” أستاذي راك عزيز”

Cover Image for ” أستاذي راك عزيز”
نشر بتاريخ

جميل أن يُفكَّر في تحسين العلاقة التي تربط بين المعلم والمتعلم بعد أن أصبحت ترضخ لمزايدات يصور فيها التلميذ الضحية والأستاذ الجلاد، وتارة العكس. هل العلاقة التي تربط بين هذين المكونين، المعول عليهما في عملية التغيير والتنمية، فقدت قدسيتها إلى هذا الحد، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون نقاشا مفتعلا وصورة مشوهة تسوِّق لها وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية التي عجت هي الأخرى في الآونة الأخيرة بفيديوهات تصور بشاعة رباط يكون فيه الأستاذ غالبا وحشا كاسرا مستعدا لاغتيال براءة المتعلمين وسفك دمائهم على نصب المثل الضائعة؟

خبِرت لسنوات هذا المجال، وتعلمت قطعا أن القولبة في مثل هذه المواقف لا تفيد، أي أن تجعل القوالب جاهزة لتحكم بها على الأطراف المتباينة. لا من قاعدة بدون استثناء، والشاذ حتما لا حكم له.

التعليم رسالة سامية غالية، هو استمرار لوظيفة المرسلين عليهم السلام الذين ابتعثهم الله لدلالة الناس على الخير وتعليمهم الصواب، هو رسالة لقدسيتها جعل الله عز وجل جزاءها الجنة لمن أخلص وأحسن.

من مات يطلب العلم مات شهيدا فكيف بمن مات وهو يبذله ويذيب زهرة العمر في تبليغه والدلالة عليه.

ليس العدل يبيح الانحياز لطرف دون طرف، بل طلب الحق غاية، ووضع الأصبع على الداء سبيل لتلمس العافية.

إن كنا نشكل طرفا للعملية التعليمية التعلمية فإن أبناءنا يشكلون طرفها الآخر، وغد الإسلام ينتظر حركة فاعلة من الطرفين لإماطة اللثام عن واقعٍ تردى حتى أضحى بعض المتعلمين الذين لا يفصل بينهم وبين التعليم العالي إلا خطوة أو خطوتين لا يقيمون وزنا للقيم ولا للدراسة. يطغى الشغب أحيانا في ظل أقسام مكتظة، ومناهج دراسية تنوء بحملها الرقاب، وبغلاف زمني قد لا يستوعب طول المقررات، وخريطة مدرسية لا تسكت عن الكلام المباح مع بزوغ فجر جني الثمار، فتجيز الكفء وخلافه، وتسمح بتخطي المراحل الدراسية استنادا إلى معايير زائفة.

يُضيّق على الأستاذ في لقمة عيشه، وقد يبحث عن الوسائل البديلة لسداد الفواتير، ويمنع من التعبير عن التشكيات والمظالم، ومن النضال لتحقيق المطالب، تحت ضغط الاقتطاعات. يجلس الكل فوق فوهة بركان خامد قابل للانفجار في أية لحظة.

تسوء الظروف الاجتماعية وتنعدم العدالة، فتطغى معها سلوكيات مشينة تحول جانبا من مؤسساتنا التعليمية من حصون للتربية على القيم إلى مجال يحتاج فيه إلى دعم القيم، يصبح أمرا عاديا أن يدخل المدرسة العربيد السكير والمخدر المهلوس والعنيف المتحاذق والمتعلم الجاد الجلد الصبور المقتحم للظروف المتخطي للعقبات.

تسوء الأخلاق وتنحدر وتعبر بوضوح عن واقع طغى في المجتمع، أنموذجه المصغر ما يقع أحيانا داخل المؤسسات التعليمية. تظهر آثار المجتمع الفتنوي في فساد السلوك والعجرفة والمكر والسخرية… كل ذلك نتاج مجتمعات الفتنة البعيدة عن الله تعالى، المنسلخة عن قيمها الثابتة، المتأثرة بالنفوذ الحضاري الوافد ومد العولمة، نتاج تربية عقيمة، ولا تعليم يتنزل في وعاء بلا تربية، نتاج منظومة تربوية فاشلة قد تراهن على الكم ولا تُعِد لسوق العمل.

لا تقدم يرجى دون إصلاح التعليم، ولا تعليم يرجى دون إصلاح منظومته، والمصالحة بين كل أطرافه، في أجواء المحبة والرأفة والمسؤولية واللين والصرامة الأبوية، وإحياء العلاقات على النمط الإسلامي حيث العلم والحلم، والقوة الرفيقة والأدب الجم، حيث الاحترام والتوقير، حيث النظام والاستقرار وحسن التدبير، حيث روح الأخوة والتعليم الجاد والمسؤولية البانية، حيث تعزيز القيم ومحاربة الجهل، حيث التقوى والتواضع، حيث الحياء وتقدير المسؤوليات، حيث رعاية الأمانات وتحرير المبادرات، حيث تشجيع الطاقات ومعالجة المنكرات، حيث توقير الصغير للكبير، ورحمة الكبير للصغير، حيث إعطاء العالم حقه والأخذ الرحيم بيد المتعلم، حيث سيادة الخلق القرآني والرحمة النبوية والربانية الإيمانية والخبرة العالية، حيث خشية الله والطمع فيما عنده، حيث التربية على الأذواق والأشواق، حيث بناء الأجيال الرسالية القوية الأمينة الخادمة للغاية الإيمانية والحقيقة الوجودية، لا الرقيقة الدين المتمردة على القيم، الخبيرة في الحذلقة الجوفاء.

ضنك العلاقة، حين يطفو بين أطراف العملية التعليمية التعلّمية، لا ينتج مدارس حية بالعلم والحلم والعمل والخبرة. قد تُمحى الأمية الأبجدية لكنها أبدا لن تسهم في هدم ما خلفه فينا الاستعمار من أنانية مستعلية، وعجرفة مفرطة، وثقافة تجريدية مستلبة بعيدة عن أخوة الإسلام، تملأ الأدمغة بالأفكار، والقلوب خواء من محبة الله تعالى وخشيته.

ليكن التلاميذ والطلبة والأساتذة بناة الإسلام في الصف الأول، وليكن الاعتماد عليهم مدعاة لشعورهم بالمسؤوليةا) 1 .

وسط هذا الركام، لا نَعدِم مروءات ونماذج صالحة للاقتداء، فخيرية الأمة لا تنقطع، لكن ما سبيل تعميمه حتي يصبح الأصل؟

ختاما، كما نبجلك أخي الأستاذ نقدرك ابننا المتعلم، نمد الأيادي مدرِّسين ومدرَّسين، لعل بادرة خير تكون مخبوءة في خبايا الفطرة، مطمورة تحت ركام التحديات وضغط الثقافات الواردة، يُظهرها الله الوهاب فتُنتج بإذنه وتثمر، نغير السلوك ونلزم أدب التعليم والتعلم، ونُوطن العلاقات حتى تعكس مضموننا الإيماني ومنهاجنا التربوي وتقديرنا لواجب الرعاية والمسؤولية.

وتحية لكل من غرس في تربتنا حب العلم، وعلمنا نقش الحروف فصارت جملا، لكل واحد من هؤلاء نقول: أستاذي راك عزيز)، وتحية لكل من استرعانا الله عز وجل عليهم من أبنائنا التلاميذ، محور التربية والتعليم، رصيدنا النامي في الدنيا للآخرة، ولكل واحد منهم نقول: تلميذي راك عزيز).


[1] لإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، إمامة الأمةص182.