أسس الاستقرار الأسري والدعوي

Cover Image for أسس الاستقرار الأسري والدعوي
نشر بتاريخ

توطئة

بعث الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم للناس بالهدى ودين الحق، داعيا وهاديا وبشيرا ونذيرا، وحاملا للإنسانية جمعاء خيري الدنيا والآخرة. ورسم سبحانه وتعالى للناس معالم وحدد لهم ضوابط، وأسس لهم حدودا، في معاشهم وعباداتهم وعلاقاتهم الخاصة والعامة، فرفع من قدرهم وكرمهم على باقي المخلوقات بما التزموا من هذه المعالم والضوابط والحدود، وبما رضوا من شرعه القويم وفهموا من ذكره الحكيم، يقول الله تعالى: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا [سورة الإسراء، 70].

ولما كان أساس الحياة الإنسانية هو الاجتماع والتآلف والترابط، لتحقيق العبودية التامة لله، فإن الأسرة كنواة للمجتمع قد حظيت بكل العناية من لدن الإسلام، وأولاها الرسول الكريم رعاية واهتماما، إعلاء لها وتأكيدا على دورها الخطير في حياة الناس، إذ على صلاحها يتوقف صلاح الأمة، والعكس صحيح. ولبناء أسرة متماسكة لها دور الحسم في الرقي والسمو والتأثير الإيجابي في مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدعوية، يغدو الاستقرار الأسري مدخلا للاستقرار الدعوي ومؤثرا فيه.

ونقترح من باب المدارسة بعض الأسس التي تسهم في هذا الاستقرار ومنها:

1- المحبة

الأساس المتين الذي تنبني عليه الأسرة وترتقي وتسمو وتدوم عشرتها وتبقى، والمحبة في أحلى صورها تكون بالله وفي الله، فرباط الأخوة والتحاب في الله هو الطاقة التي لا تغلب. وعلى جدار المحبة  تتكسر المشاكل، ومن دفئها تتذلل الصعاب، ويغدو للحياة معنى عميقا. وإنما المحبة الخالصة هي التي يُرجَى لها أن تنمو بعد الزواج فتلتحم بلحام الرحمة والمودة والمخالقة والصبر [1].  فهي ليست نزوة عابرة، أو رغبة جامحة.

ويرشد الإمام رحمه الله المرأة المؤمنة إلى بذل المحبة إذ يقول: “تنفق المؤمنة من كنوز المحبة، واحتياطي المداراة، وملطفات الأجواء بالخدمة واللياقة واللباقة، ومنْجِدات التحمل والصبر. وصْلُ ما أمر الله به أن يوصل من عُرا القرابة إصلاحٌ في الأرض، وإصلاحٌ للعمل. لا تأْلو المؤمنة جُهداً في تلافي ما يفصل ويقطع ويوحش” [2].

وكما هي ناظمة من النواظم الثلاث في العمل التنظيمي للجماعة، وسلمه إلى جانب الطاعة والنصيحة والشورى، يسعى بها الزوجان في خضم الحياة زادا تتقوى به علاقتهما ويشع منهما نورها يحضن الأولاد والأقارب والأباعد. يقول الإمام رحمه الله: “وفي الأسرة ينسجم الدين والخلق والسلطة الأبوية الأمومية في حضن المحبة لتتألف عناصر التربية المتكاملة” [3].

2- التدرج والتؤدة

من أسس الاستقرار الأسري وقواعده التدرج والتؤدة والصبر، فهي خصال حميدة بانية ومؤثرة في الوصول إلى المرامي والغايات، وفي تذليل العقبات وتجاوز الصعوبات، يورد الإمام المجدد حكاية لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز مع ابنه عبد الملك يدعوه إلى التعجيل بالإصلاح وقد عمل عليه عمر بالتدرج: “كانت الأمراء من بني أمية يكيدون لابن عمهم عمر ويعدون العدة لإسقاطه كراهة لما يصلح من شأن الأمة وما يرد من ظلامات ارتكبها جبابرة الملوك من قبله. ويستحثه ابنه الصالح عبد الملك للإسراع في الإصلاح قائلا: “مالك يا أبت لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أُبالي لو أن القُدور غَلَت بي وبك في الحق!”.

فتى لا يخاف الكيد المحيط ويستعجل، فيجيبه الرجل الكامل قائلا: “لا تَعْجل يا بني. فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة. وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة، فيدعوه جملة، فيكون من ذا فتنة” [4].

ويعلل هذا التدرج والتؤدة والصبر بقوله: “رتَّبَتْ قدرة الله العزيز الحكيم في الآفاق وفي الأنفس أن النتائج لا تأتي قبل المقدمات، وأن الصيف لا يأتي بالثمرات وأنَّ الزروع لا توتي حصيدها قبل مطر الشتاء وشمس الربيع، وأن الناس لا يستجيبون لداعي الله ولا يدخل الإيمان في قلوبهم ولا تتألف صفوفهم إلا مع الوقت والصبر وطول المعاناة. من سنة الدعوة التدرج في البناء، وعامل الوقت الذي تدل عليه «حتى» أساسي في القضية. وما وَسِعَ أمةَ الإسلام في مرحلة بنائها الأول يسعُها، بل لا يسعُها غيره، في مرحلة إعادة بنائها. تدرجت النبوة والخلافة الأولى بالناس من جاهلية سائبة لإسلام متمكن، وكذلك تتدرج إن شاء الله الخلافة الثانية بالمسلمين من غثاء شتيت إلى وحدة قائمة، ومن إيمان بال خَلقٍ إلى إيمان متجدد، ومن كَمّ قاعد إلى جند مجاهد” [5].

3- الرفق والرحمة

من الأسس العظيمة لبناء أسرة مستقرة الرفق والرحمة، بما يكفلانه من تجانس وانسجام بين أفراد الأسرة بنوعيها الطينية والدعوية، لأن تأسيس الأجيال يتطلب التربية على قيم الخير ومكارم الأخلاق، ونحن كما نعلم نعيش في عالم مليء بالفتن والأهوال والاضطرابات لا يكاد ينجو من وطأتها أحد، وللأم خاصة هذه المزية داخل الأسرة، يقول الإمام المجدد رحمه الله: “القلب الرحيم لا شك، وحس المؤمنة المجبولة على تعهد الحياة وبناء الإنسان محمولا في البطن، وموجعا من أجله في الوضع، ومُرْضَعا مَحْنُوّاً عليه، ومفطوما مفصولا برقة، وصبيا يلعب في الحجر، وغلاما مشاكسا، ويافعا ثائرا، وزوجا بعد وأبا. كل ذلك يطلب من المعاناة والصبر واللين والحب والرفق ما تقدُره المرأة حق قدره، فتسمعه من الوحي، وتخزنه لنا ذاكرتها. فللمؤمنة في فقه التغيير وتفقيه الرجال بأسلوبه المرتبة الأولى. وكم أمامها من معاناة لتقنع الشباب المتحمس أن إكراه المتبرجات على ستر شعرهن إنما يبلد الشعور وينفر القلوب”[6]. وهي  في ذلك تستحضر قوله تعالى: فَبما رحمة من الله لِنْت لهم. ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك. فاعف عنهم واستغفر لهم وشاوِرْهم في الأمر. فإذا عزمت فتوكل على الله. إن الله يحب المتوكلين [آل عمران، 159].

وكذلك الشأن بالنسبة للحاضن والحاضنة في باب الدعوة، يحتاجان إلى الرفق والرحمة وحسن الإنصات للغير والسعي لتفهمه وتفهم ما يحيط به من العقبات والصعاب. فالرفق والرأفة والرحمة تمثلت عند القائد النبي الأمين تسري إلى القلوب وتتألفها وتحبب إليها الإيمان، مصداقا لقول الله عز وجل: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة، 129]. وروي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله يحب الرفق في الأمر كله”. وفي رواية للبخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: “يا عائشة! عليك بالرفق، وإياك والعُنفَ والفُحشَ” [رواه البخاري]. وعنها أيضًا رضي الله عنها عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ الرِّفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه” [رواه مسلم]. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: “من أعطي حظه من الرِّفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرِّفق حرم حظه من الخير” [رواه الترمذي وأحمد والبخاري في الأدب المفرد].

وعكس الرفق العنف وقانا الله منه، لا يأتي بخير أبدا بل هو باب مشرع على الشرور وسبيل خطير للآفات، ومدعاة للعداوة والبغضاء والإقصاء. الرفق بناء وصلاح والعنف هدم وتدمير. وفي الصحيح: “يؤتي الله على الرفق ما لا يؤتي على العنف”.

4- همة رجل وهمة امرأة

تأسس البيت النبوي على التعاون والمساندة لإرساء الرسالة المحمدية، ولتبليغ دعوة الله تعالى للعالمين. فكان نموذجا حيا يبشر بالبيت الإسلامي المنشود تأسيسه، تعايشا ومعاشرة تربية ودعوة. همة رجل تلقى الوحي وانطلق يدعو الناس إلى الهدى ودين الحق، في اقتحام وثبات وعزم. يؤلف القلوب ويرص الصفوف، ويجمع النفوس، ويشحذ الهمم، في صبر وتحمل وإشفاق وتحبب، في لين ورفق وحسن معاشرة، فكان صلى الله عليه وسلم خيرا لأهله: “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي” [الجامع الصغير للإمام السيوطي، ورواه ابن عساكر]. عن أنس رضي الله عنه قال: “خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أفٍّ قَطُّ، وما قال لشيء صنعته لِمَ صنعته، ولا لشيء تركته لِمَ تركته…” [رواه الترمذي]. كما كان مثالا يحتذى في رفقه بزوجاته وأهل بيته وصحبه، بل بخصمه… إنها همة الرسول الرؤوف الرحيم بالإنس والجن والحيوان والطير… فبه نقتدي ونتأسى، ومنه نتعلم ونتربى.

وتتكامل همة الرجل مع همة المرأة لضمان الاستقرار الأسري والدعوي، فقد كانت همة المرأة وثباتها وعطاؤها الأساس الخلقي والمعنوي الذي ركز عليه الإسلام. ولنا في أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها المثال الأسمى في همة المرأة وصبرها وتحملها وإحاطتها رسول الله بعنايتها، قبل وبعد البعثة المحمدية، تزوجت، وأنفقت، وزوّدته لغار حراء، وكانت أول من آمن به وصدقه وثبته، وواسته لما عاد إليها من الغار يرجُف من رؤية الملك الذي جاءه بالوحي، فقالت له وقد بث إليها أنه خشي على نفسه: “كلا! أبشر! فوالله لا يخزيك الله أبدا! إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمِل الكَلَّ، وتكسِبُ المعدوم، وتَقْرِي الضيف، وتعين على نوائب الحق” [رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنه]. يقول الإمام رحمه الله: “قمة الكمال وكمال المثال في خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها التي نصدُق إن قلنا إنها نهض بها الإسلام كما نصدق إن قلنا إنها نهضت بالإسلام. ويجيئها وسام الشرف من رب العالمين. مثال وخيال عند القوم المجرمين، وعندنا نحن حق اليقين. روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتتْ ومعها إناء فيه إدام -أو طعام أو شراب- فإذا أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني. وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب” [7]. كما أن المؤمنة الصالحة كانت تقف إلى جنب الرجل لكي يسمو بنفسه فلا يتدحرج ولا يتقهقر ولا يزيغ عن الجادة. فكانت الواحدة منهن تخاف الله فتقول: يا أبا فلان! أطعمنا حلالا، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار وغضب الجبار. يقول الإمام رحمه الله: “مساندات كن ومانعات للرجل عن التدحرج. بل ومنهن من تقتحم العقبة لا تنتظر الرجل أن يسحبها معه كما يُسحب التابع. كم من صحابية أسلمت وتخلت عن المشرك الزوج، والمشرك الأب، والمشركة الأم، والمشركين العشيرة والقوم والحماية والرزق. كم منهن هاجرن إلى الله ورسوله ابتداء من ذاتهن وهمتهن ومبادرتهن” [8].

5- معيار التكافؤ

من أساسيات الاستقرار الأسري إدراك الطرفين: الزوج والزوجة أنه لا تفاضل بينهما وأنه لا ترجحُ كفة الرجل ولا كفة المرأة إلا بالتقوى. إن أكرمكم عند الله أتقاكم [سورة الحجرات، 13]. وقد حدد الحديث النبوي الشريف معيار التكافؤ الزواجي في قوله صلى الله عليه وسلم: “إذا خطبَ إليكم من ترضون دينه وخُلقه فزوجوه. إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض” [رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه]. يقول الإمام رحمه الله: “والدين والأخلاق هما معيار التكافؤ، إذا اختلاَّ أو اختل أحدهما في الرجل أو المرأة اختل توازن الأسرة والمجتمع، وانفرط النسق، وطاشت كِفتها. والله لا يحب الظالمين” [9]. ويعقب من جانب آخر بقوله: “أما التكافؤ في الحقوق والواجبات هنا في الدنيا فمحكوم بشريعة مفصلة ثابتة ثبوت الفَلَك الدَّوّار وثبوت نواميس الله في الكون. فإذا وقع التحول بالهبوط أو الانحراف في أشخاص ذوي الحقوق وفي بيئتهم الاجتماعية والعالمية فإن مرونة الاجتهاد تُكيف ما بين الواقع وبين المطلوب الشرعي بالتدرج والتقريب وإعمال وازعَيْ القرآن والسلطان” [10]. وفي قوله تعالى: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [سورة البقرة: 228]. يقول رحمه الله: “وما كان من «الدرجة» التي أعطاها الله عز وجل للرجال على النساء بصريح النص القرآني هي ترجيح لكِفة الرجال في ظاهر الأمر. وهي إنما هي تثقيل لميزان الرجل بمثاقيل المسؤولية، وتخفيف عن أعباء المرأة التي ندبها الشرع لمسؤولية عظيمة يصرح بها الشرع ويلوح إليها ويضمِّنها أحكام التوزيع للواجبات والمسؤوليات بين الرجل والمرأة” [11]. وليست هذه الدرجة نافية لما يحكم البيت الإسلامي من متانة وتلاحم وتآزر، جسدها بيت النبوة حيث العلم وحيث الفضيلة وحيث القدوة، وحيث تماسك الأسرة الإسلامية، وتآزر الزوج والزوجة، وصبرهما على لأواء الحياة، في أجلى مظاهرها وأنصعها وأقواها [12].

مسك الختام

ونختم بقول الإمام رحمه الله: “الحياة الدنيا دار بلاء، يخفف وطأة البلاء تعاون المرأة والرجل المؤمنين على الصمود أمام الشدائد وعلى اقتحام العقبة بالعدل في الغُنْم والغُرم، وبالإحسان والبر والتسامح والإسعاف الحنون والمودة والرحمة. تشد المرأة عضُدَ الرجل وإن اقتضى الأمر تنازلها عن بعض حقوقها تكرما منها، ويعترف الرجل بفضلها فيسابقها إلى الإحسان.

إذا أنس الرجل الزوج أن المرأة الزوج ركن شديد يعتمد عليه، واطمأنت هي إلى أن رفيق الرحلة ثقة وحضن أمان فقد تأسست اللبنة الأم في البناء الاجتماعي. أهم من بناء المجتمع بناء معاد المرأة ومعاد الرجل في الآخرة. ذلك المعاد مادة بنائه العمل الصالح” [13].


[1] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات، ج 2، ص 173.

[2] المصدر نفسه، ص 235.

[3] نفسه، ص 256.

[4] نفسه، ج 1، ص 73.

[5] ياسين عبد السلام، العدل – الإسلاميون والحكم، ص 172.

[6] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات، ج 1، ص 72.

[7] نفسه، ص 78.

[8] نفسه، ص 79.

[9] نفسه، 208.

[10] نفسه، ص 203.

[11] نفسه 203.

[12] نفسه، ص 209.

[13] نفسه، 216.