرب أيها الزوج إلى زوجتك بالتوسعة عليها في النفقة فتكسب قلبها، فهذا من تمام المعاشرة بالمعروف التي يأمر بها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 19]. فطيب خاطرها بما ترضاه في إطار الممكن والمعقول. واعلم أن المودة والرحمة والتساكن مستحيلة بين نفوس تقف بينها حواجز ومشاكل الحياة اليومية، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب المعشر لين الجانب لا يرد من طلبات زوجاته إلا ما كان غير مقدور عليه، فهلا تأسينا به صلى الله عليه وسلم؟
2- البخل انحراف عن السنة
بقدر ما حث الحبيب صلى الله عليه وسلم الرجل على الإنفاق على أهله نجده يحذره من البخل؛ أخرج البزار بإسناد حسن والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: “دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على بلال فوجد عنده صبراً من تمر فقال: “ما هذا يا بلال؟” فقال: تمر أدخره، قال: “ويحك يا بلال! أوَما تخاف أن يكون له بخار في النار؟ أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً”.
ومن البخل أن يضيق الزوج على زوجته في النفقة، وأن لا يجعل لها قسطا من ماله تنفق منه على بعض حاجياتها الخاصة. وإذا كان الزوج هو القيم على البيت بما فيه المرأة، فليس معنى هذا أن يشتري لها كل حاجياتها حسب ذوقه وإرادته ووقت ما شاء، ولا يعني هذا أن لا شأن للزوجة بالأمور المادية للأسرة أو أن ليس لها رأي أو حق في معرفة ما يتعلق به، فتعيش في خانة التهميش حيث لا فكرة لديها عن الدخل الحقيقي للزوج أو ما يوفره أو ما يفكر فيه من مشاريع مستقبلية على أساس أن المرأة ليس لها ما تفيد به خارج إطار شغل البيت وتربية الأبناء. فالمشورة والاستشارة والانفتاح على الآخر هي من الدعائم الأساسية لبناء أسرة متماسكة قوية.
3- ما العمل مع زوج شحيح؟
“جاءت هندٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّم، فقالت: يا رسولَ اللَّهِ إنَّ أبا سفيانَ رجلٌ شحيحٌ، لا يعطيني ما يَكفيني وولَدي، إلَّا ما أخذتُ من مالِهِ، وَهوَ لا يعلَمُ، فقال: خُذي ما يَكفيكِ وولدَكِ بالمعروفِ” (3).
وعن أسماء رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله ما لي مال إلا ما أدخل علي الزبير أفأتصدق؟ قال: “تصدقي ولا توعي فيوعى عليك”، وفي رواية “أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك” [رواه مسلم والبخاري].
هذه الأحاديث وغيرها تعطي للمرأة حقا في مال زوجها، ودون علمه، في حدود المعروف طبعا، وبما يضمن كرامتها إن تنحى هو عن هذه المسئولية.
وهذا لا يعني بحال أن تبذر المرأة مال زوجها، بل عليها أن تتذكر أنها مستأمنة عليه حافظة له؛ “كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته” (متفق عليه)
4- تمام الانحراف
أدهى من البخل ما نلاحظه عند بعض الرجال الذين يعطون لأنفسهم الحق في التصرف في مال المرأة دون رضاها أو تفويض منها، سواء كانت هذه المرأة زوجة أو أختا أو بنتا أو أما، وكيف ما كان مصدر هذا المال؛ إرثا أو وظيفة أو تجارة أو صنعة.. وهذا أبعد ما يكون عن السنة والمروءة.
5- الإحسان متبادل
هل نفهم من كل هذا أن المرأة بعيدة كل البعد عن النفقة وما يليها بحكم أنها غير ملزمة بها، خصوصا إذا كان الزوج معسرا أو غير قادر على الكسب والزوجة قادرة على مد يد العون بأي صورة من الصور، وظيفة أو تجارة أو إرثا أو صنعة؟
عن رائطة امرأة عبد الله بن مسعود وأم ولده، وكانت امرأة صناع اليد، قال: فكانت تنفق عليه وعلى ولده من صنعتها، قالت: فقلت لعبد الله بن مسعود: لقد شغلتنى أنت وولدك عن الصدقة، فما أستطيع أن أتصدق معكم بشيء، فقال لها عبد الله: والله ما أحب إن لم يكن فى ذلك أجر أن تفعلي، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إنى امرأة ذات صنعة أبيع منها، وليس لي ولا لولدي ولا لزوجي نفقة غيرها، وقد شغلونى عن الصدقة، فما أستطيع أن أتصدق بشيء، فهل لي من أجر فيما أنفقت؟ قال: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنفقي عليهم فإن لك في ذلك أجر ما أنفقت عليهم” (4).
وعن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله، ألي أجر أن أنفق على بني أبي سلمة، إنما هم بني؟ فقال: «أنفقي عليهم، فلك أجر ما أنفقت عليهم» (5)
ويزداد ندب المرأة للإنفاق في حال عجز الزوج عن الكسب، أو في حالة وفاة الزوج. وهي بذلك تحقق فضيلتين: فضيلة صلة القربى إلى جانب فضيلة البذل في سبيل الله.
وأخيرا
إلى كل الأزواج: إن الأصل في العلاقة الزوجية أنها مبنية على التكارم والإحسان لينعم الزوجان بحياة أفضل، ويبقى المال وسيلة وليس غاية في حد ذاته، فلا بد أن يسخر كل من الرجل والمرأة على السواء ما يملكان لسعادة وبناء الأسرة، متجاوزين كل أنانية تجعل من حب التملك حاجزا مانعا للتواصل القلبي، ومكدرا لرحلتهما إلى دار الخلود حيث لاهم ولاغم ولا تعب ولا نصب.
(1) عن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه يعوده وهو مريض، وهو بمكة، فقال: يا رسول الله، قد خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد ابن خولة، فادع الله أن يشفيني.
قال: ” اللهم اشف سعدا، اللهم اشف سعدا، اللهم اشف سعدا ” فقال: يا رسول الله، إن لي مالا كثيرا وليس لي وارث إلا ابنة.
أفأوصي بمالي كله؟ قال: “لا”.
قال: أفأوصي بثلثيه؟ قال: “لا”.
قال: أفأوصي بنصفه؟ قال: “لا” قال: أفأوصي بالثلث؟ قال: “الثلث، والثلث كثير، إن نفقتك من مالك لك صدقة، وإن نفقتك على عيالك لك صدقة، وإن نفقتك على أهلك لك صدقة، وإنك أن تدع أهلك بعيش – أو قال بخير – خير من أن تدعهم يتكففون الناس”.
مسند أحمد، مسند باقي العشرة المبشرين بالجنة، مسند أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (حديث رقم: 1440).
(2) مسند أحمد، مسند النساء، حديث أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم (حديث رقم: 26516).
(3) أخرجه البخاري (3825)، ومسلم (1714)، وأبو داود (3532)، والنسائي (5420)، وابن ماجه (2293) واللفظ له، وأحمد (24163).
(4) أخرجه الطحاوي (1/308) وأبو عبيد (1877) وابن حبان (831) وأحمد (3/503) من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنها.
(5) صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر (حديث رقم: 1467).