للكلمة في ديننا الحنيف أهمية كبرى، فقد ترفع صاحبها الى أعلى الدرجات، وقد تهوي به في النار دركات، قال الله عز وجل في محكم كتابه: ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء توتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (إبراهيم، 26-27). وقال صلى الله عليه وسلم “إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات, وان العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوى بها في نار جهنم”.
وقد جعل الله عز وجل الكلام وسيلة من وسائل التعبير عن الذات والتواصل والتخاطب والتفاهم بين الناس… وأمر شرعنا الحنيف بتحري أطايب الكلام وأحلاه وألينه وأعذبه في التواصل بين بني البشر، وجعل طيب الكلام من أساسيات الدين وآصرة من أواصر التآلف بين البشر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عند الإمام أحمد لعمرو بن عبسة: “الإسلام طيب الكلام وإطعام الطعام”، وقال الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله في المنهاج النبوي: (آصرة مهمة من أواصر الصحبة والجماعة والأخوة: البِشر والاستبشار والكلمة الطيبة).
حرص الإسلام على تربية المسلمين على أدب الحديث وطيب الكلام. جاء في كتاب الله تعالى: وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم، إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا (الإسراء، 53)، وروى الطبراني من حديث أسود بن أصرم المحاربي، قال: قلت: يا رسول الله أوصني، قال: “هل تملك لسانك؟” قلت: ما أملك إذا لم أملك لساني؟ قال: “فهل تملك يدك؟” قلت: فما أملك إذا لم أملك يدي؟ قال: “فلا تقل بلسانك إلا معروفا، ولا تبسط يدك إلا إلى خير”.
والكلمة الطيبة هي إما طيبة بذاتها؛ ككلمات الذكر التي نذكر الله بها كقول: لا إله إلا الله، الله أكبر، الحمد لله… أو هي كلمة طيبة بغاياتها؛ وهي الكلام الذي نحاور به الناس ونتواصل معهم به، وهذا النوع فن وذوق وأدب يجب أن يُتعلم، وموهبة يجب أن تصقل في النفس.
وعلى الإنسان أن يطور نفسه في هذا الباب، وذلك بالتمثل بآداب القرآن والهدي النبوي الشريف، وبمراقبته لحديثه وتحري أطيب العبارات وأرقها، لأنه:
– محاسب بكل ما يتفوه، قال تعالى: وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد (ق، الآية 18).
– طيب الكلام أساس من الأسس التربوية وسلوك إيماني يساعد على الترقي في شعب الإيمان.
– بطيب الكلام تتهذب النفوس لتصلح لصحبة الناس ومعاشرتهم، قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ (آل عمران، 159). وروى ابن المبارك في الزهد أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال: (لولا ثلاث ما أحببت البقاء؛ ساعة ظمإ الهواجر، والسجود في الليل، ومجالسة أقوام يَنتقون جيد الكلام كما يُنتقى أطايب الثمر).
– لأن استقامة اللسان من خصال الإيمان، روى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه”. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت” (رواه البخاري ومسلم).
– طيب الكلام قربة وحسنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ” (متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ بَذْلُ السَّلامِ، وَحُسْنُ الْكَلامِ” (أخرجه الإمام الطبراني رحمه الله).
عنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّارَ فَأَعْرَضَ وَأَشَاحَ، ثُمَّ قَالَ: “اتَّقُوا النَّارَ”، ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ كَأَنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: “اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ” (رواه البخاري ومسلم).
– والكلمة الطيبة سبب دخول الجنة، عَنْ عَلِيٍّ كرم الله وجهه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا” فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: “لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى لِلَّهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ” (رواه الترمذي).
لذا سن الإسلام مجموعة من الآداب الاجتماعية الطيبة في التواصل والتخاطب، نذكر منها:
– اختيار أجمل الكلام وأحسن الألفاظ أثناء مخاطبة الناس. قال تعالى: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنْ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (الحج، 24).
– الابتسام أثناء الكلام مع الناس، عن أبي الدرداء قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدث حديثاً إلا ابتسم” (رواه أحمد).
– الكلام بما يدخل السرور للآخرين وتجنب تذكير الناس بأحزانهم وهمومهم… ولكل مقام مقال، فلا نحادث الناس بحزن في أفراحهم ولا بفرح في أحزانهم.
– إيضاح الكلام ومحادثة الناس بقدر ما يفهمونه، قالت عائشة رضي الله عنها: “كان كلام رسول الله كلاما فصلا يفهمه كل من سمعه” (رواه أبو داود)، وقال البخاري: قال علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون).
– لزوم قلة الكلام وتجنب اللغو: قال تعالى في مستهل سورة المؤمنون: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وعن أنس رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه قال: “كان رسول الله يتكلم بكلام فصل لا هزر ولا نزر، ويكره الثرثرة في الكلام والتشدّق فيه”.
– الإيجاز والاقتصاد في الكلام: عن عائشة رضي الله عنها قالت: “ما كان رسول الله يسرد الحديث كسردكم هذا، يحدّث حديثا لو عدّه العادّ لأحصاه” (متفق عليه).
– خفض الصوت وعدم رفعه أكثر من الحاجة، قال تعالى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (لقمان، 19).
– الابتعاد عن التنابز بالألقاب ولو مزاحا، قال تعالى: ولا تنابزوا بالألقاب (الحجرات، 5).
– حسن الإنصات وعدم مقاطعة المتحدث حتى يتم حديثه.
– اجتناب المراء والجدال، لأنهما يسببان الخلاف ويورثان العداوة ويفوتان على الناس الخير، أخرج الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال: “ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أُوتوا الجدل”، ثم تلا قوله تعالى: ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون (الزخرف، 58)، وروى أبو داود عن أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا…”.
هذه بعض آداب دعا إليها الله عز وجل ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، تعمدت إيرادها مؤصلة مفصلة، إن نحن بها تحلينا عشنا وعاش مجتمعنا في بحبوحة المحبة والرفق والسكينة والتآلف، طيبين مطيبين. يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله: (من أين تأتي بالأخوة والرفق والمحبة تحرثها في أرض الأمل إن لم تستوح الكلم الطيب، ولم تتقيد بشريعة الرحمة، ولم تتكئ على مثال سنة الرفق؟) (حوار مع الفضلاء الديموقراطيين، ص 179).