أسماء تألقت في سماء بدر

Cover Image for أسماء تألقت في سماء بدر
نشر بتاريخ

كم كان عظيما ذلك اليوم الذي منح الله فيه للثلة المؤمنة بقيادة مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم شرف بدء جهاد السيف، بعد أربع عشرة سنة مضت في جهاد الصبر وجهاد الكلمة.

كم كانت مباركة تلك الأرض التي وطئتها أقدام المصطفى صلى الله عليه وسلّم والذين معه، وتشرّفت بنزول الملائكة تقاتل في صفّ المؤمنين.

في سماء بدر أشرقت شمس فجر جديد، وجاد المولى الكريم على المستضعفين بنصر مبين أربك جميع الحسابات وأرهب الأعداء. فكثرة الأعداد ووفرة العتاد وأهبة الاستعداد؛ كلّ هذا لم يكن كافيا لهزيمة قلّة آمنت بالله حقّ الإيمان، وأيقنت حقّ الإيقان، واتخذته وكيلا.

ولئن كانت الأفضال الربانية قد شملت كلّ مؤمن حضر، وغشيت الرحمة الإلهية الملائكة والبشر، وجاد الملك الوهاب بما ليس على البال خطر؛ “اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ” 1، فإنّ سماء بدر تألقت فيها بعض الأسماء كأنّها درر:

1. المقداد بن عمرو المعروف أيضًا بـ”المقداد بن الأسود”

أرأيتم ذاك الرجل الآدم الطويل، العظيم البطن، الكثيف الشعر، الواسع العينين، المقرون الحاجبين، صاحب اللحية الحسنة… ذاك هو المقداد بن الأسود رضي الله عنه؛ أحد الفارسين اللذين خرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة بدر لم يخرج معه سواهما.

هو أول من عدا به فرسه في سبيل الله.

هو سابع سبعة جاهروا بإسلامهم، وأعلنوه، حاملًا نصيبه من أذى قريش ونقمتها في شجاعة الرجال، وغبطة الحواريين.

وفي بدر تألق نجمه، ووقف موقفا بطوليا جعل سيدنا عبد الله بن مسعود يقول: “شَهِدْتُ مِنَ المِقْدَادِ بنِ الأسْوَدِ مَشْهَدًا، لَأَنْ أكُونَ صَاحِبَهُ أحَبُّ إلَيَّ ممَّا عُدِلَ به” 2.

لقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “أشيروا عليَّ أيها الناس”. يقولها ويكرّرها. فتكلّم سيدنا أبو بكر وبعده سيدنا عمر -رضي الله عنهما- وأحسنا الكلام، لكنّ النبي عليه الصلاة والسلام ما زال يلحّ قائلا: “أشيروا عليَّ أيها الناس”. وهنا قام وقال: “يا رسول الله، لا نَقُولُ كما قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقَاتِلَا، ولَكِنَّا نُقَاتِلُ عن يَمِينِكَ، وعَنْ شِمَالِكَ، وبيْنَ يَدَيْكَ وخَلْفَكَ” 3. يقول سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “فَرَأَيْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أشْرَقَ وجْهُهُ وسَرَّهُ” 4. إنّه عضو مهاجر باع روحه لله واسترخص العمر الفاني في سبيله، لا يتوانى ولا يتكاسل، ولا يتقاعس ولا يتخاذل. عرف الطريق وأحبّ الرفيق، ألا فليسلم المصحوب الأعظم -صلى الله عليه وسلم- ولتعش الدعوة وليمت المقداد.

ولم يمت المقداد -رضي الله عنه- في غزوة بدر، بل حاز عظيم النصر، وعاش بعدها زهاء الثلاثين سنة يخدم دعوة الله بكل تفان، وها هو ذا يعيش بيننا إلى الآن وسيبقى ذكره أبد الدهر.

2. سعد بن معاذ

كَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللَهُ عَنْهُ- رَجُلاً أَبْيَض، طَويلاً، جَمِيلاً، حَسَنَ الْوَجْهِ، جميلَ العينين، حَسَنَ اللِّحْيَةِ 5، بادنا. سيدا من سادات الأوس، أسلم قبل ثلاث سنوات من غزوة بدر على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه، فلمَّا أَسْلَمَ وَقَفَ عَلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: “يَا بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ! كَيْفَ تَعْلَمُوْنَ أَمْرِي فِيْكُمْ؟ قَالُوا: سَيِّدُنَا فَضْلاً. قَالَ: فَإِنَّ كَلاَمَكُم عَلَيَّ حَرَامٌ، رِجَالُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ، حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُوْلِهِ. فمَا بَقِيَ فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ رَجُلٌ وَلاَ امْرَأَةٌ إِلاَّ وَأَسْلَمُوا. فَكَانَتْ دَارُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ أَوَّلُ دَارٍ مِنَ الأَنْصَارِ أَسْلَمُوا جَمِيعًا رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ. وَحَوَّلَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُصْعَبَ بْنُ عُمَيْرٍ وَأَبَا أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ إِلَى دَارِهِ فَكَانَا يَدْعُوَانِ النَّاسَ إِلَى الإِسْلامِ فِي داره” 6.
ومع أنّ سعدا كان حديث عهد بالإسلام، إلا أنّه ما إن سمع النبي صلى الله عليه وسلم – وقد بلغه خبر فرار العير وقدوم النفير في بدر – يكرّر قوله: “أشيروا عليَّ أيها الناس” حتى نطق قائلا: “والله لكأنَّك تريدنا يا رسول الله؟”، فقال مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أجل”، فقال سعد: “فقد آمنَّا بك، وصدَّقناك، وشهدنا أنَّ ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السَّمع والطَّاعة، فامض يا رسول الله لما أمرك الله. فوالذي بعثك بالحقِّ، إن استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما يتخلَّف منَّا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غدًا، إنَّا لصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ عند اللِّقاء، ولعلَّ الله يريك منَّا ما تقرُّ به عينك، فسِر بنا على بركة الله” 7.                                                                                     

عضو نصير، للسيادة غير أسير، على خطى ثابتة نحو الجنان يسير. لا يخون العهد، ولا يُخلف الوعد، يفخر بأنه لله عبد، فلتمض بهم يا رسول الله إلى المجد.

شاب في الرابعة والثلاثين من عمره، يسترخص روحه في سبيل الله، ويمضي نحو الشهادة على بركة الله.

ألا فلتسمع الدنيا عن الرجال، حقّ الرجال.

ثمّ إنّ سعدا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل بداية الغزوة فقال: “يا نبي الله، ألا نبني لك عريشا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام، يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك”  8

سجّل أيها التاريخ، هؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، هؤلاء هم الرجال الذين أحبّوه واتبعوه، نصروه وما خذلوه.

هؤلاء هم الرجال الذين كانوا مع البدر في غزوة بدر فآتاهم الله -على قلّتهم- عظيم النصر.

3. عمير بن الحمام

كان واقفا هناك في الصفّ حينما سمع النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: “قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُها السَّمَواتُ وَالأَرْضُ” 9. لم يتمالك نفسه حتى قال: يا رسول الله، جنة عرضها السموات والأرض؟ فأجابه النبي صلى الله عليه وسلّم: “نَعَمْ”، فقال: “بخ بخ!”، فقال له مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم: “مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِ بَخٍ بَخٍ؟”، قال: “رجاء أنْ أكونَ من أهلها”، فقال له سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم: “فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا”. وهنا طارت الروح شوقا إلى بارئها، وأضحت الحياة الدنيا حاجزا يجب اجتيازه في أقرب لحظة. فأخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِن قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ منهنَّ، ثُمَّ قالَ: “لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حتَّى آكُلَ تَمَرَاتي هذِه إنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ” 10 فرَمَى بما كانَ معهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَ المشركين حتَّى قُتِلَ. فكان أول شهيد في غزوة بدر.

إنّه عمير بن الحمام الأنصاري الخزرجي، عضو نصير، لم يمض على إسلامه إلا ثلاث سنوات، لكنّه مُلئ إيمانا إلى مُشاشه، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول له: “فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا” رأى أن لم يبق بينها وبينه إلا ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، فارتمى بين أحضان السيوف يقارعها لا يرى فيها الموت بل يرى فيها الحياة. ألهب حماس أصحابه بجميل قوله، وصِدْق فعله، وحُسْنِ بذله. وقدّم روحه الغالية مهرا لبغية سامية.

أما إنّ الشأن ليس في طول مدّة الانتماء، ولكنّ الشأن في القدرة على البذل والعطاء. وإعطاء برهان الصدق في السرّاء والضرّاء.

4. عمير بن أبي وقاص

أرأيتم ذاك الفتى الصغير ذو الستة عشر ربيعا، الذي يتوارى عن الأنظار، ويحتجب بين الصفوف عن الأبصار، لئلا يراه سيد الأخيار وإمام الأطهار. ذاك هو عمير بن أبي وقاص، أخ سعد رضي الله عنهما.

ويرتاب سعد من أمره، فيدنو منه قائلا: ما لك يا أخي؟ فقال: إني أخاف أن يراني رسول الله  صلى الله عليه سولم فيستصغرني فيردّني، وأنا أحبّ الخروج، لعل الله يرزقني الشهادة 11.

وبالفعل استصغره مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وردّه رحمة به وخوفا عليه، لكن الصبي أخذ يبكي بكاء مريرا حرصا على طلب الشهادة، فأشفق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأذن له.

وكم كانت فرحته كبيرة، وكم كانت سعادته عظيمة…

ذاهب إلى حتفه كأنّه ذاهب إلى حفل زفافه، وإنه فعلا لحفل زفاف، وإنهن لحور عين ينتظرن.

لقد أسلم عمير يوم أسلم أخوه سعد على يد الداعية العظيم أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وتربى داخل الجماعة المؤمنة وهو برعوم، ثمّ ها هو ذا اليوم في صفوف الشباب قد كملت خصاله العشر وبلغ ذروة الأمر وسنامه وتأهل للجهاد في سبيل الله.

صبي قد تفتحت وردته، وأينعت ورقته، واشتدّ حديثا عوده. ليس في وجهه شعرة واحدة. عوض أن يذهب مع الأقران ليلهو ويلعب، ها هو ذا يسأل النبي صلى الله عليه وسلّم ملحّا في الطلب، راجيا أن ينال أعظم الأرب. سعيدا بتقديم روحه فداء لدعوة الله ونصرة دين الله.

وها هو ذا سيدنا سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه يعقد لأخيه عمير حمائل سيفه من صغره.

ويدخل الصبي ساحة الوغى ويقاتل كالأبطال فيأتيه عمرو بن عبد وُدّ العامري -ذو الشهرة والصيت- فلا يرحم غضاضة عظمه ولا طراوة جسمه، ولا يلتفت إلى صغر سنّه، فيرديه قتيلا، ويصعد عميرا إلى ربّه شهيدا.

أي نوع من الفتية كان هؤلاء؟

أيّ ريح هبّت عليهم، بل أي روح نقية حملتهم، فانتقلت بهم من مراتع الغفلة إلى روضات الذكر، ومن ظلمة السفاسف إلى أنوار المعارف، ومن حمأة المخازي إلى سماء المعالي؟

أما إنهم تلاميذ المصطفى صلى الله عليه وسلّم، خريجو دار الأرقم بن أبي الأرقم، سامقو العزائم والهمم، لا تغريهم الدنيا الفانية ولا يغويهم دينار ولا درهم، لا يخافون في الله لومة لائم ولا يبيعون الذمم. هؤلاء من باعوا فانيا بباق فاقتحموا العقبات وتربعوا على عرش القمم.


[1] رواه البخاري (4890) ومسلم (2494) عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
[2] رواه البخاري عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[3] رواه البخاري عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[4] رواه البخاري عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[5] الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ3، ص321.
[6] الطبقات الكبرى لابن سعد، ج3، ص321 – سيرة ابن هشام، ج1، ص280.
[7] رواه الطبري في تفسيره (11/41)، قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (3/261): له شواهد. و هو في سيرة ابن هشام جـ1صـ615.
[8] سيرة ابن هشام، ج1، ص621.
[9] رواه مسلم عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه (1901).
[10] رواه مسلم عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه (1901).
[11] الطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص 150.