لقد تألمت شديد الألم وانفطر قلبي حزنا وكمدا لما يعانيه أبناء وطننا الحبيب من ضيق ذات اليد، وفقر مدقع لا يجدون ما يسدون به رمقهم. وقهر من قبل سلطة لا ترحم، كبلت حرياتهم وقيدت مبادراتهم ونهبت ثرواتهم ومقدراتهم.
مشهد أصبح من المشاهد اليومية، حيث نرى نساء حوامل يلدن في العراء دون أن يجدوا لهن سريرا بمستشفى حكومي بئيس، وأخريات يلقين حتفهم إما غرقا أو حرقا أو رميا بالرصاص أو اختناقا من أجل حفنة دقيق.
ينزف قلبك دما وتتدفق عيناك دموعا منهمرة عندما ترى الرجال وهم جبال يبكون من شدة الجور والقهر دون أن يجدوا من ينصت لمظلمتهم وينصفهم.
وأنا أتألم لحال وطننا الحبيب وأتأمل ما آلت إليه الأوضاع، حضرني موقف جلل من مواقف الفاروق عمر ابن الخطاب رضي الله عنه. موقف تقشعر منه الأبدان وتنحني له الهامات تعظيما وتقديرا، بل وجب على كل مسؤول وراع أن يجعله قدوة ونبراسا.
خرج سيدنا عمر بن الخطاب في ذات ليلة من الليالي من بيته وقد أرخى الليل سدوله، ونامت الأعين-إلا عين الرحمن لم تنم- وكان معه عبد الرحمن بن عوف. فوجد نورا خافتا في ضاحية خيمة بعيدة، فلما دنا منها وأرخى سمعه لمن بداخلها وجد غلمانا يبكون ويصرخون ومعهم عجوز قد وضعت قدرها على النار وصارت تحركه، فاقترب منها عمر ثم سألها عن حالها. قالت هؤلاء أبنائي يصرخون من الجوع وليس معي طعام فوضعت القدر على النار وجعلت بها حصى حتى ألهيهم عن الطعام فينامون.
ثم قالت: لك الله يا عمر ماذا تقول لربك غدا؟
وهنا دارت الدنيا وضاقت في قلب وروح الفاروق، ثم قال لها وما أدرى عمر بحالك؟ قالت: يتولى أمرنا ويغفل عنا؟.
قام عمر من فوره وذهب إلى خازن المال وأيقظه من نومه ثم قال احمل علي من أكياس الدقيق والزيت، فنظر الرجل من الدهشة وقال أحمل عليك أم عنك يا أمير المؤمنين فصاح به عمر وقال بل احمل عليّ فكررها ثلاثا والغلام لم يتمالك نفسه ولسانه من الدهشة وصار يردد أحمل عنك أم عليك يا أمير المؤمنين؟
فقال عمر الفاروق احمل عليّ أتحمل عني أوزاري يوم القيامة…
ثم حملها عمر الفاروق على كتفيه وذهب مسرعا إلى خيمة العجوز…
أوقد النار ونفخ في النار حتى تستعر.
يقول: عبد الرحمن بن عوف والله إني أرى الدخان يخرج من خلال لحيته، ووضع القدر على النار ثم وضع الدقيق والزيت وصنع الطعام والمرأة تنظر بعين الدهشة، فلم تتمالك نفسها إلا أن قالت: والله إنك أحق بالخلافة من عمر، ثم تولى إلى طرف الخيمة وقد ازداد البرد فقال له عبد الرحمن بن عوف، لنذهب يا أمير المؤمنين. فقال والله لا أذهب عنهم حتى أراهم يضحكون كما جئتهم يبكون، وبعد أن شبع العيال وذهب عنهم الجوع وسمع ضحكاتهم تتعالى، قال للمرأة تعالي إلى عمر غدا حتى ينظر في حالك،
ثم ذهب عمر إلى المسجد فقد حان وقت الفجر يقول عبد الرحمن بن عوف والله لم نستطع أن نسمع صوته في الصلاة من شدة بكائه.
ثم جاءت المرأة من الغد ورأت عمر الفاروق جالس وعن يمينه علي بن أبي طالب وعن يساره عبدالله بن مسعود وكلا منهما يقول له، يا أمير المؤمنين، فتملك الصمت المرأة ولم تقدر على الكلام فقال لها عمر تعالي يا أمة الله، بكم تشتري مظلمتك التي ظلمتك بها، فلم تقدر على الكلام، ثم نظر إلى عبد الله بن مسعود وقال له أكتب: هذا كتاب من عبد الله عمر بن الخطاب بأنه قد اشترى مظلمة المرأة بستمائة درهم، وشهد بذلك علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، ثم قال لإبنه عبدالله إذا مت فضعوا الكتاب في قبري حتى ألقى به الله تعالى.
و في مشهد ثان منقطع النظير، لما اشتد الجوع بالناس في عام الرمادة، حلف عمر لا يأتدم بالسمن حتى يفتح على المسلمين عامه هذا.
فصار إذا أكل خبز الشعير والتمر بغير إيدام يقرقر بطنه في المجلس فيضع يده عليه ويقول:” إن شئت قرقر وإن شئت لاتقرقر، مالك عندي إيدام حتى يفتح الله على المسلمين.”
نعم نم سيدي قرير العين، يا خليفة رسول الله لقد صدق من قال في حقك عدلت فنمت.