أضواء على معنى الحرية عند الإمام ياسين

Cover Image for أضواء على معنى الحرية عند الإمام ياسين
نشر بتاريخ

يُوَلِّد معنى الحرية) أكثر من سؤال في عالمنا المعاصر، إذ يخبرنا الأستاذ ياسين بأننا في عصر يَصُم نشيد الحرية فيه الأسماع بسبب تهافت الجميع على رفعه، فلا بد أن نقف لنتساءل عن نوع الحرية التي نطلبها لرقابنا المملوكة فُرادى وأمّة. حرية اليمين اللبرالي أم حرية اليسار؟ الحرية السياسية الرأسمالية أم الحرية الاقتصادية في ظل النظام الاشتراكي؟ التحرر ممن؟ التحرر من ماذا؟ التحرر إلى ماذا؟ إن الحرية التي تُرفع شعاراً مطلقاً كثيرا ما تخفي نيات الاستعباد. لا بد للمنهاج أن يحدد الشروط الإنسانية والمادية، الاجتماعية والاقتصادية، السياسية والتكنولوجية، التي تمكننا من التحرر، تمكننا من اكتساب حرية تتناسب مع النداء والاستجابة الإيمانية، تحقق أهداف الشرع في الدنيا عزةً للأمة كما تحقق غاية المؤمن في الآخرة: السعادة الأبدية عند اللّه عز وجل. بعد أن ذكر اللّه عز وجل في سورة البلد الثلاثة الشروط التي يقتضي الوفاء بها اقتحام العقبة)[1].

يجيبنا الأستاذ ياسين أن التحرر المطلوب الذي تحمله سورة البلد: ثلاث مراتب: تحرير الإنسان، وتحرير فكره وعقيدته، وتحرير اقتصاده، وسيأتي الكلام عليها لاحقا.

ولا يكون الإنسان كامل الإنسانية في المنهاج النبوي حتى يكون حرا بالمعنى القرآني للحرية، والحرية عند الأستاذ ياسين تجمع في تعريفها بين قيمتين لم يسبق أن جمع بينهما أحد من المفكرين فيما نعلم، يقول: الحرية مسؤولية، الحرية شجاعة)[2]، فلا حرية مع التهور واللامسئولية ولا حرية مع الجبن والانقباض، لأن الحرية التي لا يقدر صاحبها نتائج مواقفه (من غير فقه للمآلات)، تنتهي بالاعتداء وإيقاع الأذى على الآخرين، والحرية التي لا يملك صاحبها القدرة على أن يقول ويفعل ما ينبغي قوله وفعله في وقته مع ما يتطلبه ذلك من وعي ترمي بالإنسان إلى السلبية، أو بعبارة أخرى لا يكون الإنسان حرا فعليا حتى يتخلص من سلطانين: الهوى الذي يرمي بالكائن الإنساني في درك الحيوانية اللاأخلاقية و الخوف الذي يُفقده القدرة على الإبداع ويَشُلُّ حركته في اتجاه المستقبل.

قد يتصور الإنسان نفسه حرا، وهو في الواقع أسير لأناه وهواه، يقول هذا الغافل: الحرية هي استقلال أنانيتي عن كل وازع أخلاقي أو ديني. لا يعرف “الأحرار” إلا عبودية شهوتهم، يحدها فقط القانون الوضعي الذي يقف مثلَ جندي المرور لكيلا تصطدم “حرية” هذا بحرية ذاك، ولكيلا تفسد شهوة هؤلاء و”مصلحتهم” اللذاتية الاستهلاكية بشهوة أولئك)[3].

وإذا كان الفقر من طبيعته أن يطلب الغنى كما تطلب العبودية الحرية. فإن الحاجة الفطرية تدفع إلى ما يحقق مطمح الكرامة الإنسانية. فإن حصل أن وقف حاجز يمنع المجتمع عن أهداف العدل والحرية، فإن الجواب هو الثورة والانتفاضة لطلب ما فقد، ذلك أنه أعز ما يطلب)[4].

الحرية) في نظرية المنهاج النبوي مثلما هي كل الأفعال والمواقف والتصرفات والميولات الحيوية، مجال معنوي بامتياز لا ينتهي بالدنيا الفانية وانتهى كل شيء. الحرية الفردية، والإنتاج والتوزيع الاقتصاديان، والتحزب السياسي مع المؤمنين، أفعال لا تُقصد لذاتها، ولا لهدف حضاري أرضي. إنما تكسب معناها وشرفها لما تؤدي إليه من مصير بعد الموت)[5].

الحرية) أن تتحرر من قبضة السوق، أن تتحرر من كونك “شيئا” يلهث وراء “أشياء” يستهلكها وتستهلكه، يقضمها وتقضمه.. أن تتحرر من سلطان الاستهلاك الذي لا يتوقف عن قيادتك..

حين يتكلم الأستاذ ياسين عن مصدر قوة المجتمعات الغربية، يشير إلى مقومين، أحدهما مادي نتج عن ثورة صناعية علمية والثاني قيمي معنوي نتج عن ثورة اجتماعية وسياسية، وكلاهما تأسس على ثورة فلسفية: الآلة والحرية.

وهما كما يقول الأستاذ ياسين مقومان للقوة الاقتصادية الاجتماعية السياسية. للآلة جماع الصناعة والعلوم ولوازم ذلك من تمويل وتنظيم. والحرية ديمقراطية في الحكم ومبادرة حرة. لهم غُنْم ذلك وعلينا الغُرْم. )استعمل الاستعمار هذين المقومين الاستعمال الذي رأيناه..لاستنزاف خيرات الأرض واستعباد الإنسان. )واكتساب الآلة والحرية هو القوة الضرورية لنا لكي نتحرر من التبعية والخنوع. اكتساب ضروري كما هو ضروري نقد اللبرالية الاقتصادية والديمقراطية والتصنيع على ضوء التقوى والعدل)[6].

اكتساب الآلة في نظرية المنهاج النبوي يجب أن يكون اكتسابا مصحوبا بوعي شديد، وعي قوامه أن الآلة يجب أن تبقى آلة والإنسان يجب أن يظل إنسانا، لأن طبيعة التوظيف والاستخدام غير المسبوق بالحساسية المطلوبة، قد تتحول معه الأهمية من الغاية في اتجاه الوسيلة، فمع التطور التقني الذي عرفته البشرية في القرون الأخيرة، لأول مرة في التاريخ لا يصبح الإنسان ذا أهمية في مقابل التطور المادي ذاته وما يستتبعه كما تقرر فيفيان فوريست[7].

إن الإجراء النقدي لمفهوم “الحرية الغربي” “السائل” و”المتحيز” ضروري في الفكر المنهاجي، ولهذا نرى أن الأستاذ ياسين لا يتغافل عن تسجيل حقيقة التوظيف الاستعماري للمقومين(الآلة والحرية) ، أو الاستعمار كنظام لتخلف إفريقيا كما يسميه والتر رودني[8]، فاللفظة تكتسي حلّة جمالية أسطورية، وتطن في الآذان طنينا خاصا، وتداعِب في الخيال المثقف آمالا عراضا. فإذا نزلنا من سماء تعَشّقِ الممنوع، وبسطنا أمام العقل المومن هذه الغنيمة العظيمة من غنائم العقل المعاشي، هذه الزبدة الرائعة لتجارب أمم أوربا، وَوَزَنَّا الديمقراطية بمعيار إسلامي، وجدنا أنّها لا تغطي جوانبُ الحكمة العملية فيها قارَّةَ الجهلِ المخيف بالغاية التي جيء بالإنسان لتحقيقها في الحياة)[9].

صورة فلسفية مركبة في توصيف محدودية الحكمة العملية التي تحملها فكرة الحرية عند قوم يعيشون في ما يشبه أرضا مظلمة، ظلمات بعضها فوق بعض (النور:40)، ذلك أن سؤال الوجود الذي يمنح الضوء في المجاهل منطفئ، والظلام يبعث على الخوف، يمنع من حصول الطمأنينة والسلام الداخلي.. ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور“(النور:40).

يعقد الأستاذ ياسين مقارنات دقيقة بين مجتمعات شرقية متأخرة وأخرى غربية متقدمة، ويقر وهو يتحدث عن مركزية الحرية في المنظومة الديمقراطية بأن أحد أهم الثغرات فيها سؤال الغاية من وجود الإنسان، سؤال لا محل له من إعراب المنظومة المنسقة، حقيقة لا ينكرها المنهاج حين يشهد أن من مزاياهم الحرية، ثم الحرية، ثم الحرية،.. لكنهم عن سؤال الآخرة والغاية غافلون.. حكمة عملية يصاحبها جهل مخيف بالمصير والغاية والرسالة.

في الوقت الذي تحصنوا فيه ضد الاستبداد البشري عبر تاريخ طويل من المعاناة والصراعات والتدافع السلمي والدموي، استطاعوا أن يبنوا نظاما يحتكمون إليه قوامه الانضباط واحترام الواجبات، وتقدير العلم، من مزاياهم العلوم، والجد في العمل، والضبط في العمل، والكفاءة في العمل. من مزاياهم أن العقلانية العلومية التنظيمية تسيرهم، بينما تسيرنا المزاجية والارتجال. يسيرهم التخطيط وسبق الأحداث وتوقع نتائجها، بينما ننام حتى يفجأنا الواقع بالكوارث. من مزاياهم التنظيم واليقظة. من مزاياهم الديمقراطية التي تتحول إن استوردناها مهزلة، ومهرجانا فلكلوريا، وتجارة في الأصوات، وتزويرا وغشا )[10].

من جوانب نقد مفهوم الحرية في الشق الاقتصادي، والتي حملتها الفلسفة الرأسمالية أنها لا تقف عند حد رغم وجود قوانين. ولولا المنافسة وحقائق السوق التي تحد من غلوائها لبرزت وحشا على حقيقته مكشر الأنياب على قارعة الطريق )[11].

إن منطق الداروينية الاقتصادية الذي يحدد مفهوم الحرية الرأسمالية جعل دين الأقوى يتلخص من وراء نفاق القانون والحرية وحقوق الإنسان في اقتصادية سوقية حولها يدور كل شيء. الهوية الحضارية للغرب المسلح المتخم تتبخَّر شيئا فشيئا، ويفقد شيئا فشيئا كل معنى لوجوده دُولا وأفرادا غير وظيفته الاستهلاكية الأنانية المستحوذة على خيرات العالم، المتربصة بكل من يصمد في وجه الغرب )[12].

ولهذا ليس الخلاف بين مفهوم الحرية) في الاقتصادين (الإسلامي وغير الإسلامي) خلافا من حيث التطبيقات العملية الجزئية ، بل هو خلاف فلسفي في الأسس والغايات، خلاف يعكس رؤيتين معرفيتين نهائيتين متناقضتين، فـالاقتصاد الحر، يقول الأستاذ ياسين نعني به اقتصاد العبد السائر على قانون ربه الذي حدد الحلال والحرام، والواجب والحق، ونظام الملكية والميراث، وحقوق الأجير والشريك، وحق الله في المال، ومصرفه للبائس والسائل والمحروم، وحث على السعي والنشاط في الكسب، وحذر من الاغترار بالحياة الدنيا والمتعة الدوابية. فإذا اختار الإنسان داخل المجتمع الإسلامي ألا يدين بالإسلام، فالإسلام يضمن حريته الكاملة في التصرف داخل حدود العبودية لله لا خارجها. وإن تبين للجماعة أن الإنسان الفرد في المجتمع الإسلامي سفيه لا يستحق الحرية حجر عليه كما يحجر على الصبي غير المسؤول. وإن كان الإنسان الفرد في المجتمع الإسلامي اختار أن يكون عبدا لهواه، مستهترا بأحكام الرب جل وعلا، سلبت منه تلك الحرية الاقتصادية والسياسية وأقيم عليه الحد والتعزير. )الاقتصاد الحر بالمفهوم الرأسمالي يعني حرية الغاب، وأخلاق المنافسة الغابوية، والربا، والاحتكار، وظلم الشعوب، واستعباد العامل، ودرجه في عداد آلات الإنتاج، وجعل الإنسان دابة تكدح وتستهلك. وتعني الكلمة في الإسلام نقيض كل ذلك دون أن يكون في ديننا ما يبيح للدولة أن تحتكر النشاط الاقتصادي، ولا ما يبيح السيطرة السياسية بغير حق. )ليكن هذا واضحا في أذهاننا التي ألفت أن ترى في الرأسمالية نموذج النظام الحر، وفي الاشتراكية نقيضا له. الاقتصاد الإسلامي حر بمعاني الحرية الغائية المقيدة هنا في الدنيا بقيود الشرع )[13]. هكذا يفكك الأستاذ ياسين مفهوم الحرية الاقتصادية من خلال نموذجين معرفيين مختلفين منبها لخطورة الاستسلام للتشابهات السطحية دون الالتفات لتفاصيل الجذور والأصول.

الحرية في المرجعية الرأسمالية ذات أصول علمانية تنكر أية مرجعية غير مادية، ومن هنا فالحرية الرأسمالية لا تلقي بالا للفقراء والمحتاجين، بل تعتبر الفقراء في العالم الغربي وشعوب آسيا وإفريقيا هم أنفسهم الذين أثبتوا أن مقدرتهم على البقاء ليست مرتفعة، وعليه فهم يستحقون الفناء أو على الأقل الخضوع لسيطرة وحكم الأثرياء ولحكم شعوب أوربا الأقوى والأصلح، فالعملية هي تنافس في غابة لا ترحم، ولا مكان فيها للتعامل الأخلاقي، وفي الصورة المجازية “العالم السوق” التي يتم الإصرار على تبنيها وترويجها، يمكن أن نقرأ العديد من الدلالات التي تذهب بالإنسان في هذا العالم إلى أن يصير “شيئا” و”بضاعة”، ويدخل عمليات التسليع في “بورصة الإنسانية” الحديثة.إنه عالم بارد وقفص حديديIron Cage يباع فيه كل شيء، ويشترى فيه كل شيء على حد تعبير ماكس فيبر[14]، والقيمة الوحيدة التي ستتربع على عرشه هي قيمة “المال الشيلوكي”، أو “المادة” والتسلع، فيقاس الرجل بما يملك لا بما يعرف، وتقاس المرأة كذلك ومثال بما تصله تسعيرتها_كما يقول المسيري_ في سوق المزايدات في النخاسة الجديدة عبر الإشهارات والوصلات الإعلامية وعروض الجنس والإثارة[15].

[1] – ياسين، عبد السلام. مقدمات في المنهاج، م.س، ص62.

[2] – ياسين، عبد السلام. الشورى والديمقراطية، الدار البيضاء: مطبوعات الأفق، ط1، 1996، ص 89.

[3] – ياسين، عبد السلام. العدل،م.س، ص168.

[4] – ياسين، عبد السلام. الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية، ط1، 1987، ص6.

[5] – ياسين، عبد السلام. مقدمات في المنهاج، م.س، ص63.

[6] – ياسين، عبد السلام. التنوير، م.س، 1/104.

[7] – Forest, Viviane, L’horreur Economique, Fayard,1996, p193.

[8] – والتر رودني، أوربا والتخلف في إفريقيا، ترجمة أحمد القصير، ع132، الكويت: سلسلة عالم المعرفة، 1988، ص267.

[9] – ياسين، عبد السلام. الشورى والديمقراطية،م.س، ص 44.

[10] – ياسين، عبد السلام. محنة العقل المسلم،م.س، ص104.

[11] – ياسين، عبد السلام. في الاقتصاد، الدار البيضاء: مطبوعات الأفق، ط1، 1995، ص115.

[12] – ياسين، عبد السلام. التنوير،م.س، 1/86.

[13] – ياسين، عبد السلام. في الاقتصاد، م.س، ص76

[14] _ القفص الحديدي مفهوم في علم الاجتماع عرفه ماكس فيبر، ويشير إلى زيادة العقلنة في الحياة الاجتماعية، وبخاصة في المجتمعات الرأسمالية الغربية. ويقع الأفراد أسرى في النظم القائمة على الكفاءة والحسابات العقلانية. كما وصف فيبر بيروقراطية النظام الاجتماعي بأنها “ليلة قطبية جليدية ظلماء”.

[15] _ المسيري، عبد الوهاب. اللغة، القاهرة: دار الشروق، 2001، ص 56.